عُرف عن العميد قاآني أنه رجل قليل الكلام، لكن ذلك الحال تغير في الثالث من يناير/كانون الثاني 2020، عندما حل مكان اللواء قاسم سليماني كمسؤول العمليات خارج الحدود لفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني. ومثل سلفه، عمل قاآني على تجنيد اللغة الفارسية في مواجهة أعداء إيران، لكن إلى أي مدى يقوم بإرسال رسائل مشفرة للجمهور الإيراني، وربما حتى للخصوم، مثل إسرائيل والولايات المتحدة؟ في نهاية المطاف، أرسل سليماني رسالة نصية شهيرة إلى الجنرال ديفيد باتريوس، الذي كان حينها قائد القيادة المركزية الأمريكية، واستخدم على الأقل أحد خطاباته العامة لإرسال رسالة مشفرة لدونالد ترامب، الذى أصبح رئيسًا فيما بعد. وبدا أن سليماني كان في كلتا المناسبتين يشجع المسؤولين الأمريكيين على تجاوز وزارة الخارجية الإيرانية، وإقامة خط ساخن بين فيلق القدس والقيادة المركزية الأمريكية، أو حتى مع البيت الأبيض. ما هي الرسالة، إن كان هناك رسالة، التي يقوم قاآني بإيصالها في تصريحاته العلنية؟
من خلال استطلاع لمصادر فارسية وإنجليزية على الإنترنت، بما في ذلك بحث على محرك جوجل ومرصد البي بي سي للشرق الأوسط (BBC Monitoring Middle East) وقاعدة بيانات مجلات نور (Noor Mags database)، هناك 52 حالة مختلفة من الرسائل العامة قام بها قاآني في الفترة بين الثالث من يناير/كانون الثاني 2020 و20 نوفمبر/تشرين الثاني 2023. وقد اشتملت على 34 خطابًا عامًا، و16 من الرسائل المفتوحة والبيانات العامة المكتوبة، واثنتين من المحادثات الهاتفية المعلنة.
في 14 يوليو/تموز 2020، ألقى قاآني أول خطاب رئيسي له بصفته قائد فيلق القدس، وجاء ذلك بعد حوالي ستة أشهر على اغتيال سليماني، في الوقت الذي كان الجمهور الإيراني، أو على الأقل أنصار النظام، يتوقعون القيام بعمل انتقامي. في خطابه أمام “قادة المقاومة”، وهي إشارة محتملة إلى قادة وكلاء إيران وحلفائها الإقليميين، ذكر قاآني أن الحريق على متن السفينة المقاتلة يو إس إس بونهوم ريتشارد قبالة سواحل سان دييجو كان بمثابة عقوبة “إلهية” على سلوك الولايات المتحدة السيئ، وهى محاولة كوميدية لينسب لنفسه الفضل في وقوع حادث على متن سفينة حربية أمريكية.
ومع ذلك، وانسجامًا مع الأهداف الاستراتيجية الإيرانية المعلنة، طالب قاآني بشكل متكرر بانسحاب القوات الأمريكية من الشرق الأوسط. وهو أيضًا مهتم بالإضرار بمكانة الولايات المتحدة، وهو يعتقد بإمكانية تحقيقه من خلال إصابتها بخسائر صغيرة لجعل القوة العظمى تبدو ضعيفة في أعين حلفائها. في بعض الأحيان، تعهد بأن ينتقم من “أولئك الذين سفكوا دم الشهيد سليماني دون وجه حق”، وهو يدعي باستمرار أن الولايات المتحدة وإسرائيل “تفهمان فقط لغة القوة”. لكن خلال لقاءاته مع الميليشيا التابعة لفيلق القدس في العراق في عامي 2020 و2021، نُقل عنه أنه طلب منهم أن ينتظروا فرصتهم، وألا يعطوا الولايات المتحدة وإسرائيل أي مبرر لشن حرب. لا يبدو أن أيًّا من خطابات قاآني قد تضمن رسائل مشفرة للولايات المتحدة، باستثناء التناقض بين أقواله وأفعاله، ولكن من الممكن أيضًا أن مفتاح فك شفرة رسائله ليس أمرًا علنيًا.
بمعزل عن التبجح بالشجاعة، يلقي قاآني خطابات تكتيكية. في 29 سبتمبر/أيلول 2020، أغدق قاآني المديح لآية الله العظمى علي السيستاني، الذي يتزعم مجموعة كبيرة من الأتباع الشيعة في العراق والعالم. يعارض السيستاني الجمهورية الإسلامية بما أنها تمثل حكمًا قائمًا على أسس عقائدية، وتعرض للنقد على صفحات صحيفة كيهان المتشددة في فترة خطاب قاآني. من خلال الإشادة بالسيستاني، كان قاآني على الأرجح يأمل في السيطرة على الضرر الذي تسببت فيه الافتتاحية الهجومية لصحيفة كيهان، والتي خاطرت بخلق تحديات جسيمة لفيلق القدس في العراق.
في خطاب تكتيكي آخر، تحدث قاآني عن طالبان، التي كان لإيران علاقات مضطربة معها على مدى سنوات. في خطابه أمام البرلمان الإيراني في السابع من سبتمبر/أيلول 2021، حث قاآني النواب على مد يد الصداقة لطالبان، خصم إيران لفترة طويلة. بعد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان في أغسطس/آب 2021 وتولي طالبان الحكم، أراد قاآني من النواب أن يدركوا حاجة إيران للتعايش السلمي مع حكام أفغانستان الجدد دون أن يبدو أنهم يتخلون عن حلفاء إيران التقليديين هناك، مثل الهزارة الشيعة والطاجيك الناطقين باللغة الفارسية. وصرح قاآني أن الولايات المتحدة هي التي “تآمرت” لخلق “انقسامات بين إيران الشيعية والعالم السني”، وأن أفضل طريقة لإحباط “المؤامرة” هي بمد يد الصداقة لطالبان.
بخصوص قضايا السياسة الداخلية، تظل تصريحات قاآني العامة أكثر إثارة للجدل وأقل كياسة من تصريحات سلفه. فبخلاف سليماني، الذي اهتم بشكل كبير بمخاطبة كل المجموعات السياسية، انتقد قاآني، في خطابه في مايو/أيار 2022، الإصلاحيين الإيرانيين، وتحديدًا أنصار الرئيس السابق محمد خاتمي، وقال “إنه لم يكن لديهم فكر المقاومة أو إنهم قطعوا علاقتهم مع الثورة”. وقال في تصريح أكثر جدلاً في 21 ديسمبر/كانون الأول 2022 بعد احتجاجات عمت أنحاء البلاد ضد فرض الحجاب: “لا يمكنك أن ترى أبدًا امرأة شريفة من شمال طهران لا تلبس الحجاب”. كان هذا التصريح مناقضًا تمامًا لمقولة سليماني الشهيرة: “حتى الفتاة التي لا ترتدي حجابًا مناسبًا هي ابنتي”. وبينما عمل سليماني على حشد الإيرانيين بشكل كبير لصالح القضايا القومية، كانت تصريحات قاآني مثيرة للانقسام. ومن منطلق إدراكه لخطئه، صحح اتجاهه في الخامس من يناير/كانون الثاني 2023 قائلا: “حتى أولئك اللاتي لا يرتدين الحجاب الممناسب يمكن أن يكن شيعيات مخلصات”.
كانت تسعًا من بين 16 رسالة مفتوحة وتصريحًا عامًّا لقاآني هي رسائل تعزية عقب وفاة شخصيات مختلفة، بما فيها محسن فخري زاده، وهو عالم نووي إيراني، ورمضان شلح، الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية، وأحمد جبريل، وهو مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين–القيادة العامة، والزعيم الديني العراقي آية الله العظمى محمد سعيد الحكيم. تعتبر تصريحات قاآني المتعلقة بفخري زاده، الذي نُسب اغتياله لإسرائيل، مثيرة بشكل خاص. بينما تعهد بالانتقام في الرسالة المفتوحة، خلال زيارته في الأول من ديسمبر/كانون الأول 2020 للبنان، فإن قاآني بحسب المعلومات الواردة، طلب من قادة حزب الله اللبناني عدم الانتقام لمقتل فخري زاده، وحثهم على تجنب استفزاز إسرائيل.
تتضمن الرسائل المفتوحة المتبقية تقديم تهانٍ مفروضة للفروع الأخرى للجيش الإيراني، ورسالة تهنئة في سبتمبر/أيلول 2022 للرئيس إبراهيم رئيسي بعد عرض صورة سليماني خلال مخاطبته الجمعية العامة للأمم المتحدة. وما هو أكثر أهمية من الناحية السياسية، هو رسالة قاآني المفتوحة في 20 مايو/أيار 2021 الموجهة لـ محمد الضيف، المعروف أيضًا بأبي خالد، وهو القائد العسكري الأعلى للجناح العسكري لحركة حماس. خلال الحرب الأهلية في سوريا، كان فيلق القدس وحركة حماس على طرفي نقيض، مع دعم حماس للإخوان المسلمين في سوريا، وكانت إشادات قاآني التي عبر عنها بمثابة إشارة علنية لإصلاح العلاقات بين المنظمتين. كان الضيف هو أيضًا من وجه له قاآني رسالة مفتوحة في 16 نوفمبر/تشرين الثاني. في تصريحاته العلنية الأولى على هجوم حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول على إسرائيل، كتب قائد فيلق القدس، “لقد كشفتم بشكل واضح عن مظاهر ضعف وهشاشة النظام الصهيوني الغاصب، والذي هو أوهن من بيت العنكبوت… لقد برهنت هجمات المقاومة على قوات ومدرعات العدو أن المقاومة في غزة قادرة على المبادرة والابتكار”. بعبارات أكثر غموضًا ومبهمة تتعلق بأفعال إيران، خلص قاآني للقول، “بصفتي عضوًا من بين الداعمين الفاعلين والراعين للمقاومة، نؤكد لكم أننا سنفعل كل ما يجب علينا القيام به في هذه المعركة التاريخية”.
اختار فيلق القدس أن ينشر اثنين فقط من محادثات قاآني الهاتفية: محادثة تمت في 15 مايو/أيار 2021 مع إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، ومحادثة في اليوم التالي مع زياد النخالة، الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي. في هذه المحادثات التي جرت على خلفية هجمات حماس والجهاد الإسلامي الصاروخية على إسرائيل والغارات الجوية الإسرائيلية الانتقامية على قطاع غزة، عبر قاآني عن إشادته “بالشعب الفلسطيني”، و”دعم إيران لحقوق الشعب الفلسطيني في مواجهة جرائم الصهاينة”.
في الوقت الذي تقدم فيه دراسة خطابات قاآني ورسائله المفتوحة وتصريحاته العامة ومحادثاته الهاتفية المعلنة بعض الأفكار عن المبادئ الأساسية لتفكيره ومهاراته في التواصل للتعامل مع المشاكل السياسية الحساسة، إلا أنها لا تكشف عن رسائل مشفرة على نمط رسائل سليماني للولايات المتحدة وإسرائيل. قد لا يوجد رسائل من هذا القبيل، أو ربما لم يتم اكتشاف مفتاح فك شفرة تصريحات قاآني بعد.
إن الآراء الواردة هنا هي آراء خاصة بالكاتب أو المتحدث، ولا تعكس بالضرورة آراء معهد دول الخليج العربية في واشنطن أو موظفيه أو مجلس إدارته.