مع دخول العملية العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة شهرها السابع، يصعب على خبراء الإغاثة ومسؤوليها توصيف الوضع الإنساني المتدهور، الذي وصل لمستويات كارثية. فقد حذر رئيس برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة من أن “المجاعة ستصبح حقيقة واقعة في قطاع غزة بحلول شهر مايو/أيار، حيث من المحتمل تعرض ما يزيد عن نصف مليون شخص للخطر”. كما دق برلمان الاتحاد الأوروبي ناقوس الخطر في منتصف مارس/آذار محذرًا من “خطر المجاعة الجماعية في قطاع غزة الذي يلوح في الأفق”. وبعد فترة وجيزة، أنذرت اليونيسف من أن معدلات سوء التغذية الحاد قد تضاعفت في شهر واحد، وهو “تصعيد مهول” وفقًا لخبراء الإغاثة، حيث يعاني الآن واحد من كل ثلاثة أطفال في القطاع من سوء التغذية الحاد. وفي تقرير صدر في 18 مارس/آذار، قدرت مبادرة التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، وهي الهيئة الرئيسية المعنية بحالات الطوارئ الغذائية، أن 1.1 مليون شخص، أي نصف سكان قطاع غزة، سيواجهون مستويات كارثية من الجوع والمجاعة في الفترة الممتدة بين الآن وحتى شهر يوليو/تموز. كما أصر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، بعد صدور التقرير، على أن ما من دولة أو منطقة أخرى في العالم تواجه مثل هذا الخطر، أو تلقت مثل هذا التصنيف الوخيم.
والمشكلة لا تكمن في قلة الإمدادات الغذائية التي تدخل قطاع غزة فحسب، بل في دمار الخدمات الأساسية اللازمة للإسهام في تجنب المجاعة، مثل الرعاية الصحية وشبكات الكهرباء والمياه والصرف الصحي. ويوضح مسؤولو الإغاثة أن المجاعة، التي تلوح في الأفق، “من صنع الإنسان وناجمة بالدرجة الأولى عن القيود المفروضة على الحصول على المساعدات”، حيث تتوفر مئات الأطنان من المواد الغذائية الجاهزة للتوزيع على بعد أميال فقط خارج مدينة رفح. وقد أدى نزوح ثلاثة أرباع سكان غزة، الذين اضطروا في كثير من الأحيان لترك أماكنهم لأكثر من مرة، إلى تفاقم الأزمة أيضًا.
وتشير مسودة القرار، قيد النظر حاليًا، المقدم لمجلس الأمن، والذي قدمته الولايات المتحدة، إلى “مستويات كارثية من الجوع” وإلى الخطر الذي تشكله “المجاعة والأوبئة الناجمة عن الصراع” على سكان قطاع غزة. وتدعو المسودة إلى وقف فوري ومستدام لإطلاق النار، مع إسقاط أي إشارة في القرار إلى حالة “مؤقت”، التي كانت الولايات المتحدة قد أصرت عليها سابقًا. كما تدعو المسودة إلى إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين، ورفع القيود المفروضة على إيصال المساعدات الإنسانية.
ويشير المسؤولون والخبراء الذين يواصلون سعيهم لمعالجة هذه الأزمة الإنسانية إلى عدد من الأسباب الرئيسية، بما في ذلك:
- التأخير عند نقاط التفتيش الإسرائيلية، والعنف الذي تتعرض له قوافل المساعدات.
- القواعد التنظيمية الإسرائيلية المبهمة أو غير الضرورية، والتي تتعلق بالمواد المسموح بدخولها أو المحظورة (ما يسمى بالمواد ذات الاستخدام المزدوج).
- انهيار النظام المدني الناتج عن “اليأس المطلق“.
- القيود الإسرائيلية المفروضة على عدد من المنافذ البرية، واستهداف الشرطة المدنية المسؤولة عن حماية قوافل المساعدات. أضف إلى ذلك أن إرسال المساعدات الإنسانية جواً هو أمر مكلف وخطير، ومثله مثل إرسال المساعدات عن طريق البحر، محدود الحجم بأضعاف المرات مقارنة بضخامة المساعدات البرية المحمولة بواسطة الشاحنات.
لقد كان وما يزال لهذه الأسباب والظروف تأثير هائل على قطاع غزة، بعد سيطرة حركة حماس عليه في عام 2007، والحصار الذي فرضته إسرائيل على القطاع منذ ذلك الحين. إن تشديد الحصار الجوي والبري والبحري بنظام تطلق عليه منظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية “نظام التصاريح“، الذي تديره وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق، التابعة للحكومة الإسرائيلية، كان قد حول قطاع غزة إلى سجن مفتوح قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول بوقت طويل. وأدى هذا الحصار إلى فترة طويلة من “تراجع عملية التنمية” في القطاع، والتي امتدت على مدار العقد الماضي، مما جعل القطاع عرضة للظروف التي فرضت عليه منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول بشكل شديد. فعلى سبيل المثال، انكمش نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في قطاع غزة في عام 2022، أي قبل الأزمة الحالية بوقت طويل، بنسبة 12٪ تقريبًا مقارنة بمستويات عام 2019. كما بلغت البطالة في عام 2022 نسبة 45٪. وفي السنوات التي سبقت السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كان 80٪ من سكان قطاع غزة يعتمدون على المساعدات الإنسانية الدولية.
وتزداد حدة مخاطر الكارثة الإنسانية التي يواجهها قطاع غزة اليوم بسبب العملية العسكرية الإسرائيلية المستمرة، والتي أودت بحياة ما يقرب من 32 ألف شخص، معظمهم من النساء والأطفال، ناهيك عن التهديد المتنامي لهجوم محتمل على رفح.
دول الخليج تقدم المساعدات وتصرح بالانتقادات العلنية لتشكيل التعاطي مع الأزمة
وفي خضم هذه الدوامة، تواصل عدد من دول الخليج بذل جهود دؤوبة للتعاطي مع هذه الأزمة بشكل مناسب. وتراوحت الإجراءات من المساعي الدبلوماسية الخاصة والمناورات وراء الكواليس، وصولًا إلى الانتقاد العلني لإسرائيل، والجهود المكثفة لتمويل وتقديم المساعدات لقطاع غزة.
وعلى الجانب الإنساني، تعاون الإماراتيون والمصريون منذ شباط/فبراير على توصيل الإمدادات الغذائية إلى قطاع غزة جوًا. كما قاموا مؤخرًا بتمويل شحنة بحرية من قبرص بلغ وزنها مئتي طن من الإمدادات الغذائية رتبتها منظمة المطبخ المركزي العالمي (World Central Kitchen)، وهي منظمة اغاثية إسبانية يقودها الطاهي الشهير خوسيه أندريس (José Andrés).
وأفادت التقارير أن الإمارات العربية المتحدة لعبت دورًا أساسيًا في الضغط على الولايات المتحدة لأخذ زمام المبادرة في بناء مرفأ عائم لتفريغ المساعدات الإنسانية القادمة لقطاع غزة. وفي سياق ممارسة الضغوط، هددت الإمارات، بصورة غير مؤكدة، بأنها ستوقف الجسر التجاري البري إلى إسرائيل الذي يمر عبر السعودية والأردن، والذي تم إنشاؤه بعد أن أوقفت هجمات الحوثيين معظم حركة الشحن في البحر الأحمر، إن لم تدخل المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة. وتشير تقارير إعلامية أخرى إلى أن الرئيس الإماراتي محمد بن زايد آل نهيان رفض الاتصال مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول في سياق ضغوط غير مباشرة تهدف على ما يبدو إلى تعميق عزلة الزعيم الإسرائيلي. كما كان هناك انتقاد رسمي لاذع للإجراءات الإسرائيلية في قطاع غزة، بما في ذلك من قبل سفيرة الإمارات لدى الأمم المتحدة، لانا نسيبة. بالإضافة إلى ذلك، سُمح لقائد شرطة كبير في دبي، وإن تحدث بصفته الشخصية، بِحثّ القادة العرب على إعادة النظر في كيفية التعامل مع إسرائيل. وقد مارس السعوديون ضغوطًا لفظية وفعلية للتراجع عن المحادثات المتعلقة بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وشددوا على المطالب التي تدعو إلى إقامة دولة فلسطينية.
وتستضيف الإمارات أيضًا القائد السابق لقوات الأمن في قطاع غزة محمد دحلان، وتسمح له، بصفته كبير مستشاري القيادة الإماراتية، بالمناورة خلف الكواليس وفي وسائل الإعلام لبناء الدعم لخطة اليوم التالي في قطاع غزة. أما بالنسبة للدبلوماسية التجارية، فقد انسحبت شركة النفط الوطنية الإماراتية أدنوك وشريكتها بريتيش بتروليوم في 13 مارس/آذار، من صفقة غاز بقيمة ملياري دولار كان من المفترض أن تقام مع شركة نيوميد، أكبر منتج وطني للغاز في إسرائيل. ويبدو أن الإماراتيين يستخدمون الإشارات الإيجابية لتذكير الإسرائيليين بفوائد التطبيع مع الإمارات، بما في ذلك السفارة الإسرائيلية المفتوحة في أبوظبي، واستمرار الرحلات الجوية المباشرة، والسماح لوزير الاقتصاد والصناعة الإسرائيلي في فبراير/شباط بحضور اجتماع لمنظمة التجارة العالمية في أبوظبي، أول زيارة على المستوى الوزاري منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
السعوديون يتراجعون عن التفكير في تطبيع العلاقات
انضم كل من الإماراتيين والسعوديين إلى آخرين في إدانة إسرائيل بشدة لفتحها النار في أوائل مارس/آذار على الفلسطينيين الذين كانوا ينتظرون تسلم المساعدات الغذائية، مما أسفر عن مقتل أكثر من مئة شخص، وفقًا لوزارة الصحة في قطاع غزة. وذهب المفكر والكاتب السعودي هشام الغنام إلى أبعد من التشكيك في قيمة تطبيع العلاقات، حيث أصر في 25 فبراير/شباط، على موقع “المجلة” الإخباري المملوك للسعودية، على أن إسرائيل أصبحت “عبئًا أخلاقيًا” على من يتعامل معها، وتساءل عما إذا كان السلام مع إسرائيل مرغوبًا فيه بعد الآن، في ضوء ما وصفه بالفظائع التي ارتكبتها في قطاع غزة، والهيمنة العسكرية على العرب التي تسعى إسرائيل لإظهارها. وأشار الغنام بصراحة إلى السياسة السعودية في عدة نقاط، واستشهد بولي العهد السعودي محمد بن سلمان بصورة صريحة، منوهًا بأنه يعكس وجهات نظر سعودية رفيعة المستوى.
القطريون يواصلون المفاوضات للتوصل لوقف إطلاق النار واستعادة الرهائن
وعلى الجبهة الدبلوماسية الرسمية، يواصل القطريون استضافة مفاوضات غير مباشرة مرتبطة بإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين. وقد استأنف الطرفان، بما في ذلك الفريق الإسرائيلي بقيادة الموساد، جهودهما في 17 مارس/آذار في الدوحة، على أن تواصل الفرق الفنية المحادثات بعد أيام.
ومع تزايد الضغط الدولي الهائل لتفادي المجاعة الوشيكة في قطاع غزة، ومع إصرار إسرائيل الشديد على المضي قدمًا في عملية رفح العسكرية، يمكن أن تكون للأيام المقبلة عواقب سلبية طويلة الأجل على عملية التطبيع الخليجية-الإسرائيلية. وتبدو إسرائيل، التي تقودها حكومة همها فقط الاعتبارات السياسية الداخلية، وما لحق من صدمة وغضب بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، غير راغبة أو غير قادرة على الاستجابة لهذا الضغط، أو لهلع مسؤولي الإغاثة الدوليين والحلفاء والأصدقاء القدامى المتنامي. وفي حين يبدو أن الانزلاق السريع من حالة انعدام الأمن الغذائي الحاد في غزة إلى مجاعة قد بدأ، فمن المرجح أن يكون رد الفعل الدولي أبطأ منه. ومع تفاقم الأدلة وتصاعد رد الفعل الدولي، ستتعرض مكانة إسرائيل لضربة هائلة. ومن المرجح أن تواجه الجهود الرامية لتطبيع العلاقات مع باقي دول الخليج أضرار جسيمة أيضًا.