من الغباء الاعتقاد أن الاقتصاد هو القضية الأساسية في تركيا، حيث تغلّبت الخطابات العاطفية على التوترات الاقتصادية أثناء هذا الموسم الانتخابي. فقد أسفرت جولة الإعادة في الانتخابات، التي انتهت في 28 مايو/أيار، عن نتيجة 52٪ مقابل 48٪ لصالح الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي فاز على منافسه كمال كليجدار أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري العلماني المنتمي إلى يسار الوسط. كانت هذه النتائج متوقعة بشكل أساسي، فالفارق كان ضئيلًا للغاية في الجولة الانتخابية الأولى، حيث لم يحصل أردوغان على الاغلبية المطلوبة. ولكي يتفادى أردوغان المساءلة عن اقتصاد يتأرجح على حافة الانهيار، وعن تقليصه للحريات، وكذلك عن الانتقادات التي وجهٍت له حول دور الحكومة في التعامل مع زلازل السادس من فبراير/شباط وعواقبه المأساوية، اعتمد أردوغان على الأمور التالية لتأمين فوزه:
- الولاء الصادق الذي يكنه له المجتمع الديني الضخم في تركيا، والذي منحه أردوغان حقوقًا متساوية ونفوذًا وازدهارًا اقتصاديًا مؤثرًا.
- خطاب قومي شعبوي سعى من خلاله إلى ربط خصمه اليساري المعتدل، كليجدار أوغلو بالإرهاب الكردي والغرب المكروه، بالإضافة إلى ربطه، المتعذر فهمه، بمجتمع الميم.
- خطاب قومي أكثر إيجابية مستمد من تحسينه للملف الدبلوماسي التركي، وتوسيع قطاع الصناعة العسكرية المحلي.
- سخاء اقتصادي قدمته خزينة الدولة، تضمّن عدة زيادات في الحد الأدنى للأجور، وتخفيض سن التقاعد، من بين استحقاقات حكومية أخرى. وبمناسبة استخراج الغاز الطبيعي من الحقل الذي اكتُشف في 2020 في البحر الأسود، وعد أردوغان كل عائلة باستخدام الغاز الطبيعي بشكل غير محدود لمدة شهر، وصلت الفواتير خالية من أي استحقاقات مالية، ومكتوب عليها “لا شيء مستحق”، وذلك قبل الانتخابات مباشرة.
وبالطبع، كما ورد على نطاق واسع، جرت الانتخابات في سياق حملة مُنِعت فيها المعارضة فعليًا من الوصول، بشكل كبير، إلى وسائل الإعلام الإلكترونية والمطبوعة. كما أن الكثير من معارضي أردوغان، بما فيهم أعداد كبيرة تصل إلى المئات، إن لم يكن الآلاف، من زعماء ونشطاء من حزب اليسار الأخضر المناصر للأكراد (المعروف سابقًا بـ حزب الشعب الديمقراطي) – الذي دعم كليجدار أوغلو – كانوا وراء القضبان بسبب [عملهم السياسي] السلمي.
الاستقطاب مستمر
كانت هذه الانتخابات هي السادسة على التوالي التي أوصلت أردوغان إلى حكم البلاد، ثلاث مرات بصفته رئيسًا للوزراء في ظل النظام البرلماني السابق، وثلاث مرات بصفته رئيسًا للبلاد، كانت آخر اثنتين منها تحت مظلة نظام رئاسي مُعزَّز تم تطبيقه في عام 2018. فاز أردوغان في الانتخابات الرئاسية الثلاث بالنسبة نفسها، نسبة 52٪. وفي عامي 2014 و2018 فاز ضد عدة مرشحين في الجولة الأولى بنسبة 51.7٪ و52.6٪ على التوالي. هذا العام، حصل أردوغان في الجولة الأولى على 49.5٪ من الأصوات مقابل عدة مرشحين تصدرهم كليجدار أوغلو، ليحصد أردوغان 52.1٪ من الأصوات في مواجهة كليجدار أوغلو في 28 مايو/أيار.
يمكن القول إن الانتخابات الرئاسية كانت تعد، على نطاق واسع في تركيا، استفتاءً على شخص أردوغان، الذي لم يتمكن من توسيع دائرة مؤيديه. بالرغم من أن مجرد التمسك بدعمه في ظل التضخم المتفشي، الذي هو من صنعه إلى حد كبير، أمر جديد بالملاحظة؛ كما لم يتمكن معارضو أردوغان أيضًا من توسيع الجبهة المعارضة له. ومع أن المعارضة بأكملها التفت حول كليجدار أوغلو أثناء هذه الانتخابات، إلا أن النتيجة النهائية تشابهت مع النتائج السابقة.
وتظل الانقسامات في تركيا حقيقية بشدة، سواء كانت اقتصادية أم اجتماعية أم أيديولوجية، عرقية أم دينية. عمل أردوغان على تعميق هذه الانقسامات من خلال استغلالها، وتعزيزها في عقلية “نحن في مواجهة الآخر”، الموجهة في الأساس ضد الأتراك العلمانيين ذوي النزعة الغربية، والذين يعتبرون نتاج لـ “ثورة أتاتورك”، التي كانت قيمها تحكم تركيا في الماضي. في نفس الوقت يُمجد أردوغان الطبقة العاملة المتدينة من الأتراك السنّة، ويثني على أبطالهم العثمانيين.
ويؤدي هذا إلى ما يتم وصفه بـ “سياسيات الهوية”. وبغض النظر عن المسميات، فمن الواضح أن هناك فجوة كبيرة بين الأطراف الداعمة والأطراف الرافضة لأردوغان، وغياب تحرك الناخبين بين المعسكرين بصورة كبيرة.
لم يكن أردوغان رحب الصدر عندما ألقى خطاب نصره، إذ تظاهر برغبته في خدمة “كل الشعب التركي البالغ عدده 85 مليونًا”، وتحدث بشكل غير لائق عن كليجدار أوغلو، وانتقد هزيمته بشدة. كما قلل من شأن مؤيدي خصمه الذين، في رأيه، يزدرون القيم السائدة في تركيا بمناصرتهم لمجتمع الميم.
ومن جانبه، لم يلعب كليجدار أوغلو دور المهزوم اللبق، ولم يهنئ أردوغان على فوزه، ولم يعترف بهزيمته بالرغم من عدم معارضته لنتيجة الانتخابات. كما وصف الانتخابات الأخيرة بأنها كانت “أكثر انتخابات غير عادلة منذ سنوات”، ووعد بأن يستمر في قيادة المعركة ضد “النظام القمعي”. مع أن ميرال أكشينار، زعيمة حزب الجيد المعارض، وشريكه الأصغر في الائتلاف، هنّأت أردوغان على فوزه، لكنها أعربت عن أملها ألا “يُعمي طمع أردوغان بصيرته مرة أخرى”.
فشل كليجدار أوغلو
في محاولة لتعويض فجوة مقدارها 4.5 في المئة من الأصوات في الجولة الأولى، خسر كليجدار أوغلو مقامرته اليائسة في “صفقة مع الشيطان”، ففي أعقاب الجولة الأولى حصل على دعم حزب النصر، وهو حزب قومي متطرف، حصل على أكثر من 2٪ بقليل في الانتخابات البرلمانية، مقابل موافقته على تشديد سياساته في طرد اللاجئين السوريين من تركيا، وعلى عزل رؤساء البلديات الأكراد المنتخبين والمدانين بصلات مع الإرهاب المرتبط بحزب العمالي الكردستاني (PKK). وفي تركيزه على قضية اللاجئين، استخدم كليجدار أوغلو لهجة انتخابية أكثر حدة وغضبًا تناقضت مع لهجته الإيجابية الشاملة في الجولة الأولى، التي كانت تتسم بالتفاؤل والأصابع المتشابكة على شكل قلب كعناصر مركزية.
كان رهان كليجدار أوغلو أن الأصوات التي سيربحها من جمهور تركي نفذ صبره من تواجد أربعة ملايين لاجئ سوري على أرضه سيفوق الأصوات التي سيخسرها من الناخبين الأكراد المستائين من تحالفه الأخير مع حزب النصر. ومع أن الفجوة بينه وبين أردوغان تقلصت في الجولة الثانية، من 2.5 مليون إلى 2.2 مليون صوت، يبدو أن المشاركة الكردية انخفضت بشكل ملحوظ نسبة إلى إجمالي مشاركة الناخبين على المستوى الوطني، التي شهدت انخفاضًا كليًا مقارنة بالجولة الأولى.
اختيارات حزب الشعب الجمهوري الصعبة
يواجه حزب الشعب الجمهوري، الذي يرأسه كليجدار أوغلو، عددًا من القرارات الصعبة. أولًا، هل سيصمد تحالف الأمة، الذي يقوده الحزب بالشراكة مع حزب الجيد وأربعة أحزاب صغيرة، بعد هذه الهزيمة؟ قد يكون المؤتمر الذي سيعقده حزب الجيد في نهاية يونيو/حزيران هو العامل الحاسم في تحديد ذلك. فأكشينار، زعيمة حزب الجيد، التي كانت قد عبرت، ولكن في مرحلة متأخرة، عن معارضتها لترشح كليجدار أوغلو في بداية شهر مارس/آذار، لم تقدم له الدعم الكامل أثناء حملته الانتخابية.
ثانيًا، من سيقود الحزب؟ فالبعض الذين توقعوا أن يستقيل كليجدار أوغلو، البالغ من العمر 74 عامًا، بعد الانتخابات، وجدوا أنفسهم أمام شخص يوحي بأنه سيستأنف قيادة الحزب، وبشكل عام، المعارضة ضد أردوغان.
ثالثًا والأهم، ما هو شكل العلاقة المستقبلية بين حزب الشعب الجمهوري – وتحالف الأمة إذا استمر – مع الحركة الكردية وحزب اليسار الأخضر؟ فالتعاون غير الرسمي مع حزب اليسار الأخضر (حزب الشعب الديمقراطي حينها) في الانتخابات المحلية على المستوي الوطني في عام 2019 أدى إلى انتصارات لحزب الشعب الجمهوري في عدة مدن كبرى، من بينها إسطنبول وأنقرة، تمت رؤية الناخبين الأكراد على أنهم صناع الملوك. وأثناء تلك الحملة الانتخابية، كان التعاون بين حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعب الديمقراطي تعاونًا قائماً، لكن من دون أن يعترف به الحزبان.
أما هذا العام، فقد اختلف الوضع، فالدعم الذي تلقاه كليجدار أوغلو خلال الانتخابات الرئاسية من حزب اليسار الأخضر، الذي لم يطلق حملة انتخابية خاصة به، كان جليًا. يعد هذا القرار بدعم مرشح تركي ينتمي لحزب رئيسي من قبل حزب مناصر للأكراد خطوة غير مسبوقة أدت إلى خلق ديناميكيات جديدة. فنسبة كبيرة من الأتراك الآن ترى حزب اليسار الأخضر أنه الوجه المدني لحزب العمال الكردستاني، وهو وضع مشابه لحزب “شين فين” الجناح السياسي السابق للجيش الجمهوري الإيرلندي. أعطى هذا الدعم العلني لكليجدار أوغلو من جانب حزب اليسار الأخضر، وبعض أعضاء حزب العمال الكردستاني، فرصة ذهبية لأردوغان للتصرف بديماجوجية، حيث وصفه كداعم للإرهابيين ومتلقٍ لأوامرهم، ليصبح هذا الوصف ركيزة أساسية من ركائز حملة أردوغان الانتخابية.
لابد لزعماء حزب الشعب الجمهوري التفكير مليًا في تأثير علاقتهم مع حزب اليسار الأخضر على انتخابات 2023 وتأثيرها المستقبلي المحتمل. وقد يعد البعض في حزب الشعب الجمهوري، الذي فيه جناح قومي متطرف، أن التعاون مع الأكراد كان خطأً كبيرًا، وقد يحتجون بأن العديد من الأكراد قاطعوا الانتخابات رغم تلقي كليجدار أوغلو ضربات خطابية من أردوغان بسبب دعمه لحزب اليسار الأخضر. وفي المقابل، قد يشكك البعض في حزب اليسار الأخضر في قيمة التحالف مع حزب الشعب الجمهوري، الذي بالكاد تطرق إلى القضية الكردية أثناء حملته الانتخابية، باستثناء الإشارة إلى ضرورة حل الأزمة الكردية في البرلمان.
السياسة الخارجية: نظرة للأمام
كانت حملة أردوغان لعام 2023 هي الأكثر مناهضة للغرب والولايات المتحدة على الإطلاق. رغم أن التنبؤ بسياسات أردوغان المستقبلية أمر عصي، فمن المرجح أن تواصل تركيا في توطيد علاقاتها مع روسيا والإخلال بالتحالف مع الغرب.
أشاد أردوغان، في مقابلة أجرتها معه “سي إن إن إنترناشونال”، مؤخرًا بعلاقته الخاصة مع بوتين، وقد وبخ أردوغان كليجدار أوغلو، في مرحلة من مراحل حملته الانتخابية، لانتقاده روسيا، مذكرًا إياه أن “العلاقات مع روسيا لا تقل أهمية عن العلاقات مع الولايات المتحدة”.
وفي هذه الأثناء، لا تزال القضية الثنائية الأكثر أهمية للإدارة الأمريكية غير محلولة. فمن غير الواضح ما إذا كانت تركيا ستوافق على طلب السويد للانضمام إلى حلف الناتو قبل قمة الحلف المقرر عقدها في مدينة فيلنيوس في 11-12 يوليو/تموز. أجرى الرئيس بايدن مكالمة هاتفية في 29 مايو/أيار لتهنئة أردوغان، وقال إنه أثار موضوع انضمام السويد لحلف الناتو معه. وفي المقابل، أثار الرئيس التركي في نفس المكالمة رغبة تركيا في شراء طائرات (إف-16) من الولايات المتحدة. ويرى البعض احتمال وجود صفقة تبادلية في طور الإعداد، مع أن أنقرة كانت قد أصرّت سابقًا على أن الأمرين غير مرتبطين. ولكن في ظل السياق الجديد، الانتخابات التركية في الخلفية، قد تصبح الصفقة ممكنة. إلا أن الأمر ما يزال معقدًا نظرًا لاعتبارات تخص الكونجرس الأمريكي، ومطالب أردوغان المبالغ فيها من السويد، بالإضافة إلى منظور حزب الحركة القومية، شريك أردوغان الأصغر في التحالف [التحالف الجمهوري].
هل سياسة تركيا الخارجية مستقلة؟
يتباهى أردوغان بجعل تركيا قوة أكثر استقلالية، ولكن الوضع الاقتصادي للبلد يشير إلى غير ذلك بشدة. فخزائنها من النقد الأجنبي شبه فارغة، وقد أعترف أردوغان أن دولاً خليجية، لم يسمها، قد وفرت في الماضي القريب تمويلًا طارئًا. من المفترض أن تكون قطر واحدة من تلك البلدان، في حين أعلنت السعودية منذ عدة أسابيع عن تحويل مبلغ 5 مليار دولارًا إلى تركيا. كما أرجأت روسيا مدفوعات الغاز الطبيعي، وقدمت دعمًا ماديًا ملحوظًا له. من ناحية أخرى، يستوعب الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة غالبية الصادرات التركية، ويوفران غالبية استثماراتها الأجنبية المباشرة، بالرغم من أن دول الخليج أصبحت مؤخرًا أكثر نشاطًا في المجال الأخير.
من المرجح أن يواجه الاقتصاد التركي ظروفًا صعبة في الشهور المقبلة. فالليرة التركية فقدت 90 في المئة من قيمتها أمام الدولار في العقد الأخير، وتهاوت بعد الانتخابات، يوم 29 مايو/أيار، إلى 20.1 مقابل الدولار، وهو أدنى مستوياتها المسجلة. من المستبعد أن يُبقِ الخليج وروسيا تركيا واقفة على قدميها إلى أجل غير مسمى، أو أنهما يستطيعان فعل ذلك أصلًا. بالإضافة إلى ذلك، فإن حاجة تركيا لعلاقاتها التجارية مع الغرب قد تفرض بعض البراجماتية على سياسة أردوغان الخارجية في الأشهر المقبلة، بغض النظر عن الاستياء الذي يكنه للغرب.
في الغالب، لن يسعى أردوغان لإثارة أي عواصف إقليمية جديدة في المدى القريب. ويبدو أن الهدوء هو ما يرغب فيه الشعب التركي والمستثمرون المحتملون وأصدقاء ومقدمو المساعدات من الخليج.
سياسة تركيا المستقبلية
في بلد لا تتوقف فيه عجلة السياسة، سيرغب أردوغان خلال الانتخابات المحلية العامة المقبلة في مارس/آذار 2024 في استرداد مناصب عُمَد البلديات التي خسرها لصالح حزب الشعب الجمهوري في إسطنبول وأنقرة، والفوز ببضعة مدن رئيسية أخرى انتزعها حزب الشعب الجمهوري من حزب العدالة والتنمية في 2019. وإذا نجح أردوغان في ذلك كله، فإن المعارضة لن يتبقَ لديها منبر بارز في الساحة السياسية لتخاطب البلاد منه. في غضون ذلك، من المرجح أن يستمر أردوغان والبرلمان، حيث يحتفظ تحالفه بأغلبية واضحة، في الحكم لفترة رئاسية كاملة تستمر خمس سنوات. فالإعلان عن انتخابات جديدة يتطلب، بموجب النظام الرئاسي التركي، تصويتًا بنسبة 60 في المئة من قبل البرلمان أو قرارًا رئاسيًا، وكلا الأمرين مستبعدين.
ستظل المشكلة الكبرى هي التضخم والانهيار الاقتصادي العام. فبالرغم من أن أردوغان أثبت مقدرته على الفوز في الانتخابات الوطنية في ظل اقتصاد محطم، من الممكن ألا يستطيع الفوز بإسطنبول وأنقرة من دون نهوض اقتصادي واضح. فأردوغان يعلم أنه لن يستطيع تحقيق رؤيته “تركيا العظيمة” وشعار حملته “قرن تركيا”، من دون تحقيق معجزة اقتصادية أيضًا.