بعد قرابة 18 شهراً من صراعٍ مسلح طال أمده، وافقت الفصائل الليبية المتحاربة على وقف إطلاق النار في جنيف في 23 تشرين أكتوبر/الأول، بعد أربع جولات من المفاوضات. قادت الأمم المتحدة جهود الوساطة بين ممثلين عن الفصائل المقاتلة الرئيسية في ليبيا، والتي تشكل اللجنة العسكرية المشتركة 5+5. بعد فترة وجيزة، أطلقت الممثلة الخاصة للأمين العام في ليبيا بالإنابة ستيفاني وليامز عملية منتدى الحوار السياسي الليبي، المنبثقة عن عملية يناير/كانون الثاني في برلين، والتي أقرها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في القرارين 2510 و2542. وبدأ الاجتماع الشخصي الأول لعملية الحوار هذه في التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني في تونس واستمر أسبوعاً واحداً.
اختارت الأمم المتحدة المشاركين الخمسة والسبعين في منتدى الحوار السياسي الليبي من المؤسسات السياسية الرئيسية والمجتمع المدني في البلاد. ووفقًا لبعثة الأمم المتحدة في ليبيا، فإن “الهدف العام لمنتدى الحوار السياسي الليبي (LPDF) سيكون التوصل إلى إجماع بشأن إطار وترتيبات موحدة للحوكمة، تفضي إلى إجراء انتخابات وطنية في أقصر إطار زمني ممكن من أجل استعادة سيادة المؤسسات الليبية وشرعيتها الديمقراطية”. وتوصل المجتمعون إلى إجماع بشأن إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في 24 ديسمبر/كانون الأول 2021، ولكنهم لم يحددوا حكومة موحدة للإشراف على المرحلة الانتقالية. ويعكف المنتدى على وضع خطة لعقد اجتماعات افتراضية لمواصلة العملية. قالت وليامز إنه في الاجتماعات التالية سيتم “التوافق على آلية اختيار السلطة المقبلة”.
في الفترة ما بين 10 و13 نوفمبر/تشرين الثاني، عقدت اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 جولة سادسة من المحادثات الموازية في مدينة سرت الليبية، الواقعة في الوسط، وهي بؤرة التوتر الحالي بين القوات الغربية والشرقية (إضافة إلى داعميهم الأجانب). القائدان السياسيان للفصيلين الرئيسيين في ليبيا – فايز السراج رئيس الوزراء في حكومة الوفاق الوطني المدعومة من الأمم المتحدة ومقرها طرابلس (غرب ليبيا)، وعقيلة صالح رئيس مجلس النواب في الشرق، الذي عين الجنرال خليفة حفتر قائداً للجيش الوطني الليبي عام 2015 – أعلنا وقف إطلاق النار وتجميد التحركات العسكرية حول سرت والجفرة في منتصف أغسطس/آب. أنهى ذلك شهوراً من القتال بين قوات حكومة الوفاق الوطني، المدعومة من القوة العسكرية التركية وتمويل قطري، والجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر. وهذه القوات الشرقية مدعومة بشكل أساسي من الإمارات العربية المتحدة وروسيا ومصر والمملكة العربية السعودية، وفرنسا.
وتضم اللجنة خمسة ضباط كبار من كل من الجيش الوطني الليبي وحكومة الوفاق الوطني. ونظراً لأهمية سرت الاستراتيجية في الصراع، فقد أصبحت المقر الدائم للجنة العسكرية. تفيد التقارير بأن اللجنة ناقشت تنفيذ اتفاق 23 أكتوبر/تشرين الأول لوقف إطلاق النار وكيفية البناء على الجولة الخامسة من المحادثات التي جرت في الأسبوع السابق، وخاصة ما يتعلق بتشكيل لجان عسكرية فرعية للإشراف على انسحاب القوات المحلية والأجنبية من الخطوط الأمامية لجبهة القتال.
تُظهر هذه الجهود زخماً متجدداً لحل النزاع الليبي، ولكن السؤال يكمن فيما إذا كانت القوى الأجنبية الرئيسية، مثل الإمارات وتركيا وروسيا، ستلتزم ببنود اتفاقية وقف إطلاق النار الجديد، وأهمها “وجوب مغادرة جميع المرتزقة والمقاتلين الأجانب الأراضي الليبية”.
دور مجلس الأمن
على الرغم من أن قرار منتدى الحوار السياسي الليبي بإجراء الانتخابات يعد خطوة إيجابية إلى الأمام. إلا أن السؤال السياسي الأخطر هو إنشاء سلطة انتقالية موحدة للإشراف على هذه العملية. وهذا لا يزال نقطة الخلاف الرئيسية. علاوة على ذلك، فإن الهاجس الأكثر إلحاحاً هو تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، وكيفية ضمان احترام الميليشيات الليبية المختلفة وداعميهم الأجانب لبنود الاتفاق، وخاصة حظر الأسلحة من قبل الأمم المتحدة. فقد كانت هذه هي العقبة الرئيسية التي واجهت فعالية جهود الأمم المتحدة لحل الصراع في ليبيا. وعدت القوى الأجنبية، في عدة مناسبات في السنوات العشر الماضية بشكل علني، بالالتزام بشروط وقف إطلاق النار، بينما كانت في الوقت نفسه تقدم الدعم العسكري والمالي والدبلوماسي للفصائل الليبية.
في مقابلة معه جرت في يوليو/تموز، اتهم غسان سلامة، مبعوث الأمم المتحدة الخاص السابق إلى ليبيا، أعضاء في مجلس الأمن بتخريب جهود الوساطة. بعد أن شن حفتر حملة عسكرية للإطاحة بحكومة الوفاق الوطني المدعومة من الأمم المتحدة في أبريل/نيسان 2019، قال سلامة بأنه شعر “بانعدام أهميته” و”أنه طُعن في الظهر من قبل معظم أعضاء مجلس الأمن لأنه في اليوم الذي هاجم فيه حفتر طرابلس، كان معظمهم يدعمونه”. ويجادل سلامة بأن حفتر لم يكن ليفكر في مثل هذه الخطوة العدوانية لولا دعم الأعضاء الرئيسيين في مجلس الأمن.
على الرغم من أن سلامة لم يذكر هذه الدول بالاسم مطلقاً، فمن المرجح أنه كان يشير إلى روسيا وفرنسا والولايات المتحدة. في الواقع، تلقى حفتر مكالمة هاتفية من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مباشرة قبل أن يبدأ هجومه العسكري. وفقًا لبيان البيت الأبيض، فإن ترامب قد أقر “بالدور المهم للمشير حفتر في مكافحة الإرهاب، وتأمين موارد النفط الليبية، وتباحث الاثنان في رؤية مشتركة لانتقال ليبيا إلى نظام سياسي ديمقراطي مستقر”. وأوضح وزير الدفاع آنذاك باتريك شاناهان أن “كل ما نحتاجه من خلال دعمنا للجنرال حفتر هو إرساء الاستقرار الديمقراطي في المنطقة”. وما زاد الطين بلة هو وقوع الهجوم المدعوم على ما يبدو من الولايات المتحدة أثناء زيارة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش لطرابلس.
دأبت روسيا على تقديم الدعم المالي والتكتيكي لحفتر قبل وقت طويل من هجوم طرابلس، وقد تحول ذلك إلى تدخل عسكري مباشر من خلال المرتزقة. بعد الموافقة على وقف إطلاق النار في أكتوبر/تشرين الأول، تم رصد مرتزقة روس في سرت في أوائل نوفمبر/تشرين الثاني. وعلاوة على ذلك، منعت روسيا في 18 نوفمبر/تشرين الثاني قراراً لمجلس الأمن يقضي بتجميد أصول ميليشيا الكانيات وزعيمها محمد الكاني وحظر سفرهم. وقد حاربت المجموعة إلى جانب الجيش الوطني الليبي، واتُهمت بارتكاب عمليات قتل استهدفت المدنيين حول مدينة ترهونة. كما يجادل أنس القماطي وبن فيشمان في تحليلهما حول توسيع دور الولايات المتحدة في ليبيا، “لا يمكن لواشنطن أن تركز فقط على وسط ليبيا، وتتجاهل الحشد المستمر للمعدات العسكرية والأفراد في الشرق (من روسيا والإمارات) وفي الغرب (من تركيا). وما موطئ قدم موسكو في وسط ليبيا إلا امتداد لوجودها العسكري واللوجستي الأكبر في الشرق، بما في ذلك العناصر المتمركزة في قاعدة الخادم الجوية التي شيدتها الإمارات”. كما سيطر المرتزقة الروس على أكبر حقلي نفط في ليبيا خلال الصيف، وذلك لدعم الحصار النفطي الذي يفرضه حفتر، والذي تم رفعه منذ ذلك الحين.
كانت فرنسا تدعم ضمنيًا معظم الحملات العسكرية للجيش الوطني الليبي، بما في ذلك هجوم أبريل/نيسان 2019 على طرابلس، وذلك من خلال إرسال صواريخ وأسلحة أخرى، بالإضافة إلى تقديم تغطية دبلوماسية لحفتر، لأن الفرنسيين يرونه محارباً ضد انتشار الإسلام المتطرف في المنطقة. ومع ذلك، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الوقت ذاته إلى وقف إطلاق النار، واستئناف المفاوضات بوساطة الأمم المتحدة.
كان أعضاء مجلس الأمن يقدمون الدعم لحفتر، في حين أن جميع هذه القوى تزعم أنها تدعم جهود وساطة الأمم المتحدة لحل النزاع. لذلك، ليس من المستغرب أن تجد أن العديد من الليبيين لا يثقون في مباحثات تونس الأخيرة وما يوازيها من حوار عسكري في سرت. يبدو أن الكثيرين يعتبرون أن هذه المباحثات لا تختلف عن سابقاتها مع وجود القليل من الإشارات إلى أن القوى الأجنبية ستلتزم فعلياً بشروط وقف إطلاق النار.
الدور الكبير للإمارات وتركيا في ليبيا
ربما يكون الدور المهيمن للقوى الدولية في الحرب الليبية، إضافة إلى الانقسامات الجيوسياسية والأيديولوجية بينها، هو العائق الأكبر أمام حل الصراع. فتعمل القوى الأجنبية على تمويل الأطراف المعارضة ودعمها، وتقوم في بعض الحالات بتوفير القوات البرية، وتنشر طائرات دون طيار، وتوفر مجموعة من المعدات العسكرية.
أصبحت ليبيا بمثابة الصدع الرئيسي في التنافس بين الإمارات وتركيا في معركة جيوسياسية متجذرة في إرث احتجاجات الربيع العربي، بما في ذلك معارك الديمقراطية والاستبداد، والعلاقات المدنية العسكرية، والإسلام السياسي، وتوازن القوى الإقليمي.
تعتبر الدولتان أهم الداعمين للأطراف المتخاصمة، حيث تقدمان الكم الأكبر من الدعم العسكري والمالي والدبلوماسي. وهذا ما يمنح البلدين دوراً كبيرًا في تحديد مسار الصراع والمستقبل السياسي لليبيا.
يمكن للإمارات وتركيا أن تحافظا على كونهما الوسيطين الأساسيين بين قوى الصراع بأقل تكلفة للدولتين. ففي تقريره المعنون “كيف يعمل المرتزقة في ليبيا على تشكيل الصراع وحله”، يجادل أندرياس كريج بأن “المرتزقة قد منحت الجهات الدولية الفاعلة في كلا الجانبين نفوذاً كبيراً في المفاوضات وإمكانية في تحديد التسوية السياسية النهائية، ووضعهم على قدم المساواة مع الأطراف الليبية الفاعلة في قوتها التفاوضية، وهو أمر خطير… من المرجح أن تتردد الأطراف الخارجية الفاعلة في تسليم أداة الضغط المنفصلة، والتي من المحتمل أن تكون فعالة جداً في الحفاظ على التوازن في المواجهة البديلة، ما يجعل من الصعب على الأمم المتحدة الإشراف على مغادرة قوات المرتزقة، التي يمكن أن تبقى في المسرح مع سياسة الإنكار.”
الكونجرس يستهدف التدخل الأجنبي في ليبيا
كثف الكونجرس الأمريكي مؤخراً ضغوطه على الدول التي تتدخل في ليبيا. بعد محادثات تونس مباشرة، أقر مجلس النواب، بحزبيه، قانون استقرار ليبيا، الذي يحدد الدول المتدخلة في الصراع الليبي، التي تنتهك حظر الأسلحة، الذي تفرضه الأمم المتحدة، وأبرزها تركيا وقطر والإمارات وروسيا ومصر والسودان والمملكة العربية السعودية. كما أن الصين مدرجة أيضاً ضمن هذه الدول، لأن طائراتها المسلحة دون طيار قد استخدمت في الصراع من قبل الأطراف المتنازعة. يدعو قانون تحقيق الاستقرار في ليبيا وزير الخارجية لفتح تحقيق وتقديم “وصف كامل لمدى تدخل الحكومات الأجنبية في الشأن الليبي [بما في ذلك] الحكومات المرتبطة بضربات الطائرات دون طيار والطائرات الحربية” في غضون 90 يوماً.
كما قال أعضاء مجلس الشيوخ من الجمهوريين والديمقراطيين إنهم سيقترحون قرارات لإدانة العرض الذي تقدمت به إدارة ترامب بمقترح لبيع طائرات F-35 إلى الإمارات. في 19 نوفمبر/تشرين الثاني، غرد السناتور كريس ميرفي، وهو ديمقراطي من ولاية كونيتيكت، قائلاً “إن الإمارات العربية المتحدة هي حليفنا، لكن لا مفر من أن الإماراتيين لهم تاريخ في نقل الأسلحة الأمريكية إلى الميليشيات المتطرفة، وقد انتهكوا القانون الدولي في ليبيا واليمن. على أقل تقدير، لا ينبغي أن نتسرع في هذه الصفقة خلال فترة الانتقالية.”
وقف إطلاق النار الهش في ليبيا
وعلى الرغم من كل هذه الجهود، فإن وقف إطلاق النار في ليبيا ما يزال غير يثبت مطلقاً. وبدأت التقارير تظهر بالفعل حشود لقوات حفتر في غرب سرت. حتى إن استمرار المحادثات السياسية من خلال عملية الحوار السياسي الليبي سيكون بلا معنى مع استئناف القتال. وإلى أن تلتزم القوى الأجنبية، التي تتدخل في ليبيا فعلياً بشروط وقف إطلاق النار، وتنسحب من الأراضي الليبية، وتتوقف عن التدخل في الصراع الليبي، فإن العقبات الأساسية التي تواجه حل النزاع لن تختفي.