وضع الغزو الروسي لأوكرانيا الدولة التركية أمام جملة من التحديات الاستراتيجية والسياسية الصعبة، ولكنه وفّر لها في الوقت ذاته فرصة هامة لتأكيد دورها القيادي كدولة تربطها حدود مائية مع كل من روسيا وأوكرانيا، وكدولة متوسطية تسيطر على المضائق التي توصل الى البحر الأسود، وكدولة عضو في حلف الناتو، تربطها، في الوقت ذاته، علاقات متشعبة اقتصادية وتجارية وسياسية، وحتى عسكرية، مع جارتها الشمالية روسيا، التي دخلت معها منذ بداية الحقبة العثمانية حتى الآن في ثلاثة عشر حربًا.
الرئيس رجب طيب أردوغان، الكاريزماتي والانتهازي معًا، سارع لاستغلال علاقاته الشخصية مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، الذي أشترى منه منظومة الصواريخ المضادة للطائرات من طراز أس-400 التي عرضته لعقوبات أطلسية، وعلاقاته الجيدة أيضًا مع أوكرانيا التي زودها بطائرات مسيرة من طراز بيرقدار أظهرت فعاليتها في قصف وتدمير الدروع الروسية، إلى اقناع الطرفين بقبول عرض أنقرة رعاية المفاوضات بينهما. جولة المفاوضات الأخيرة بين روسيا وأوكرانيا، التي افتتحها الرئيس أردوغان في إسطنبول، وانتهت يوم الثلاثاء، أظهرت أن المتفاوضين بدأوا بالفعل مناقشة طروحات جدية لإنهاء النزاع، وإن كانت القضايا العالقة معقدة للغاية، والعقبات أمام أي تسوية سياسية ضخمة ومحبطة.
فور بدء الغزو الروسي، سعت دول قريبة جغرافيًا من النزاع وبعيدة عنه إلى عرض خدماتها الديبلوماسية للتوسط بين البلدين. رئيس وزراء إسرائيل نفتالي بينيت، الذي تربط بين بلاده وأوكرانيا علاقات جيدة، زار موسكو لهذا الهدف. الإسرائيليون يعتقدون أن علاقتهم التقليدية الجيدة مع واشنطن ونفوذهم في الكونغرس هي عوامل يمكن أن تساعدهم في أي وساطة. الصين التي تربطها علاقات سياسية وتجارية جيدة مع الطرفين المتنازعين أيضا أبدت استعدادها للتوسط. وحتى دول عربية في وضع مماثل، من بينها السعودية ودولة الإمارات، عرضت التوسط أو ألمحت أنها مستعدة للتوسط.
معظم هذه الدول، ومن بينها تركيا، أرادت من عرضها للتوسط موازنة علاقاتها بروسيا وبالغرب، وتحديدًا الولايات المتحدة القائدة الفعلية للجبهة السياسية/الاقتصادية التي تتصدى للغزو الروسي، وتسلح أوكرانيا لمقاومته. بعض هذه الدول التي التفت برداء الحياد سعت إلى حماية حيادها أو تبريره من خلال صيانة مثل هذا التوازن الصعب بين متطلبات وتوقعات كل من موسكو وواشنطن. وليس سرًا أن الولايات المتحدة رأت في مثل هذا الحياد الذي اعتمدته دول صديقة تقليديًا لواشنطن والغرب على أنه موقف سلبي منها ويعبر عن استياء ضمني، وأحيانا أكثر من ضمني، من بعض سياساتها.
بعض هذه الدول الهامة والكبيرة والتي توجد فيها مؤسسات ديموقراطية، وإن لم تكن أنظمتها ديموقراطية بشكل كامل، مثل الهند والبرازيل، رفضت صياغة النزاع على أنه بين الغرب والشرق، أو كما يصوره الرئيس بايدن على أنه صراع بين الدول الديموقراطية والدول الأوتوقراطية. دول عربية، مثل السعودية ودولة الإمارات، وهي أطراف مشاركة في اتفاقية أوبك بلس مع روسيا لتنسيق إنتاج النفط والحفاظ على أسعار تناسبها، رفضت طلب واشنطن زيادة انتاجها من النفط لمنع ارتفاع الأسعار بشكل كبير ومفاجئ، فعلت ذلك لأكثر من سبب، من بينها صيانة علاقاتها المتطورة مع موسكو، ولكن أيضا لتعبر عن استيائها من اقتراب واشنطن من التوصل إلى احياء الاتفاق النووي مع إيران، وهو اتفاق تعارضه – مع إسرائيل – بقوة، ولأن الدولتين الخليجيتين تعتقدان أن الولايات المتحدة لا تدعمهما بما فيه الكفاية في حرب اليمن.
ولكن نجاح تركيا في اقناع روسيا وأوكرانيا بقبول وساطتها لم يكن مفاجئا، ليس فقط بسبب موقعها الجغرافي، وكونها دولة على ضفاف البحر الأسود، وتربطها علاقات جيدة مع البلدين المتحاربين، بل أيضا بسبب سياسات أردوغان الانتهازية تجاه الغرب والتي قربتّه سياسيًا من موسكو. خلال السنوات الماضية اعتمد أردوغان سياسات صدامية، إن لم نقل عدائية، تجاه قبرص واليونان بسبب الخلافات حول التنقيب عن الطاقة في شرق المتوسط، ولم يتردد في تهديد أوروبا بفتح أبواب القارة أمام المهاجرين واللاجئين من الشرق والجنوب، كما دخل في نزاعات مختلفة مع مصر والسعودية ودولة الإمارات وإسرائيل. علاقات أردوغان مع الرئيس بايدن كانت باردة منذ البداية، بسبب سياسات أردوغان القمعية في الداخل، وتسلحه من روسيا، وانتقاداته المستمرة للغرب، وفي الوقت ذاته محاولة الاستفادة من عضوية تركيا في حلف الناتو.
ولكن أردوغان، أدرك في السنة الماضية أن سياساته أوصلت تركيا، سياسيًا واقتصاديًا إلى طريق شبه مسدود. وهنا بدأ بإعادة النظر بعلاقاته الإقليمية، في الوقت الذي بدأت فيه دول المنطقة الأخرى، إقامة تحالفات جديدة لخلق بدائل سياسية وعسكرية ترقبًا لما يعتبره محللون وسياسيون كُثُر “الانسحاب” الأميركي التدريجي من منطقة الشرق الأوسط للتركيز أكثر على منطقة الشرق الاقصى، لمواجهة التحدي الصيني الصاعد.
وفجأة بدأت تركيا بإعادة بناء الجسور مع دول المنطقة التي وصلت علاقاتها معها إلى مستوى العداء المفتوح، ومن بينها إسرائيل ومصر والسعودية ودولة الإمارات. وفي الأشهر الماضية استقبلت عواصم هذه الدول المتناحرة منذ سنوات مسؤولين إقليميين كانوا يعتبرون لوقت طويل غير مرغوب فيهم.
ويعتبر أردوغان ربما أكثر قائد تربطه علاقة شخصية ووثيقة مع الرئيس بوتين. الرئيسان أوتوقراطيان ويتصرفان كورثة تركة امبريالية. وعلى الرغم من تضارب مصالحهما في سوريا وليبيا والقوقاز، إلا أنهما حافظًا على علاقة شخصية جعلتهما يطوران علاقات ثنائية متشعبة وهامة بين بلديهما. وتعتبر تركيا أكبر شريك تجاري لروسيا في منطقة الشرق الأوسط، كما تعتمد تركيا بشكل رئيسي على احتياجاتها من الغاز الروسي.
وحتى قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، قام أردوغان بلعبة توازن، صعبة وحساسة، بين موسكو وكييف. فهو على سبيل المثال لم يعترف بالضم الروسي غير الشرعي لشبه جزيرة القرم بعد احتلالها في 2014. وقبل الغزو زوّد أوكرانيا بطائرات مسيرة من طراز بيرقدار لعبت دورًا هاما في مقاومة الغزو الروسي. وبينما قام أردوغان بإغلاق مضيق البوسفور أمام السفن الحربية الروسية لمنعها من الابحار من البحر المتوسط الى البحر الأسود، إلا أنه لم يغلق الأجواء التركية أمام الطائرات الروسية، كما لم يشارك في العقوبات التي فرضها الغرب ضد روسيا. وكان من اللافت أن أردوغان قال أن الرئيس بوتين يحتاج إلى “مخرج مشّرف” من الحرب. كل هذه العوامل تجعل من تركيا وسيطًا مقبولًا من الطرفين المتقاتلين. وقد تكون لواشنطن تحفظات كثيرة على أردوغان وسياساته، ولكنها لن تعارض الوساطة التركية، طالما بقيت أوكرانيا طرفًا في المفاوضات.
وبينما كان أردوغان معزولًا اقليميا، وإلى حد ما منبوذًا في واشنطن قبل سنة، إلا أنه اليوم يتصرف وكأن تركيا هي دولة قوية بحد ذاتها، وليس فقط بصفتها عضو في الناتو وحليف قوي لواشنطن. أردوغان يتعامل بحذر كبير مع نزاع عسكري خطير بين جاريه على ضفاف البحر الأسود، ولكنه يرى في هذا النزاع فرصة، ربما تاريخية، له لتأكيد الدور القيادي لتركيا في منطقتها الجغرافية، وللمشاركة في صياغة أي نظام اقليمي جديد ينبثق عن الحرب ومن المتوقع أن يؤثر على منطقة تشمل دول حوضي البحرين الأسود والمتوسط ودول أوروبا الشرقية والشرق الاوسط.