في شهر فبراير/شباط 2025، تحل الذكرى السنوية الثمانون للقاء التاريخي الذي جمع بين الملك عبد العزيز آل سعود والرئيس فرانكلين روزفلت على متن البارجة يو إس إس كوينسي (USS Quincy) في منطقة البحيرات المرة في قناة السويس. أرسى ذلك اللقاء الأسس لعلاقات تقوم على التوافق الاستراتيجي والاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. لكن قصة العلاقات بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة تعود إلى ما قبل عام 1945، إذ بدأت قبل ذلك باثني عشر عاماً، وسط قيظ الصحراء العربية ووهج رمالها الساحرة.
في عام 1933، وبينما كان العالم يمر بحالة من الغموض خيمت على سنوات ما بين الحربين العالميتين، حصلت شركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا (Standard Oil of California) على امتياز التنقيب عن النفط في المنطقة الشرقية في السعودية. آنذاك، كانت المملكة الفتية تبحث عن شريان حياة اقتصادي، في حين كانت الولايات المتحدة، التي كانت ما تزال تصارع أزمة الكساد الكبير، تبحث عن مصادر جديدة للطاقة. وفي عام 1938، ظهر النفط في بئر الدمام رقم 7، وهكذا تم أخيراً اكتشاف “الذهب الأسود”. لقد كان ذلك إشعارًا ببداية شراكة سعودية-أمريكية أسهمت في رسم معالم العالم الحديث.
إلاّ أن اكتشاف النفط لم يكن أمراً تقنياً فحسب، وإنما كان أمراً إنسانياً، تجسد في الشراكة بين عالم الجيولوجيا الأمريكي ماكس ستاينكي (Max Steineke) والدليل الصحراوي السعودي خميس بن رمثان. لقد أقام هذان الرجلان، القادمان من عالمين مختلفين تماماً، جسراً من الثقة أساسه الخبرة والمثابرة، وبذلك جسّدت قصة تعاونهما جوهر العلاقات السعودية-الأمريكية. إنها ليست علاقةً بين حكومتين فحسب، وإنما بين شعبين امتدت الروابط بينهما لتتجاوز مسائل النفط والأمن.
الدبلوماسية الثقافية السعودية-الأمريكية: حقبة جديدة من التبادل والنفوذ
لطالما كان التبادل الثقافي قوة خفية تربط بين البلدين. ومع طرح رؤية 2030، التي تعد خارطة الطريقة السعودية الجريئة للمستقبل، فإن الثقافة مرشحة لأن تصبح ركيزة أساسية للشراكة الاستراتيجية السعودية-الأمريكية.
تتمتع الثقافة الأمريكية بجاذبية كبيرة لدى الجمهور السعودي، إذ أسهمت في تشكيل نظرة السعوديين للعالم من خلال أفلام هوليوود، والروايات الأكثر مبيعاً، والأسماء الموسيقية الأمريكية التي أصبحت بمثابة أيقونات عالمية. لكن الثقافة ليست طريقاً أحادي الاتجاه. ومن هنا فخلال السنوات القليلة الماضية، لم تعد السعودية تستهلك الثقافة وحسب، وإنما برزت أيضاً كلاعب مؤثر في المشهد الثقافي العالمي.
يتجلى هذا التحول في الحضور الدولي غير المسبوق للمبدعين السعوديين. لقد أسهمت المعارض الفنية الفردية التي أُقيمت في الولايات المتحدة، مثل معرض “مدن رمزية” لأحمد ماطر ومعرض “التفكير المضياف” لعبد الناصر غارم، في تحدّي السرديات القديمة، ووضعت الفن السعودي المعاصر في قلب النقاش الفني العالمي. وفي الوقت نفسه، تشهد السينما السعودية نهضة حقيقة، تقودها أستوديوهات بارزة مثل “تلفاز 11″، الذي توثق منتجاته المتنوعة قصصاً سعودية أصيلة لطالما كانت غائبة عن الشاشة العالمية. وبفضل تسجيلها أسرع نمو في مبيعات شباك التذاكر عالمياً، فإن السعودية في طريقها لتصبح قوة عملاقة في صناعة السينما العالمية. وبالإضافة إلى ذلك، تضع الموسيقى السعودية بصمتها في هذا التحول. فقد قدّمت الأوركسترا والكورال الوطني السعودي عرضاً تاريخيًا في دار أوبرا متروبوليتان في سبتمبر/أيلول 2023، ممّا أتاح لجمهور نيويورك التعرف على التراث الموسيقي الثري والمتنوع في المملكة، وصلاته الوثيقة بالمشهد الموسيقي العالمي.
وفي السياق ذاته، يعد معرض الرياض الدولي للكتاب 2024 شاهداً على هذه الحقبة الجديدة من التبادل الثقافي. ففي برنامج ثقافي تم تنظيمه من خلال شراكة سعودية-أمريكية، انخرط مفكرون أمريكيون بارزون، مثل فريد زكريا (Fareed Zakaria) ووالتر آيزكسون (Walter Isaacson)، وجوناثان فرانزن (Jonathan Franzen) وكوامي ألكساندر (Kwame Alexander)، في مناقشات صريحة وعميقة مع الجمهور السعودي. وبعد أن ألقى زكريا كلمته حول كتابه الأخير “عصر الثورات” أمام جمهور يتألف من حوالي 350 شخصاً، قال “هناك نهضة ثقافية أصبح معها الناس مستعدين لتقبل الثقافات الأخرى والتفاعل معها”. وأيده آيزاكسون في هذا الطرح، مشيراً إلى أن “المعرض قد احتوى على كتب أكثر من أي معرض كتاب آخر في العالم. أُدرك الآن كم ستكون العقود القادمة في السعودية نابضة بالحيوية”.
تسمح هذه اللحظات للسعوديين باستعادة سرديتهم الخاصة، وتجاوز الصور النمطية التي عفا عليها الزمن، من أجل التواصل مع العالم، وتقديم ثقافتهم وتطلعاتهم وفق رؤيتهم الخاصة. وتجسد هذه النقاشات المتبادلة قوة الدبلوماسية الثقافية في تحدي الفرضيات وبناء الجسور وخلق مسارات جديدة للتعاون. كما أنها تسلط الضوء على منظور أوسع للعلاقات السعودية-الأمريكية، وهو منظور يضع التبادل الثقافي في قلب الشراكة بين البلدين، لا سيما أن السعودية تعمل بشكل دؤوب على صياغة نهضتها الثقافية.
النهضة الثقافية لرؤية 2030: إنه الاقتصاد (الإبداعي)!
تشكل الاستراتيجية الوطنية للثقافة، التي أُطلِقَتْ في عام 2019، حجر الأساس في عملية التحول الإبداعي في المملكة، حيث أسست منظومة شاملة تغطي 16 قطاعاً ثقافياً فرعياً، تحت إشراف هيئات متخصصة، وبدعم من عدة مؤسسات رئيسية أخرى. تشمل هذه القطاعات المتاحف والتراث والأفلام والموسيقى والآداب والفنون الأدائية والأزياء والتصميم، ضمن قطاعات أخرى. وتستهدف الاستراتيجية على مدى السنوات القليلة القادمة توفير أكثر من 100 ألف فرصة عمل، وزيادة نسبة مساهمة قطاع الثقافة في الاقتصاد لتصل إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي. وتقود هذا النمو الطموح محفظة تضم أكثر من 500 مبادرة، مدعومة بتدفق متزايد للنشاط الاستثماري، حيث تم تحديد أنشطة بقيمة 2.5 مليار ريال سعودي (حوالي 666.6 مليون دولار) للعمل على تحقيق النمو في هذه القطاعات.
ولكنْ ثمة تحول أعمق يكمن خلف هذه الأرقام، تحوّل فكري وثقافي وإبداعي لا يقتصر تأثيره على تشكيل الاقتصاد فحسب، وإنما يشكّل سردية سعودية جديدة. فالنهضة الثقافية السعودية متجذرة بعمق في الشعر الجاهلي، والتقاليد الفكرية الإسلامية، وتراث البادية، والتعابير الثقافية المتنوعة بتنوع مناطق المملكة المتعددة. كما أنها تحتفي بالتفاعل المتجدد والمستمر للهوية الثقافية الحديثة في السعودية مع المؤثرات العالمية. وأحد أبرز الأمثلة على هذا التفاعل الفكري الخلاّق هو مؤتمر الرياض للفلسفة، حيث يفتح المجال لحوار معمّق حول الهوية والأخلاق والجماليات. يعكس هذا المؤتمر حواراً وطنياً لا يهدف فقط لاستعادة الثقة الثقافية، بل يسعى أيضاً للتفاعل مع الأفكار العالمية.
كما يساهم هذا التحول في إعادة تشكيل معنى أن يكون المرء سعودياً. فمن خلال الاستراتيجية الوطنية للثقافة، تعمل السعودية على تشكيل هوية وطنية تحافظ على ارتباطها العميق بالتقاليد مع انفتاحها على المستقبل. ويتجلى ذلك في مبادرة “الأعوام الثقافية“، والتي تسلط الضوء سنوياً على مظهر مختلف من مظاهر التراث السعودي- من الاحتفال بالقهوة السعودية في عام 2022، والشعر العربي في عام 2023، إلى الحرف اليدوية في عام 2025. إن الاعتراف بأهمية هذه الموضوعات التراثية والثقافية، وإعادة إحياء أشكال فنية كانت مهمشة في السابق يشيران إلى التحول نحو سردية ثقافية أكثر شمولية ومتعددة الأبعاد. إنها لحظة تعريف للذات، تنفتح فيها السعودية على العالم، لتعيد تقديم نفسها وفق رؤيتها الخاصة.
تهدف الاستراتيجية الوطنية للثقافة لجعل السعودية تتبوأ مركزاً ريادياً على الصعيد العالمي في مجال الثقافة والصناعات الإبداعية. واليوم، يعتبر بينالي الدرعية للفن المعاصر، وبينالي الفنون الإسلامية، ومهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، بعض الأمثلة على المبادرات التي تعزز دور السعودية كمركز ثقافي عالمي. وبحلول عام 2030، سيكون قد تم افتتاح 28 متحفاً جديداً (بما في ذلك متحف “الذهب الأسود”)، وإنشاء 153 مكتبة عامة (تسمى “البيوت الثقافية”)، واستضافة أكثر من 100 إنتاج سينمائي دولي. إن المشاريع البارزة مثل العلا: أكبر متحف حي في العالم؛ والدرعية: مهد الدولة السعودية الذي يتم تطويره وتقديمه بشكل جديد؛ ونيوم: العاصمة المستقبلية للثقافة والإعلام؛ والقدية: وجهة رئيسية للترفيه والفنون الأدائية، كل ذلك يعكس طموح المملكة في تشكيل ملامح المشهد الثقافي العالمييمتد هذا التحول إلى ما هو أبعد من حدود السعودية، فالمملكة تتعاون بشكل فعال مع شركاء استراتيجيين لتوسيع منظومتها الثقافية. ومن هنا، فعبر منظمات ثقافية أمريكية كبرى مثل مؤسسة سميثسونيان (Smithsonian Institution)، وأستوديوهات هوليوود، وأكاديميات إدارة الفنون، ثمة إمكانات كبيرة لإطلاق مشاريع سعودية-أمريكية مشتركة تعزز التبادل الثقافي والإبداع والنمو الاقتصادي. وفي هذا الصدد، تعد تنمية القدرات أولوية رئيسية، حيث تسعى السعودية لتطوير المواهب لمواكبة النمو المتسارع في الاقتصاد الإبداعي، وتعزيز تأثيرها على الساحة العالمية.
لقد بات الزخم الذي يقود هذه النهضة الثقافية السعودية واضحاً على الساحة العالمية. ففي قمة مجموعة العشرين (G20) عام 2020، تولت السعودية قيادة الجهود الرامية لإدراج الثقافة على الأجندة الاقتصادية العالمية بهدف ترسيخ مكانتها كركيزة للتنمية المستدامة. كما لعبت السعودية دوراً قيادياً في مؤتمر موندياكلت (MONDIACULT) 2022 التابع لمنظمة اليونسكو، وهو أكبر مؤتمر للسياسات الثقافية في العالم، مما يعزز التزامها بدعم الحوار الثقافي العالمي. وفيما تلوح في الأفق أحداث ضخمة مثل إكسبو الرياض 2030 وكأس العالم لكرة القدم 2034، تتعزز بشكل أكبر مكانة السعودية كمركز عالمي للثقافة والدبلوماسية والابتكار.
الثقافة والقطاعات المتكاملة معها: الفرصة الكبرى المقبلة
مع توسع الاقتصاد الإبداعي، تصبح أوجه التكامل بينه وبين القطاعات الرئيسية الأخرى أكثر وضوحاً. فالثقافة والسياحة والترفيه والرياضة كلها ركائز أساسية في برنامج “جودة الحياة” ضمن رؤية 2030، الذي يهدف إلى تحسين جودة المعيشة، وإثراء التجارب الثقافية، ودفع عجلة التنويع الاقتصادي. وفي هذا السياق، تشهد وتيرة السياحة الثقافية نمواً متسارعاً مع وصول ما يقارب 30 مليون زائر دولي في عام 2024، في حين يواصل القادة السعوديون جذب استثمارات ضخمة في مجالي الترفيه والرياضة في إطار الجهود المبذولة لتعزيز مكانة السعودية كوجهة عالمية رائدة. وللحفاظ على استدامة هذا الزخم، يتزايد الطلب على الخبرات الدولية في مجالات الضيافة، وتطوير العلامة للوجهات السياحية، وتجربة الزائر، وإنتاج المحتوى، وإدارة الفعاليات والتفاعل مع الجمهور، وغير ذلك من المجالات الأخرى. وفي الوقت نفسه، تعمل البرامج التعليمية المتخصصة على إعداد جيل سعودي جديد لتولي قيادة هذه القطاعات.
لطالما كان التعليم حجر أساس في الروابط بين الشعبين السعودي والأمريكي، واليوم مع التحول الثقافي الذي تشهده المملكة، تزداد أهمية هذه الروابط أكثر من ذي قبل. اليوم يوجد ما يقارب 16 ألف طالب سعودي مسجلين في المؤسسات التعليمية الأمريكية في مختلف التخصصات، بما من شأنه أن يعزز عقوداً من التبادل الأكاديمي. بالإضافة إلى ذلك، يعمل برنامج الابتعاث الثقافي، الذي تديره وزارة الثقافة، على دعم التدريب المتخصص لقادة المستقبل في الصناعات الإبداعية والثقافية. وفي غضون ذلك، تقوم السعودية بتوسيع قطاع التعليم العالي الخاص بها بشكل سريع، ما يشجع التبادل التعليمي الثنائي من خلال توفير فرص جديدة للتعاون مع الجامعات الأمريكية، مع مبادرات لإقامة شراكات لتبادل أعضاء هيئات التدريس، ومشاريع بحثية مشتركة، وبرامج الدرجات العلمية المشتركة.
بفضل استثمارات تُقدَّر بمليارات الدولارات، وقطاع إبداعي يشهد نمواً متسارعاً، ومخزون هائل وغير مستغل من القصص والتقاليد ورأس المال البشري، تشهد السعودية اليوم نهضة ثقافية غير مسبوقة. فبعد عقود من تأطيرهم ضمن سرديات اختزالية، هناك تعطش عميق لدى المبدعين السعوديين لمشاركة رؤاهم مع العالم – لاستعادة سردياتهم، والاحتفاء بتراثهم، والمساهمة في الحوار الإبداعي العالمي
إن لدى المؤسسات والشركات الأميركية وصنّاع السياسات فرصة فريدة للمساهمة في صياغة هذه الحقبة الجديدة من التبادل الثقافي والتعاون الإبداعي، حقبة تستكشف الروابط الأعمق والأكثر استدامة التي تُبنى من خلال الثقافة والتعليم والتجارب الإنسانية المشتركة. لقد أرست عقودٌ ممتدة من الروابط بين الشعبين السعودي والأميركي أُسساً قوية للتعاون الفعال، مما يتيح للطرفين التنقل في المشهد المتغير بثقة ووضوح، وتحويل الفرص إلى شراكات مستدامة.
جسر الهوّة بين عالمين
بالنسبة إلى الجيل السعودي الشاب، كانت رؤية 2030 نقطة تحول مفصلية. لقد أعادت تشكيل وعيهم بغاياتهم: لإعادة تخيّل معنى أن يكون المرء سعوديًا، من أجل البناء، والابتكار، وإعادة تعريف موقع البلاد على الساحة العالمية.
واليوم، وبينما تعيد السعودية رسم ملامح مستقبلها، وتعزز تفاعلها مع العالم، تقف السعودية والولايات المتحدة على مفترق طرق جديد، قد يكون محورياً بقدر أهمية لقاء كوينسي قبل 80 عاماً. ولكن يا تُرى: ما هو “الذهب” الجديد الذي يمكن للبلدين اكتشافه معاً في القرن الحادي والعشرين؟ لم تعد الاكتشافات الثمينة موجودة تحت الأرض، وإنما تكمن في تبادل الأفكار، وصياغة روابط إنسانية وثقافية أعمق.
ها هو فصل جديد يكشف عنه النقاب – فصل يقوده أولئك الذين يمتلكون الجرأة على الإبداع، ووضع تصورات جديدة، وتجاوز الحدود – أو كما قال الشاعر السعودي ذو الرؤية الفذة محمد الثبيتي: “للناشرين لما انطوى، والناظرين إلى الأمامِ”.