ادعم منشورات معهد دول الخليج العربية في واشنطن باللغة العربية
تبرع اليوم لمساعدة المعهد في توسيع نطاق تحليلاته المنشورة باللغة العربية.
تبرع
قام وزير دفاع روسيا سيرجي شويجو بزيارة سوريا في 15 فبراير/شباط للإشراف على التدريبات العسكرية الروسية المرتبطة بأوكرانيا. ذكرت التقارير الإعلامية أن القاذفات النووية تي يو-22 إم3 بعيدة المدى والطائرات المقاتلة إم آي جي-31 كي التي تحمل أحدث صواريخ كروز، الأسرع من الصوت، من طراز كينزال قد هبطت في القاعدة الروسية الجوية في منطقة الساحل السوري بمحافظة اللاذقية كجزء من التدريبات. كما رست السفن الهجومية البرمائية في طرطوس من أجل التزود بالوقود والقيام بأعمال الصيانة قبل أن تغادر إلى البحر الأسود للقيام بتدريبات وانتشار عسكري بخصوص أوكرانيا. وقد التقى شويجو مع الرئيس السوري بشار الأسد في دمشق.
زيارة شويجو توضح مجموعة من الحقائق حول تأثير التدخل الروسي في سوريا، والطريقة التي أنبأت بما يحدث في أوكرانيا ومهدت الطريق لذلك. كما وفرت تلميحات عن نمط التحديات التي يود الرئيس الروسي فلاديمير بوتين القيام بها نحو النظام الدولي القائم بقيادة الولايات المتحدة، والذي استفادت منه العديد من الدول، بما فيها دول الخليج. لقد أعطت سوريا لروسيا موطئ قدم استراتيجي في البحر المتوسط والشرق الأوسط، مع قاعدة بحرية في طرطوس (مع عقد إيجار مجاني لمدة 49 سنة، حسب التقارير الإعلامية) وقاعدة جوية حديثة موسعة في حميميم، قرب اللاذقية. لقد أتاحت الحرب في سوريا لروسيا أن تختبر أنظمة أسلحة حديثة في ظروف قتالية، وأن تظهر للعالم أنها تعيد تسليح جيشها بشكل مذهل منذ عام 2010. إن التدخل في سوريا ساعد على إعطاء روسيا الثقة في التدخل بطريقة حاسمة وتحدي الرد الغربي.
لقد شجع التدخل بوتين والجيش الروسي بشكل أكبر. لقد استطاع بوتين أن يصل للعديد من أهدافه الرئيسية دون أن يكلفه ذلك أية “تكاليف معيقة” افترض الكثيرون حتمية وقوعها، ومنهم أنتوني بلينكن نائب وزير الخارجية الأمريكية في حينه. إن حرب بوتين في سوريا توضح أنه جيد للغاية كشخص مقامر. ما يساعد في تشكيل استراتيجية هذا المقامر، والطرق التي ترغب روسيا في نشر قواتها، هو التقييم الحذر للخطر والثقة من الخداع ومحدودية الهدف وتحري نقاط الضعف. أشارت عناصر من قوات الدفاع السورية في شمال شرق سوريا إلى أن معدات وجنود القوات الروسية الروتينية في سوريا – خلافًا لبعض أنظمتها ذات التقنية العالية – لم تكن مثيرة للإعجاب. فقد تعطلت شاحناتها وعرباتها المدرعة بشكل منتظم، ولم يبدُ جنودها ملائمين أو محترفين مثل القوات الخاصة الأمريكية التي عملت معها قوات سوريا الديمقراطية. لكنهم ذكروا أن القوات الروسية قد تخطت حدود قدرتها، على الرغم من صغر الأعداد نسبيًا، لأن جنودها (أو على الأقل قادتها) لديهم الإرادة للمخاطرة ولا يعيقهم احتمال حصول خسائر بينهم. كما توجد ثقة بأنه، من خلال قواعد الاشتباك المتفق عليها بشكل متبادل وإجراءات حل النزاع المعمول بها مع الجانب الأمريكي، يمكن للقوات الروسية أن تتجاوز الحد في المواجهات الروتينية، ولن تتعرض لخطر الرد المميت من القوات الأمريكية.
إن الدرس الموازي الذي تعلمته القوات الروسية جيدًا في سوريا، من الرد المهلك السريع الذي قامت به القوات الخاصة الأمريكية ضد قوات المرتزقة لمجموعة فاجنر الروسية في إحدى الليالي المصيرية في دير الزور في عام 2018، هو تجنب الصراع المباشر بأي ثمن مع القوات الأمريكية حيث يتم استخدام قوة مميتة. تم قتل عدة مئات من القوات الروسية وقوات النظام السوري خلال ساعتين، دون أن يكلف ذلك القوات الأمريكية إصابة واحدة، بعد أن هاجمت هذه القوات موقعًا أماميًا أمريكيًا صغيرًا بالقرب من محطة غاز كونوكو. ولعل ذلك درس تعلمه بوتين جيدًا وعرف أن غزوه لأوكرانيا سيبقي قواته بعيدًا عن القوات الأمريكية التي تدعم دول الناتو، ولكنه ما يزال في ميدان يتيح له الكثير من الخيلاء والتنمر والتهديد.
اكتسبت روسيا من خلال تعاملها مع تركيا في سوريا الثقة في أداء لعبة التصعيد مع إحدى دول الناتو، ما عزز يقينها على الخروج من لعبة التصعيد مع الغرب دون المساس بمكتسباتها. ويبدو أن الاشتباك الخطير مع تركيا في عام 2015 عندما أسقطت قاذفة روسية، ومرة أخرى في عام 2020، عندما خلفت اشتباكات تسبب فيها هجوم النظام السوري في إدلب العشرات من قتلى وجرحى الجيش التركي وقوات النظام المدعومة من روسيا، يبدو أنها أقنعت روسيا بأنها قد أتقنت لعبة التصعيد هذه.
إن تدخل روسيا في سوريا قد أعادها للشرق الأوسط كقوة عالمية ووسيط شرق أوسطي يستطيع التحدث مع جميع الأطراف. فالنزاع في سوريا، يقينًا، أوجد روسيا، بطريقة ما، في الشرق الأوسط. فمثلاً، زعماء الخليج، المحبطون من الضعف الظاهر للرئيس السابق باراك أوباما في عدم إنفاذه خطه الأحمر عام 2013 ضد استخدام النظام السوري للأسلحة الكيماوية – والغاضبون من الفشل الأمريكي السابق في دعم الحلفاء القدامى مثل الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك – أعجبوا بتدخل بوتين الحاسم نيابة عن الأسد، بصرف النظر عما يكنون من تحفظات على أوجه محددة منه. يبدو بوتين قاسيًا، ولكنه موثوق به ويمتاز بالفاعلية. كما ساعدت نجاحات روسيا في سوريا على طرد هواجس الشك الذاتي المتبقية والتردد الذي ظل قائمًا بعد الكارثة التي طال أمدها في أفغانستان في الثمانينيات.
وبينما تجري الآن مناورة بوتين الدموية والمربكة في أوكرانيا، فإن عملياتها الواضحة في سوريا قد ساعدت على الدخول بهذه الطريقة لنظام عالمي جديد توجد فيه روسيا، ويمنح صكاً للفوضى والاضطراب والتضليل واللجوء إلى القوة العسكرية والعضلات الدبلوماسية لتخويف وإسكات الخصوم. وسواء من خلال دعم نظام مهدد مثل نظام الأسد أو، في السياق الثقافي الروسي، معالجة المظالم التاريخية الوحدوية، ومحاولة تنحية النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة، الذي يقوم على قواعد ضعيفة تعتمد على الأسواق المفتوحة، والتحالفات الأمنية والمجتمع الديمقراطي، فإن التجربة السورية قد غذت بشكل كبير الثقة لدى روسيا.
يراقب زعماء الخليج بكل حرص، ومن المحتمل أن ينخرطوا في التحوط والابتعاد عن الأضواء، قدر المستطاع، لتجنب الوقوع بين روسيا والولايات المتحدة وأوروبا. كان زعماء دول الخليج واضحين في أن أهم مخاوفهم الرئيسية في السنوات القادمة هو احتمال الوقوع وسط حرب باردة جديدة بين واشنطن وبكين. ولكن بسبب غزو أوكرانيا، فإن هذه المعضلة المزعجة، التي تثير الفزع، قد تبرز بسرعة أكبر فجأة بين موسكو وواشنطن. خلال الأسابيع والأشهر القادمة، على فرض استمرار الأزمة الأوكرانية، من المحتمل أن يزيد المسؤولون الأمريكيون من أشكال الضغط المختلفة على زعماء الخليج. ومن الطبيعي أن تدفع روسيا بشدة في الاتجاه الآخر، وحتى الصين قد تبدي وجهات نظرها، من حيث المبدأ على الأقل.
على الرغم من إمكانية الدفع ضد هذا الضغط إلى الحد الممكن، بينما يتم تجنب إغضاب الولايات المتحدة، فإن هذا يبدو ردًا بديهيًا، فإن الحقيقة هي أن غزو أوكرانيا يوفر فرصة لبعض زعماء الخليج. تستطيع قطر، على سبيل المثال، أن تلعب، بشكل مؤكد، دورًا مهمًا في موازنة أزمة طاقة المرتبطة بالغاز الطبيعي المسال في أغلب أنحاء أوروبا، حتى وإن لم يتم ذلك على المدى القصير، وتستطيع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة المساعدة في استقرار أسعار النفط المتزايدة من خلال زيادة الإنتاج، على الرغم من أن الدلائل الأولية تشير إلى اعتراضهم على ذلك. ومع ذلك، فبالنسبة للأغلبية، تأتي هذه الفرص ومعها مخاطر كبيرة: إذا تعثرت إرادة الولايات المتحدة أو ظهرت تصدعات في الموقف الأمريكي–الأوروبي، فإن أي دولة خليجية تنتقل إلى الدعم المعلن للولايات المتحدة في هذه المسألة تخاطر بأن تكون غير مستعدة للوقوع في حالة من عدم الاستقرار، وتصبح معرضة للغضب والانتقام الروسي. لكن بالنسبة للبعض، فقد تكون هذه المرة الوحيدة في كل جيل لتجاوز الماضي وفتح صفحة جديدة مع إدارة بحاجة ماسة للحلفاء لزيادة الضغط وفرض تكاليف باهظة على روسيا. تاريخيًا، فإن مجلس التعاون لدول الخليج العربية كان مواليًا بشكل قوي لنظام عالمي، مؤسس علي القواعد، بقيادة الولايات المتحدة. إذا دفعت الأزمة الأوكرانية نحو عودة ظهور التحالف الغربي وتصميم لاستعادة النظام نيابة عن الوضع الدولي والإقليمي الراهن، فإن جميع أعضاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية ستكون مستفيدة. وإذا كان بإمكانها المساعدة على تحقيق ذلك، بالمساعدة في تخفيف أزمة الطاقة العالمية ودعم التحالف الدولي الراهن، فقد تختار عمل ذلك. تستطيع دول الخليج العربية أن تجد الكثير من الأمور المرحب بها في فرصة العودة لنظام دولي أكثر أُلفةً ووثوقًا، ولديها القليل لتكسبه من نظام الفوضى والعدوان والإكراه. إن الحرب في سوريا، وصعود حالة عدم الاستقرار الناجمة عن وجود شبكات الميليشيات الإقليمية الإيرانية تبين بوضوح نوع المستقبل الذي يوفره تنامي الفوضى العالمية الذي تهدد به الأزمة الأوكرانية.