منذ مطلع تشرين الأول/ أكتوبر، عمّت العراق احتجاجات واضطرابات واسعة النطاق إضافةً إلى حملة قمع عنيفة غير مسبوقة شنّتها السلطات. وطغى على الانتفاضة الشباب المهمَّشين الغاضبين فيما اقتصرت على المناطق ذات الأغلبية الشيعية، بما فيها العاصمة بغداد ومدن رئيسية أخرى على غرار البصرة. وفيما يعاني العراق من أجل إعادة فرض النظام ومعالجة المظالم التي أججت التظاهرات، ستحاول كافة الجهات الفاعلة الرئيسية الداخلية منها والخارجية، بما في ذلك دول الخليج العربية المجاورة للعراق، تبرير الاحتدام وتحديد كيفية المناورة وسط هذه البيئة الجديدة من أجل تحقيق مصالحها.
وما يعقّد الأمر هو العفوية الظاهرة لهذه الاحتجاجات التي لا يبدو أن أي حركة سياسية محددة قد نظمتها أو أن أي جهة فاعلة سياسية محلية أو دولية قد وجهتها. ويمكن بسهولة فهم المظالم العامة. فالشريحة السكانية من الشباب في العراق كبيرة وتتنامى، كما أن معدلات البطالة مرتفعة، بالإضافة إلى أنّ الخدمات هي غير وافية في قطاعات التعليم والرعاية الصحية وغيرها من الخدمات الاجتماعية. ويتوقّع الكثيرون الحصول على وظيفة في القطاع العام الفاسد، لكنّ مقدمي الطلبات يتجاوزون إلى حدّ كبير العروض على مراكز جديدة يتمّ توزيع العديد منها استنادًا إلى العلاقات وليس المؤهلات. ولا تزال البلاد هشاشة للغاية في ظل معاناة الحكومة في تنفيذ وظائفها الأساسية.
ويبدو أن الشباب الذين يفتقرون إلى الوظائف أو الفرص أو الأمل بالمستقبل قد نفذ صبرهم من السلطات. فغياب الخدمات الأساسية، بما فيها الكهرباء والمياه، كان قد أجّج احتجاجات كبيرة مماثلة في البصرة في صيف العام 2018. وبشكل من الأشكال، يبدو أن التظاهرات هي امتداد وتضخيم لتلك الاحتجاجات، إنما على مجموعة أشمل بكثير من المواضيع وتطال أجزاءً أكبر من البلاد. غير أن هذه الاحتجاجات كانت إلى حدّ كبير ظاهرة شيعية عراقية، حيث أنّه لم تندلع احتجاجات مماثلة في المناطق ذات الأغلبية السنية غرب العراق، التي لا تزال تواجه صعوبات من أجل التعافي من حقبة حكم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” ولا تزال في الكثير من الحالات خاضعة لنوع من الاحتلال العسكري على يد الحكومة أو “قوات الحشد الشعبي”. يُذكر أنّ لسكان المناطق الكردية الشمالية عمليًا مجتمعًا واقتصادًا وحكومة تختلف عن باقي مناطق العراق كما أنهم لم يشاركوا في الاضطرابات المندلعة مؤخرًا.
وفي حين أنه من الصعب قراءة أي نية سياسية متناسقة وموحدة، إن وُجدت، من جهة المحتجين، إلا أنه ثمة هدفين أساسيين واضحان. فهذه الانتفاضة تستهدف القيادة السياسية الشيعية في البلاد، حيث رزحت الحكومة التي يقودها رئيس الوزراء عادل عبد المهدي منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2018، على الفور تحت وطأة ضغوط هائلة من ناخبيه الشيعة بمعظمهم بغية التصدي بفعالية أكبر للفساد وتقديم خدمات إلى الشعب. لكن كان ثمة شعور واضح من الغضب ضد القوات الموالية لإيران التي تعتزم الهيمنة على الجزء الأكبر من الحياة السياسية والاجتماعية والدينية لشيعة العراق في حقبة ما بعد صدام حسين وغالبًا ما ترتبط بالميليشيات المحلية التي تدير الشؤون اليومية في العديد من الأحياء والقرى. وقد عبّر المحتجون عن غضبهم إزاء فساد هذه الجماعات التي تسحب الأموال في أغلب الأحيان من الشركات والشحنات اللوجستية وحتى المسافرين العاديين. وبينما لم يندّد المحتجون صراحةً بالتدخل الإيراني، إلا أنهم هاجموا الميليشيات المحلية التي تعمل من أجل مساعدة إيران على تحقيق أهدافها الاستراتيجية في أرجاء البلاد، كما عبّروا عن استيائهم العميق من الحكومة وإخفاقاتها.
أما الأمر الأكثر غرابةً فهو عنف وحدّة عمليات القمع في وجه الاضطرابات. فقد أُفيد عن مقتل أكثر من 100 شخص، رغم أن العدد الفعلي قد يكون أكبر، وعن جرح الآلاف في محاولة قمع السلطات للاحتجاجات. كما أوقفت السلطات خدمة الإنترنت في معظم أجزاء البلاد لعدة أيام وفرضت حظر تجوّل واسع النطاق وعلّقت تطبيقات على غرار فايسبوك وتوتير وواتساب وانستاغرام، من بين أمور أخرى. وفي 7 تشرين الأول/ أكتوبر، أقرّ الجيش العراقي أن قوات الأمن استخدمت “القوة المفرطة” في وجه المتظاهرين. مع ذلك، ردّت الحكومة– واستنادًا إلى الكثير من الشهادات، بالإضافة إلى الميليشيات الشيعية الموالية لإيران التي يتمتع بعضها الآن بمكانة شبه رسمية ويتمّ نقل أفرادها إلى قوات الأمن الوطني بطريقة لا تزال موضع جدل ومفاوضات– بدرجة غير اعتيادية من التحذير والعنف والحزم.
ورغم أنّ سهام بعض غضب الشعب يبدو أنها كانت موجهة نحو الميليشيات والقوات السياسية الموالية لإيران، إلا أن هذه الأخيرة كانت تحاول الاستفادة من الاضطرابات لمصلحتها. فهي لم تكن على الإطلاق مرتاحة كليًا لقيادة عبد المهدي، وهو رئيس وزراء تمّ تعيينه بالتسوية بعد انتخابات غير حاسمة، التي تشعر أنه لا يدعم بشكل كافٍ أجندتها الطائفية والموالية لإيران في أغلب الأحيان. وبالفعل، حافظ عبد المهدي على علاقات جيدة مع الولايات المتحدة ودول خليجية على غرار السعودية والكويت، ويبدو أنه يحاول توجيه العراق نحو مسار أكثر حيادية.
هذا وكان عبد المهدي يسعى إلى ضمّ “قوات الحشد الشعبي” إلى هيكليات الدولة لمنعها من التمتع بسلطة مستقلة لصنع القرار وتحوّلها فعليًا إلى نسخة عراقية من “حزب الله”. من جهتها، ترغب “قوات الحشد الشعبي”، وبخاصةٍ العناصر الذين تلقوا الدعم من إيران ومن حلفائهم السياسيين الشيعة، رؤية شخصية أخرى، على غرار وزير النقل والمواصلات السابق والقائد الميليشياوي هادي العامري رئيسًا للحكومة بغية ضمان مصالحها. وتشمل تلك المصالح حماية استقلالية هذه الجماعات عن سلطة الحكومة الوطنية حتى في ظل اكتسابها مكانة شبه رسمية أو تحوّلها إلى أحد الأجهزة الرسمية في الدولة.
ويحصل كل ذلك على خلفية حملة العقوبات “الضغط الأقصى” التي تمارسها الولايات المتحدة ضد إيران وحملة “المقاومة القصوى” المضادة التي تنتهجها طهران، بما في ذلك استفزازات عسكرية في منطقة الخليج وأهمها هجمات 14 أيلول/ سبتمبر على منشآت نفط سعودية. وبموجب حملة ضغط عامة، يُعتبر نفوذ إيران ووكلائها في المنطقة، ولا سيما الجماعات الميليشياوية المسلحة شبه الحكومية على غرار “قوات الحشد الشعبي”، من بين أبرز أصول الجمهورية الإسلامية. كما أرغمت حملة الضغط الأقصى إيران على تقليص دعمها المالي لوكلائها في العراق، ما دفعهم إلى توسيع الابتزاز والأنشطة الجرمية الأخرى من أجل الاستمرار في تمويل عملياتهم. ويُعتبر النفوذ الكبير الذي طوّرته طهران في معظم أنحاء العراق عقب الغزو الأمريكي عام 2003 والإطاحة بصدام حسين أساسيًا لنفوذ إيران في المنطقة، وبخاصةٍ دخولها إلى سوريا وتواجدها فيها. ومن وجهة نظر طهران، فإن كل ما يهدد مكانة إيران في العراق في ظل الظروف الحالية هو كابوس.
لذا، بالنسبة إلى إيران وحلفائها الشيعة العراقيين، تطرح هذه الاضطرابات تحديًا، وبخاصةٍ إلى المدى الذي تشير فيه إلى الرأي العام العراقي الشيعي الذي يتزايد قلقه إزاء تكتيكات الميليشيات الشبيهة بالمافيات ويُشكّك في ولائها للعراق. وربما يكون هذا السبب وراء وحشية الردّ على الاحتجاجات. مع ذلك، تمثل هذه الاحتجاجات فرصة للشيعة الطائفيين من أجل مناهضة حكومة لا تبالي بشكل كافٍ بمصالحها المشتركة وتسعى إما إلى حضها لتكون أكثر تعاونًا أو استبدالها بحكومة أخرى متوائمة على نحو أكبر مع الأحزاب الشيعية الطائفية. ولغاية الآن، لم يتمثّل ردّ الحكومة سوى بوعد بتأمين المزيد من الوظائف وبعض الرواتب إلى جانب تعديل وزاري هامشي.
كما ترى الدول العربية والولايات المتحدة أن هذا الضغط على عبد المهدي يُنذر بالخطر، بما أنه من المستبعد أن تحظى هذه القوى برئيس وزراء أكثر تعاونًا يخرج من رحم الوسط السياسي العراقي الحالي. غير أن التنامي الواضح للشعور المناهض للميليشيات في أوساط شيعة العراق، ولا سيما الشباب منهم، وواقع أن الاحتجاجات تستهدف في المقام الأول قيادة العراق ذي الأغلبية الشيعية، هما عاملان يمثلان فرصة محتملة مهمة للترويج لقومية عراقية مستقلة وذهنية شيعية عراقية تركّز على دور العراق التاريخي كمركز للإسلام الشيعي ودوره الإقليمي وصبغته العربية. وكانت الحاجة والفرصة إلى اكتساب دول الخليج العربية موطئ قدم أكبر لها في العراق وإقامة علاقة أكثر إيجابية مع الحكومة العراقية جلية منذ استقالة رئيس الوزراء العراقي الطائفي نوري المالكي عام 2014. لكن جهود دول الخليج كانت متقطعة وغير كافية رغم الفرصة القائمة لإحراز تقدّم.
ويبدو العراق خلال الأيام الماضية أكثر هدوءًا نوعًا ما، رغم تجلي إمكانية تنظيم احتجاجات أكبر. والواضح أيضًا هو أن أي حزب مرتبط بالظروف السيئة التي أدّت إلى اندلاع الاحتجاجات لن يستفيد على الأرجح من الاستياء. وبما أنّ مظالم المحتجين ومطالبهم مرتبطة عمومًا بالظلم الاقتصادي وغياب الفرص والفساد والخلل الحكومي وغياب الخدمات الاجتماعية، من المرجح أن يستفيد أي حزب يمكنه إظهار القدرة على معالجة هذه المشاكل. ويمكن لدول الخليج العربية أن تستفيد من الظروف التي خلقتها هذه الاضطرابات، وبخاصةٍ في جنوب العراق ذي الأغلبية الشيعية، من خلال إظهار قدرتها على المساعدة في استحداث فرص اقتصادية وتأمين وظائف وتعزيز الأمل، ولا سيما في أوساط الشباب العاطلين عن العمل. ويمكن لمجرد توفير بدائل عن الواردات الإيرانية التي تهيمن على أسواق العراق الجنوبية أن يُعتبر عاملًا إيجابيًا.
إنها فرص محتملة مثلى لضخّ القوة الناعمة بواسطة وسائل مالية عمومًا متاحة للعديد من دول الخليج العربية. فضلًا عن ذلك، ثمة فرصة لتعزيز بنية تحتية تجارية واقتصادية أكبر بين العراق والأردن الذي كان في ما مضى أحد أهم شركاء العراق التجاريين في المنطقة (مقارنةً بإيران في ظل الظروف الحالية). فعلى سبيل المثال، من شأن إعادة فتح الطريق السريع بين عمّان وبغداد بالكامل وخط الأنابيب البصرة- العقبة المحتمل، أن يساعد على ربط العراق اقتصاديًا عن كثب بالعالم العربي ومنحه استقلالية اقتصادية أكبر عن طهران. كما يمكنه تقديم مساعدة يحتاج إليها الأردن بشدة في ظل معاناته اقتصاديًا وحاجته إلى اهتمام ملح وفوري.
وسواء اتقدت الاحتجاجات من جديد أم لا، ستبقى الوقائع السياسية والاجتماعية والاقتصادية الأساسية التي كشفتها قائمة. وثمة فرصة كبيرة أمام دول الخليج العربية والولايات المتحدة لتشجيع شيعة العراق والحكومة العراقية على رؤية مستقبل بلادهم عبر منظار إقليمي شامل، وليس من خلال التعاون الوثيق مع إيران في المقام الأول. فالمحتجون العراقيون، وربما معظم العراقيين عمومًا، قد سئموا من الخلل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وهم يسعون إلى إجابات وفرص. ولا بدّ من أن تستفيد أي جهة خارجية قادرة على المساعدة على توفير هذه الإجابات والفرص من خلال حوافز إيجابية على غرار الاستثمارات والدعم الاقتصادي المستهدف، سياسيًا وكذلك اقتصاديًا. وبما أن هذا الأمر يتوازى مع نقاط قوة دول الخليج العربية، فإنها فرصة لا يتوجب عليها التفريط بها.