تواجه جمهورية إيران الإسلامية واحدة من أصعب الفترات في تاريخها. فقد أصبحت الاحتجاجات المتكررة، والإضرابات العمالية، وغيرها من أشكال الاضطرابات المدنية شائعة، وتجتذب الإيرانيين من جميع الطبقات، والخلفيات العرقية، والمقاطعات في البلاد. يندد المتظاهرون بالاقتصاد المتعثر في البلاد والفساد الممنهج، في حين يعيرون آذان صماء لمحاولات النظام المتواصلة إلقاء اللوم لكل ما هو خاطئ في إيران على العقوبات الأمريكية. في الواقع، ينظر العديد من الإيرانيين إلى النظام على أنه السبب الرئيسي ليس فقط للعقوبات، بل لسوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.
في السادس عشر من يوليو/تموز، فاضت الشوارع بسكان بهبهان – وهي مدينة في محافظة خوزستان الإيرانية الغنية بالنفط، ومن الأماكن الأولى التي تم فيها استخدام القوة بعنف لقمع الاحتجاجات في نوفمبر/تشرين الثاني 2019. خرج المتظاهرون يواجهون درجات حرارة تصل إلى 120 درجة فهرنهايت، وخطر الإصابة بفيروس كورونا، يحملون اللافتات، ومرددين شعارات تنتقد النظام. أظهرت سلسلة من مقاطع الفيديو التي نشرت على وسائل التواصل الاجتماعي متظاهرين يهتفون “الموت لخامنئي”، “نظام المُلا، لا نريده”، و”الإيرانيون يفضلون الموت على قبول الذل”، ويدينون في الوقت نفسه سوء إدارة الحكومة للاقتصاد، وقمع الاحتجاجات السلمية وانعدام الأهلية في إدارة شؤون البلاد.
سارعت السلطات الإيرانية في الرد على التجمعات السلمية في بهبهان بقطع الإنترنت، ونشر قوات الأمن في المدينة، وسرعان ما قمعت الاحتجاجات، واعتقلت العديد من “المحرضين” المتورطين والمشاركين في تنظيم “التجمعات غير القانونية والمخالفة للمعايير،” على حد وصف السلطات الإيرانية. وعلى الرغم من أن الاحتجاجات – كما يتضح من مقاطع الفيديو – لم تتجاوز بضع مئات من الأشخاص، إلا أنها سرعان ما امتدت إلى شيراز، إحدى أكبر المدن الإيرانية، ما دفع السلطات إلى نشر قوات الأمن في مدن رئيسية أخرى مثل مشهد وتبريز وأصفهان وطهران.
إن حالة الغضب التي ظهرت في الاحتجاجات الحاشدة على أسعار الوقود في خريف 2019 لم تختفِ. فالمجتمع الإيراني مستمر في إلقاء اللوم على النظام في الانهيار الاقتصادي والفساد الممنهج في البلاد. وأدى التضخم المالي، الذي يتأرجح حول 34٪، إلى تدمير الشركات التجارية والمستهلكين على حد سواء، حيث انخفضت قيمة عملة البلاد، الريَال، بنسبة تصل إلى 70٪، منذ انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية “خطة العمل الشاملة المشتركة” النووية. ووفقًا لبعض التقديرات، يعيش حوالي 10-12 مليون إيراني في فقر، بينما ارتفعت تكلفة السلع أضعافًا مضاعفة- فقد ارتفع سعر الخبز، على سبيل المثال، ثلاثة أضعاف.
وفي غضون ذلك، فإن الفساد الممنهج في كلٍ من القطاعين العام والخاص جعل من الصعب على الجمهور الإيراني الوثوق بإمكانيات الحكومة في إرساء مؤسسات نظيفة وشفافة. ووفقًا لمؤشر قياس الفساد لمنظمة الشفافية الدولية، تحتل إيران المرتبة 146 من أصل 180 دولة، وقد كانت في المرتبة الـ 130 في عام 2017، ما يعني أن الفساد قد تفاقم. وقد ظهرت قضايا فساد لأشخاص رفيعي المستوى في الحكومة، لاسيما في القضاء في البلاد، للعيان أمام الجمهور الإيراني. فعلى سبيل المثال، تم مؤخرًا اتهام العديد من المسؤولين القضائيين، بمن فيهم قاضٍ بارز وحتى النائب التنفيذي السابق للمؤسسة القضائية، بجمع رشاوى من المتهمين الذين يسعون للحصول على نتائج إيجابية في محاكماتهم. حتى إن شقيق الرئيس حسن روحاني، حسين فريدون، حكمت عليه الحكومة بالسجن لمدة خمس سنوات بتهم الفساد والرشوة.
في القطاع الخاص، أتاحت الرقابة الحكومية السيئة الفرصة للفساد بالانتشار في مختلف الشرائح الاقتصادية، بما في ذلك قطاع السيارات، وتجارة العملة، والنفط والغاز، والمعدات الطبية، وإنتاج الصلب، والصناعات الورقية، والشحن البحري. قام النظام بسجن أو إعدام أعداد لا تحصى من رجال الأعمال –الذين غالبًا ما كان يطلق عليهم اسم “السلاطين“– والذين ضبطوا متورطين في جرائم مثل التجارة غير المشروعة، والاختلاس، والرشوة. ومع ذلك، فإن مثل هذا الفساد لا يؤثر فقط على عدد قليل من رجال الأعمال الأثرياء؛ بل يؤثر على نطاق واسع من الطبقة العاملة في إيران.
أدى الفساد وسوء معاملة الموظفين، إضافة إلى الصعوبات الاقتصادية، إلى العديد من الإضرابات العمالية في جميع أنحاء إيران. في الثاني من أغسطس/آب، قام عمال من مختلف القطاعات الصناعية، بمن في ذلك موظفو المصانع والممرضون والممرضات وعمال البلديات وعمال مناجم الفحم، بتنظيم إضرابات عمالية في طهران، وأصفهان وخوزستان والأهواز وتبريز وغيرها من الأماكن. كانوا يشتكون من عدم دفع أجورهم والأجور المتدنية والفساد، وربما الأهم من ذلك كله، ونظراً لمشكلة البطالة المتأصلة في البلاد، وانعدام الأمن الوظيفي– فإنه يتم استخدام العديد من العمال في إيران بعقود مؤقتة. بالنسبة لقطاع النفط والغاز المتعثر في البلاد، فإن الإضرابات العمالية أثرت على العديد من مصافي النفط ومجمعات البتروكيماويات في جنوب غرب إيران، حيث ردد العمال شكاوى من عدم دفع الأجور، بالإضافة إلى ظروف العمل المروعة، حيث وصلت درجات الحرارة في المناطق الغنية بالنفط في البلاد إلى 122 درجة فهرنهايت.
كما أصبح غضب الإيرانيين من أجندة السياسة الخارجية لبلادهم موضوعاً متكررًا في الاحتجاجات. عندما قُتل اللواء قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني (الشخص الأكثر ارتباطاً بالأنشطة إيران المزعزعة للاستقرار في جميع أنحاء الشرق الأوسط)، في غارة بطائرة أمريكية دون طيار في يناير/كانون الثاني، قام العديد من الإيرانيين، بدلاً من التعبير عن تقديرهم للبطل القومي، بمشاركة تغريدة (الإيرانيون يكرهون سليماني) #Iraniansdetestsoleimani. غالباً ما يردد المتظاهرون في الاحتجاجات شعارات مثل “لا غزة ولا لبنان، أُضحي بحياتي من أجل إيران”، تعبيراً عن استيائهم من سياسات الحكومة في دعم الميليشيات في بلدان مثل العراق ولبنان وسوريا. في عام 2018، قال أحد المتظاهرين الإيرانيين: “الاحتجاجات التي نشهدها نابعة من اليأس”، وأردف قائلا: “لا أريد أن يُنفق حتى سنت واحد من أموال بلدي خارج هذا البلد بسبب الوضع الاقتصادي السيئ لشعبنا”.
بدلاً من معالجة مظالم مواطنيها، غالباً ما ترد الحكومة بالقوة الوحشية، فتعتقل المتظاهرين وتعذبهم، بل وتعدمهم، وهو ما يزيد فقط من غضب الإيرانيين على النظام. عندما حكمت الحكومة مؤخراً على ثلاثة رجال بالإعدام لمشاركتهم في الاحتجاجات على أسعار الوقود عام 2019، اجتمع إيرانيون، من جميع أنحاء البلاد وحول العالم معاً على تويتر، احتجاجاً على العقوبة القاسية باستخدام هاشتاج (لا تُعدم) (#do_not_execute). في غضون أيام قليلة فقط، تمت إعادة تغريد الهاشتاج أكثر من 7 ملايين مرة.
على الرغم من ازدراء الإيرانيين لإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وحملة “الضغوط القصوى”، يرى العديد من الإيرانيين أن النظام هو المصدر الرئيسي للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه البلاد. في الوقت الذي قد يستمر المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي وغيره من قادة الحكومة في إلقاء اللوم على الولايات المتحدة في مشاكل البلاد، إلا أن الإحباط والغضب تجاه الحكومة قد يؤدي إلى احتجاجات أكبر وأكثر تنظيماً تدعو إلى التغيير في البلاد.
ومع ذلك، وإذا استرشدنا بالتاريخ، فإن الحكومة الاستبدادية للجمهورية الإسلامية لن تقوم بإجراء تغييرات جوهرية لتلبية احتياجات المواطنين المطالبين بمزيد من الشفافية، وسيادة القانون، ومساءلة المسؤولين الحكوميين، والإصلاحات الديمقراطية. وبدلاً من ذلك، يشير سجل النظام على مدى السنوات الـ41 الماضية إلى أنه سيلجأ إلى الأساليب التي استخدمها مراراً وتكراراً طوال تاريخه: القوة الوحشية وقمع المعارضة.