لعل مصطلح “الشرق الأوسط” قد بدأ يفقد بعضًا من أهميته لصالح مصطلح “غرب آسيا” الأقل مركزية أوروبيًا، ولكن المنطقة تقع حقًا وسط اقتصاد ثلاث قارات. حيث تقع أفريقيا في الجنوب الغربي، وأوروبا في الشمال الغربي، ووسط وجنوب آسيا في الشرق والشمال الشرقي. وقد يكون لذلك أهمية كبيرة في الربط الكهربائي المستقبلي الأكبر.
تعد التجارة الدولية في الكهرباء اليوم ضئيلة للغاية، ويتم نحو 80% من إجمالي هذه التجارة داخل أوروبا في ظل سوق واحدة وكثافة جغرافية وبنية أساسية راسخة. فمعظم الدول تعتمد بشكل كامل تقريبًا على توليد الكهرباء داخل حدودها. هذا الوضع سيختلف تمامًا بحلول منتصف القرن.
يحب أنصار البيئة شعار “لنحول كل شيء للكهرباء”ــ حسب تصورات سيناريو صافي الانبعاثات الصفري الصادر عن الوكالة الدولية للطاقة، فإن أكثر من 50% من الاستخدام النهائي للطاقة سيأتي على شكل إلكترونات بحلول عام 2050، مقابل 20% الآن. يتم تفضيل الكهرباء، التي يمكن توليدها بطرقٍ منخفضةٍ الكربون من مصادر الطاقة المتجددة، أو المفاعلات النووية، أو محطات توليد الطاقة التي تقوم باحتجاز الكربون وتخزينه، أن تحل محل النفط والغاز والفحم في التدفئة المنزلية والعمليات الصناعية والمركبات البرية.
وحتى إذا لم يتم تحقيق مثل هذه السيناريوهات بشكل كامل، فإن حصة الكهرباء سوف ترتفع بدرجة كبيرة بسبب نظافتها وفاعليتها عند الاستخدام كمصدر للطاقة. كما ستزداد نسبة الكهرباء المستخرجة من المصادر المتجددة – الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة المائية وطاقة الكتلة الحيوية وطاقة الحرارة الأرضية وغيرها. ويُظهر سيناريو الوكالة الدولية للطاقة تضاعف إجمالي توليد الطاقة المتجددة في العالم، في حين تتوقع الوكالة الدولية للطاقة المتجددة – التي تتخذ من أبوظبي مقرًا لها – أن ترتفع حصة الطاقة المتجددة في توليد الطاقة من 25% إلى 85%.
وهذا بدوره يتسبب في مشكلة موازنة الشبكات مع المدخلات التي تتغير بشكل موسمي، ليلًا ونهارًا، وحتى في غضون دقائق عندما تحجب الغيوم الشمس أو تشتد الرياح أو تهدأ. وسوف تكون أنظمة التخزين، مثل البطاريات والسدود الكهرومائية التي تعمل في الاتجاه المعاكس، مفيدة. ولكن هناك عنصر أساسي آخر هو الربط الكهربائي عبر المسافات الطويلة. وهذا سينقل الطاقة الكهربائية من مواقع الطاقة المتجددة المفضلة (الأماكن المشمسة وشديدة الرياح والرطبة والمرتفعة) إلى مراكز الطلب، وسيعمل على تخفيف تأثير التقلبات المحلية في الطقس، وتوليد الطاقة الكهربائية بالتوازي مع تغير الوقت – نقل الطاقة الشمسية من منطقة لا تزال تتعرض لأشعة الشمس إلى منطقة حل عليها الظلام.
وتتجلى هذه التوجهات بوضوح حتى في الشرق الأوسط الغني بالنفط. حيث شكلت الكهرباء 10% من إجمالي الطاقة المستخدمة في عام 1990، و13% في عام 2010، و15% في عام 2019 (كل ما تبقى كان تقريبًا من النفط والغاز). ولا يزال توليد الطاقة الشمسية ضئيلاً على الرغم من الأحوال الجوية المشمسة، ولكنها سجلت ارتفاعًا بلغ معدله ما يقارب 60% سنويًا منذ عام 2010.
تحتفظ جميع دول مجلس التعاون الخليجي ومعظم دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بقدرات إنتاجية أو أهداف في مجال الطاقة المتجددة، وغالبًا ما تكون طَموحة للغاية. على سبيل المثال، تود السعودية الوصول إلى 58.7 جيجا وات من الطاقة المتجددة بحلول عام 2030، بما في ذلك 40 جيجا وات من الطاقة الشمسية الكهروضوئية، و2.7 جيجا وات من الطاقة الشمسية الحرارية، و16 جيجا وات من طاقة الرياح، وذلك مقارنة بقدرتها الحالية على توليد الطاقة التي تبلغ 81 جيجا وات كلها تقريبًا من احتراق النفط والغاز، ومن ضمن هذه الكمية، بلغت القدرات المتجددة المثبتة في عام 2022 فقط 0.4 جيجا وات، ولكن هناك العديد من المشاريع الكبيرة قيد الإنشاء، حيث يصل مجمل طاقتها إلى 11.3 جيجا وات. وفي مايو/أيار، تمت الموافقة على انشاء ثلاثة مشاريع رئيسية للطاقة الشمسية تبلغ طاقتها الكلية 4.55 جيجا وات. تخطط شركة مياه وكهرباء الإمارات لزيادة قدرات الطاقة الشمسية لديها إلى 16 جيجا وات بحلول عام 2035، في حين أن هيئة كهرباء ومياه دبي على وشك استكمال أو تحقيق كامل إمكانيات مجمع محمد بن راشد للطاقة الشمسية، والتي تبلغ 5 جيجا وات، كما وصلت دبي إلى 0.5 جيجا وات إضافية من الطاقة الشمسية المولدة علي “الأسطح” في عام 2022.
يمكن لعملية تكييف الهواء أن تشكل ما يصل إلى 60% من ذروة الطلب الصيفي على الطاقة في دول الخليج. ويتزامن هذا بشكل جيد، ولكن ليس كما يجب، مع أقصى إنتاج للطاقة الشمسية. انخفاض درجات الحرارة يعني أن أكبر فائض من الطاقة الشمسية سيتوفر في الربيع. وبشكل يومي، غالبًا ما يكون الطلب الأكبر في وقت مبكر من المساء في الصيف، عندما يعود الناس من العمل إلى منازلهم، ويستمر تشغيل الأضواء وأجهزة الطهي والتلفزيونات، حتى في الوقت الذي يظل فيه الطقس حارًا ورطبًا. لذلك، هناك حاجة إلى البطاريات وآليات التخزين الأخرى، مثل منشأة توليد الطاقة الكهرومائية التي تعكف هيئة كهرباء ومياه دبي على إنشائها في مدينة حتا الجبلية في الإمارات العربية المتحدة.
ويتطلب النجاح الكبير في مجال الطاقة الشمسية تعديلات في الشبكة، للحفاظ على استقرار الجهد الكهربائي حتى في ظل التقلبات في الطلب والمدخلات المتجددة. تم تنفيذ هذه المهمة تقليديًا عن طريق عملية القصور الذاتي في المعدات الدوارة (توربينات الغاز)، ولكن مع تقليل استخدامها، يجب إضافة أنظمة أخرى. ولا بد من تعزيز شبكات التوزيع المحلية ليتسنى لها استيعاب تدفقات أكبر من التوليد الذاتي من ألواح الأسطح، في حين أن الاستخدام المتزايد للمركبات الكهربائية سوف يتطلب، على المدى البعيد، قدرة أكبر على الشحن في نقاط معينة. يمكن للشبكات الذكية وعملية القياس طيلة اليوم أن تساعد في تحقيق التوازن بين الطلب والمدخلات المتقلبة، والاستفادة من استخدام طرق تخزين الكهرباء، مثل البطاريات والتخزين الحراري المرتبط بالتبريد.
تعالج مثل هذه التدابير التحديات على المستوى المحلي، ولكن تحقيق توازن الشبكة على المستوى الإقليمي، واستغلالها على أكمل وجه يعد مشكلة أخرى. لقد تم إنشاء هيئة الربط الكهربائي لمجلس التعاون الخليجي في عام 2001، وتم الانتهاء من ربط الدول الأعضاء الست في عام 2011، بقدرةٍ حدها الأقصى 1.2 جيجا وات من الشبكة الأساسية. ويحدث معظم تبادل الكهرباء في فصل الصيف عندما يكون الطلب مرتفعًا على تكييف الهواء.
لكن لا يوجد في الدول الأعضاء الست سوق حقيقية للكهرباء سوى في سلطنة عمان، حيث انطلقت تلك السوق في مارس/آذار 2022. في بقية الدول، يوجد في أفضل الحالات كميات صغيرة من الإنتاج الخاص، الذي يُباع عادة لمشترٍ حكومي واحد بسعر محدد. لذا فإن هيئة الربط الكهربائي لدول مجلس التعاون الخليجي تعمل في الغالب على تقاسم أحتياطيات توليد الكهرباء وتغطية أعطال الطوارئ، وليست كوسيلة للتجارة الروتينية على نطاق واسع أو على أسس تجارية في الكهرباء. في عام 2021، على سبيل المثال، كان 97% من التداول يتم على أساس عيني بدلاً من تسويته نقدًا، وبلغ إجمالي التبادل أقل من 0.2% من توليد الكهرباء في الدول الأعضاء الست. وفي المقابل، في عام 2022، تلقت المملكة المتحدة ما يقارب 5% من الكهرباء التي تستهلكها من شبكات الربط الكهربائي الدولية.
وتعمل شبكة دول مجلس التعاون الخليجي على ربط العراق عبر الكويت بقدرة أولية تبلغ 0.5 جيجا وات، قابلة للزيادة إلى 1.8 جيجا وات. وتقدر ذروة الطلب الصيفي في العراق، خارج منطقة كردستان، التي تتمتع بالحكم الذاتي، بنحو 34 جيجا وات، لكن الشبكة العراقية المتهالكة يمكنها توفير 26 جيجا وات في أفضل الأحوال. ويأتي ما يقدر بـ جيجا وات واحد من هذه الطاقة من إيران، عندما تتمكن طهران من توفير الطاقة الكافية، وتستطيع بغداد إدارة المدفوعات. لقد تراجعت طموحات إيران في أن تصبح مُصدرًا رئيسيًا للكهرباء للعديد من جيرانها، مثل أفغانستان وباكستان، وذلك مع حدوث نقص في الكهرباء في الداخل.
تحرص دول مجلس التعاون الخليجي، وبتشجيع من الولايات المتحدة، على إعطاء العراق خيارات أخرى. وتعمل الأردن كذلك على الربط الكهربائي مع العراق بمقدار 0.15 جيجا وات، وتزداد لتصل إلى 0.5 جيجا وات، وتزود تركيا شمال العراق بكميات صغيرة من الكهرباء.
هذه روابط التيار المتردد، وتعد الطريقة المعتادة التي تعمل بها شبكات نقل الكهرباء. بالنسبة لعمليات الربط لمسافات طويلة، يفضل التيار المستمر عالي الجهد، لأن مقدار الفاقد في الطريق أقل بكثير، على الرغم من أنه يتطلب محطات تحويل في كل طرف، ولا يمكنه خدمة النقاط الوسيطة. ولكن مع التيار المستمر عالي الجهد، أو حتى التيار المستمر ذي الجهد فائق العلو، الذي تعد الصين رائدته، فإنه من الممكن لدول مجلس التعاون الخليجي والشرق الأوسط أن تحقق آمالها في تصدير بعض موارد الطاقة الخاصة بها على شكل إلكترونات.
ويتم حاليًا إجراء عملية ربط بقدرة 3 جيجا وات بين المدينة المنورة في السعودية وبين مدينة بدر في مصر، ومن المخطط أن تبدأ العمليات في يونيو/حزيران 2025 بعد عدة سنوات من التطوير. وتجري حاليًا دراسة جدوى لمشروع ربط أوروبا بأفريقيا [يورو-أفريكا انتركونيكتور (EuroAfrica Interconnector)] بقدرة 2 جيجا وات، ويمتد من مصر إلى قبرص وجزيرة كريت وصولًا إلى البر الرئيسي اليوناني. وسيبدأ مشروع ربط أوروبا بآسيا [يورو-آسيا انتركونيكتور (EuroAsia Interconnector)] الممول من الاتحاد الأوروبي بقدرة 1 جيجا وات من إسرائيل ويتبع المسار نفسه.
وإذا اتجهنا غربًا، هناك خطط لربط تونس بإيطاليا (0.6 جيجا وات)، والجزائر بإيطاليا (بقدرة تصل إلى 2 جيجا وات)، في حين أن المغرب مرتبطة بالفعل بإسبانيا (0.8 جيجا وات). تطمح الجزائر لرفع صادراتها من الكهرباء إلى أوروبا لتصل إلى 8 جيجا وات، مع أنه ينبغي النظر إلى هذا الأمر بعين ناقدة بسبب التاريخ الطويل من التأخيرات. أما المشروع الأكثر طموحًا، فهو إكس لنكس (Xlinks)، الذي من شأنه أن ينقل 3.6 جيجا وات من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح من المغرب إلى المملكة المتحدة، من خلال كابل تحت البحر بطول 2300 ميل، لتلبية ما يصل إلى 8٪ من الطلب البريطاني. في شمال غرب أوروبا، حيث يمكن للظلام والأحوال الجوية الباردة أن تضرب في الشتاء لأسابيع في بعض الأوقات، وهي فترة أطول مما يمكن للبطاريات وحدها أن تغطيها، فثمة حاجة لتكملة قدرات الطاقة الشمسية المحلية وطاقة الرياح بإمدادات من مناطق جغرافية أخرى.
ثمة اقتراح آخر، قدمه التحالف الدولي للطاقة الشمسية، لربط سلطنة عمان مع شمال غرب الهند، وتبادل الكهرباء في الاتجاهين، والاستفادة من ساعات النهار المختلفة وأنماط الطلب الموسمية. ويمكن لهذا الربط، في نهاية المطاف، أن يستخدم الموارد المائية للدول المحيطة بحزام الهيمالايا – طاجيكستان وقرغيزستان ونيبال وبوتان – كنوع من البطاريات للعمل على توازن النظام بأكمله.
ومن شأن مثل هذه المشاريع في نهاية المطاف أن تربط دول مجلس التعاون الخليجي وشرق البحر المتوسط وشمال أفريقيا مع أوروبا من الغرب والشمال، ومع جنوب ووسط آسيا من الشرق في شبكة عابرة للقارات. وهذا من شأنه أن يشكل جزءًا أساسيًا من مخططات ليو زينيا (Liu Zhenya) الرئيس السابق لشركة ستيت غريد كورب (State Grid Corp) الصينية، لإنشاء شبكة طاقة عالمية بتكلفة 50 تريليون دولار. سيكون الشرق الأوسط مركزًا للشبكة العنكبوتية الكهربائية.
لكن مثل هذه الأحلام تواجه تحديات هائلة. إن عمليات الربط في الشرق الأوسط المذكورة أعلاه لن تلبي سوى أجزاء بسيطة من الطلب. فالدول ليست مستعدة للاعتماد على الدول المجاورة التي قد تكون مثيرة للمشاكل أو على دول العبور الصعبة لتوفير كميات كبيرة من احتياجاتها من الكهرباء. ترغب أوروبا في الحصول على الكهرباء قليلة الكربون، والتنويع في مصادر الطاقة بعيدًا عن روسيا، ولكنها أيضًا ستتوخى الحذر من أن تعهد بالكثير من أمن الطاقة لديها إلى شمال أفريقيا.
تشهد دول شمال أفريقيا، في هذه الأثناء، ارتفاعًا سريعًا في احتياجاتها من الكهرباء؛ فمصر تعاني حاليًا من نقص في الغاز والكهرباء. ولا ترغب هذه الدول في تكرار نموذج الموارد المستخرجة البحت. وعلى المدى الطويل، تتمتع هذه الدول بمساحات شاسعة من الأراضي المشمسة والرياح، وقد لا ترغب في الكثير من المنافسة من مجلس التعاون الخليجي كدول مُصدرة للكهرباء، أو الهيدروجين الأخضر من المدخلات نفسها.
تعد تجارة الكهرباء مرتفعة في الاتحاد الأوروبي (ومنخفضة في كافة المناطق الأخرى تقريبًا) بسبب الأنظمة القانونية والتجارية الآمنة والأسواق المتكاملة. وإذا كانت التجارة منخفضة إلى هذا الحد حتى داخل مجلس التعاون الخليجي، ومعظمها قائمًا على أُسس عينية تفتقر للشفافية، فإنها ستكون أصعب بكثير في أماكن أخرى من المنطقة. من شأن تحسين عمليات الربط الكهربائي أن يدعم العلاقات الاقتصادية ويحسن المصداقية والتكلفة، ولا سيما في عصر الطاقة المتجددة الكثيفة الناشئة. صحيح أن جميع عمليات الربط العملاقة بين القطاعات جيدة للغاية، إلا أن المنطقة تحتاج أولاً إلى عملٍ دؤوب للارتقاء بالمستوى التقني، وإصلاح السوق والتكامل والتبادل التجاري والشفافية.