ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
أتت المجزرة المروّعة التي وقعت يوم العيد الوطني الفرنسي في مدينة نيس في فرنسا، والتي حصدت أرواح 84 شخصًا على الأقل على يد رجل يحمل الجنسيتين الفرنسية والتونسية كان يقود شاحنة مبرّدة تزن 19 طنًا ومزوّدًا بمسدس أوتوماتيكي، بعد أسابيع عدة من المذابح الإرهابية التي طالت العالم بأسره والتي تكاد تكون غير مسبوقة. ويبدو أن تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) هو الرابط الأساسي بين الأعمال الوحشية التي امتدت من نيس إلى بغداد، ومن الدكا إلى اسطنبول ولعلّ أكثر ما يثير الدهشة، ولاسيما بالنسبة إلى المسلمين حول العالم، أنها طالت المدينة المنوّرة في المملكة العربية السعودية. وإذ يبدو أن التنظيم يغيّر استراتجيته ليتعامل مع الضغوطات الجديدة، من المقرر أن يلتقي الائتلاف المناهض لداعش، وحلف شمال الأطلسي (ناتو) على مستوى وزراء الدفاع في قاعدة عسكرية في ولاية ميريلاند في 20 تموز/يوليو. وتعكس الهجمات الأخيرة وعدد من التطورات الأخرى الأهمية المتزايدة للدور المركزي الذي تضطلع به المملكة العربية السعودية في الحرب على ضد “داعش”.
وفي بعض الحالات، كالهجمات التي استهدفت تركيا على سبيل المثال، يبدو أن تنظيم “داعش” متورط بشكل مباشر إذ ارتبطت أسماء عملائه المخضرمين بالجرائم. أما في حالات أخرى، فيبدو أن ارتباط التنظيم بهذه الجرائم أكثر هشاشة إذ تكون أعمال العنف مستوحاة من “داعش”، أو يدّعي التنظيم ارتباطه بالهجمات ببساطة على غرار ما حصل في مدينة نيس، ما يثير الشك في نفوس البعض. بغض النظر عن ذلك، يبدو أن “داعش” تعدّل استراتيجيتها لتلائم بيئة جديدة تعتبر، من نواح عدة، أكثر تحديًا. وادعى الائتلاف المناهض لداعش الذي تقوده الولايات المتحدة مؤخرًا أن الجماعة المسلّحة قد خسرت 45 بالمئة من الأراضي التي كانت قد سيطرت عليها في العراق و20 بالمئة من المنطقة التي كانت قد احتلّتها في سوريا. وعلاوة على ذلك، تجري الرياح بما لا تشتهي سفن التنظيم، إذ لم يستولِ على أي أرض جديدة لأكثر من عام.
يدرك كل من “داعش” وخصومها الحقيقة الواضحة: ها إن تنظيم “داعش” يفقد بشكل سريع الأراضي التي كان قد استولى عليها في سوريا والعراق منذ العام 2013، حيث أعلن إقامة “خلافته” في العام 2014. ويستعدّ التنظيم لنهاية وضعه الراهن المتمثل بشبه دولة. والجدير بالذكر أن أحد أبرز الأسباب التي أدت إلى انشقاق “داعش” عن “القاعدة ” عام 2014 يتمثل بتبني “داعش” لنموذج الخلافة والدولة المستقلة، ما اعتبرته ” القاعدة “، منذ تأسيسها على يد أسامة بن لادن في العام 1990، هدفًا طويل الأمد وبعيد المنال. وتأسس تنظيم “القاعدة” على أسس تفرض على “الجهاديين” أن يستهدفوا الوجود الغربي (“العدو البعيد”) في العالم الإسلامي ولاسيما العربي، استعدادًا للإطاحة بكافة الحكومات في هذه المناطق (“العدو القريب”). وأصر على أن أفضل طريقة لتحقيق ذلك هي شن حملة من الإرهاب الدولي من شأنها أن تُضعف إرادة القوى الغربية وقدرتها، ولاسيما الولايات المتحدة، على دعم الحكومات وأنظمة الدول العربية والإسلامية الحالية. وظنّ التنظيم أنه بعد إقصاء الوجود الغربي يمكن إعادة تشكيل العالمين العربي والإسلامي وفق “الجهاد السلفي”. نشأت “داعش” مما تبقى من تنظيم “القاعدة في بلاد الرافدين”، وهو فرع “القاعدة” في العراق الذي برز في بداية الاحتلال الأميركي في العام 2003، ورفضت داعش هذا المخطط في محاولة منها تأمين دولة كأمر واقع في المناطق التي أنهكتها الحرب. وسعت “داعش” إلى إرجاء أي مواجهة مباشرة مع القوى الغربية، وحتى مع أيّ من الحكومات المحلية الأكثر أمنًا، إلى أن تصبح الحركة الجهادية أكثر قوة.
إلا أنه ومنذ بداية الهجمات التي شنتها الولايات المتحدة على “داعش” في آب/ أغسطس 2014، أُجبر التنظيم بشكل متزايد على الخروج من قوقعته واضطر أن يشنّ هجمات على العديد من الأهداف الغربية والمحلية، علمًا أنه كان يفضل أن يقوم بذلك في مرحلة متقدمة. وبعد مرور سنتين، إذ تستعد “داعش” للانهيار المحتمل لنموذجها التأسيسي، يبدو أنها تتحول إلى مجموعة تتبنى الكثير من نهج الإرهاب العالمية التي يتّبعها تنظيم “القاعدة”. ويكاد يكون من المؤكد أن موجة الهجمات الإرهابية الأخيرة، التي نظمتها “داعش” بشكل مباشر أو دعمتها عمدًا أو أوحت بها بشكل غير مباشر، هي عبارة عن رد مباشر على هذه الأزمة. يتمثّل رد آخر بالتكلم مرارًا عن إنشاء “خلافة افتراضية” على الانترنت، نظرًا إلى أنه من الممكن ألا تدوم طويلًا الخلافة التقليدية المجزأة المشيّدة على المناطق المحيطة بالرقة في سوريا والموصل في العراق. ويتمحور الجدال بمعظمه حول ما إذا كان هذا التأقلم الاستراتيجي يشير إلى ضعف “داعش” ، إذ يبدو أن حيلتها المفضلة تبوء بالفشل، أو دليلًا على قوتها الطويلة الأمد نظرًا لقدرتها الدائمة على البقاء والتأقلم. وفي الواقع، يصحّ الوجهان: فإن “داعش” تتأقلم من جهة لأنها قادرة على فعل ذلك وهذا عنصر قوة، ومن جهة أخرى لأنها مجبرة على ذلك ما يعكس ضعفها إلى حد ما. ولكن حتى إذا فقد التنظيم السيطرة على أراضيه وعلى جزء كبير من مدخوله ومناصريه، يبقى يشكّل خطرًا كبيرًا يتربص بمعظم أنحاء العالم ولاسيما بالشرق الأوسط.
وبالتالي، يعمل تنظيم “داعش” على تعديل استراتيجيته لتحذو حذو الاستراتيجية التي لطالما روّج لها تنظيم “القاعدة”. وانعكس هذا الأمر على الهجمات الفظيعة التي شنتها “داعش” ليست في المملكة العربية السعودية وحسب بل داخل المدينة المنورة حتى. وتضمّنت الهجمات التي شُنت في 4 تموز/يوليو تفجيرًا انتحاريًا وقع في باحة المسجد النبوي، وهو أحد الأماكن الأكثر قدسية في العالم بالنسبة للمسلمين كافة. وتزامنت هذه الهجمات أيضًا مع شهر رمضان المبارك. وكان التنظيم يعلم أن الهجمات التي شنها على المدينة المنورة، ولاسيما على المسجد النبوي، ستثير حفيظة ملايين المسلمين بشكل خاص حول العام. إلا أن ثمة أدلة وافرة تؤكد أن هذه الهجمات في جوهرها منظّمة وموافق عليها مركزيًا وليست مجرد إلهام حرّ. وبالنسبة إلى “داعش”، كان لا بد من مقايضة مدروسة إذ توصّلت إلى الاستنتاج القائل إن أي أذى قد يلحق بسمعتها في صفوف المسلمين وينتج عن هجومها على مثل هذا الموقع المقدّس يعتبر ثمنًا لا بد من دفعه في محاولة لإذلال الحكومة السعودية وإضعافها. فإن الرسالة المراد إيصالها هي التالية: “أنتم، يا من تزعمون “حراسة” الأماكن المقدسة، تعجزون في الواقع عن حمايتها.” فلا تقتصر نتيجة هذا الأمر على أن “داعش” تستطيع أن تشنّ هجومًا على أي موقع كان، أينما ومتى شاءت، داخل المملكة العربية السعودية، بل تشمل أيضًا حقيقة أن الجهازين السعوديين الأمني والاستخباراتي معرضان فعليًا لخطر الإرهابيين.
يقرّب هذا الاستهداف للمملكة العربية السعودية، بالإضافة إلى أبرز الدول الأخرى المستهدفة كتركيا وفرنسا على سبيل المثال، “داعش” من المقاربة الطويلة الأمد التي يعتمدها تنظيم “القاعدة” ولاسيما على النحو الذي أصبحت عليه في عهد بن لادن. ففي ظل قيادة بن لادن، لم يخفِ تنظيم “القاعدة” يومًا أن أحد أبرز أهدافه يتمثل باستهداف الدولة السعودية وبإسقاطها نظرًا للدور المركزي الذي تضطلع به كحارسة لهذه الأماكن المقدسة الإسلامية الرئيسية وكحليف رئيسي للقوى الغربية ولاسيما للولايات المتحدة. وإذ أصبحت “داعش” تشكّل شعارًا قويًا عالميًا في صفوف المتطرفين المسلمين، وجدت نفسها هي أيضًا في مواجهة مباشرة مع الرياض. وتتمحور الحرب بشكل أساسي حول شرعية تفسير الإسلام كنص اجتماعي وحول تطبيق الحكم الإسلامي. ويتشارك نموذجَي المملكة العربية السعودية و”داعش” مبادئ أولية مشتركة على الرغم من أن أحكامهما الاستنباطية تفيد بأنهما تختلفان على الأقل بقدر ما تتشابهان. ولكن الأهم من ذلك كلّه هو أن الاستنتاجات التي توصلتا إليها حول كيفية تطبيق هذه الأفكار، أي تلك التي تتشاطرانها، على المجتمع والحوكمة والعلاقات الدولية هي متناقضة تمامًا وتتعارض جذريًا. فلا يمكن للمملكة العربية السعودية و”داعش” أن تتعايشا كما يستحيل التوفيق بينهما. وبالتالي، فقد باتت الإطاحة بالمملكة العربية السعودية أولوية لتوسع “داعش” دوليًا، ولطالما كان هذا الأمر من أولويات “القاعدة” أيضًا. وبالتالي أصبح القضاء على “داعش” حاجة ملحة بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية للحفاظ على أمنها القومي.
ولعل إحدى مفارقات الوضع الراهن العديدة تتمثل بأنه وفيما يجد تنظيم “داعش” نفسه مجبرًا على تبنّي مقاربة مماثلة لتلك التي تعتمدها “القاعدة” والتي تشدد على الإرهاب العالمي، قد تتوجه “جبهة النصرة” التابعة “للقاعدة” في سوريا إلى بناء “إمارة” شبه دولة على الأرض في شمال سوريا. وربما يتبادل الفريقان أولوياتهما الاستراتيجية نظرًا لتغيّر أوضاعهما وظروفهما المحتملة. ويثير هذا الأمر احتمالية مقلقة: فقد تجد “داعش” و”جبهة النصرة”، في أي تاريخ مستقبلي ولاسيما إن تعرّض القادة الذين برزوا في خلال فترات العداء للقتل أو للعزل، أنهما تتشاطران فجأة الرؤية والاستراتيجية عينها لتطبيق “الجهاد” العالمي، فتوحدا جهودهما. تبدو المنافسة بينهما حتى الآن أكبر من أن تسمح بحصول ذلك. ولكن بما أن “داعش” تحذو حذو “القاعدة”، وتدرس حليفة “القاعدة” في سوريا فكرة تبني بعض الأوجه الأساسية لمقاربة “داعش”، فلا يمكن استبعاد هذا الاحتمال.
وسواء أحصل ذلك أم لا، من المرجح أن يؤدي التحول في المقاربة الاستراتيجية التي تعتمدها “داعش” إلى زيادة الهجمات التي تستهدف المملكة العربية السعودية، فيما لن تجد الحكومة السعودية مفرًا من تكثيف معركتها ضد مثل هذا التطرف في السعودية وفي الشرق الأوسط. لا يمكن للمملكة أن تسيء تقدير الدور المهم الذي تضطلع به في ما يخص مواجهة طموحات الجهاد المتطرف على كافة أشكاله، ويبدو أنها لا تفعل ذلك، سواء أتخذ هذا الشكل استراتيجية “القاعدة” التقليدية أو سعي “داعش” مؤخرًا إلى إقامة خلافة علمًا أنه يبدو أن محاولاتها تبوء بالفشل. ولقد رُفضت باستمرار العروض المتكررة التي قدمتها الرياض لإشراك القوات البرية السعودية في العمليات القتالية التي تنفّذ ضد “داعش” في سوريا. ومما لا شك فيه أن السبب في ذلك يعود إلى الخلاف المستمر بين واشنطن والرياض بشأن الأهداف والاستراتيجيات الأوسع نطاقًا في سوريا. إلا أن للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين شركاء بارزين وملتزمين على نحو متزايد بالحرب ضد من يلقّبون أنفسهم بالجهاديين السلفيين، سواء أكانوا تابعين “للقاعدة” أو “لداعش”، في الحكومة والمجتمع السعوديين والذين يعتبرون أنفسهم مستهدفين بشكل دائم من قبل المتطرفين الذين يدّعون أنهم يعملون باسم الإسلام.