سيتم اختتام بينالي الدرعية للفن المعاصر الثاني، الذي تم افتتاحه في الرياض يوم 20 فبراير/شباط، في أواخر شهر مايو/أيار بعد فعاليات بارزة حافلة بالموضوعات. حيث يحتضن المعرض، الذي يأتي تحت شعار “ما بعد الغيث”، 177 عملاً فنيًا لمئة فنان عالمي، ويعكس “الإحساس بالحيوية والتجديد، ويذكرنا برائحة الهواء المنعشة عند هطول المطر”. ويعكس المعرض، مجازياً، صدى أفكار التجديد والتغيير في التطورات الاجتماعية والثقافية في المملكة العربية السعودية، كما يدعو موضوع المعرض للتأمل في ضرورة المياه لجميع أشكال الحياة على الأرض، وعلاقة هذا المصدر بالبيئة الصحراوية في السعودية ودول أخرى.
تحت الإدارة الإبداعية للقيمّة الدولية والمديرة المؤسِسة لمركز إن تي يو (NTU) للفن المعاصر في سنغافورة، أوتي ميتا باور (Ute Meta Bauer) يتناول المعرض، الذي يشغل عدة مستودعات في منطقة جاكس بالرياض، إضافة إلى المساحات المفتوحة وساحات المنطقة المحيطة، مواضيع مثل “تعقيد الأزمة البيئية وتبعات الاستعمار وعملية استخراج الموارد الطبيعية، ومسائل التراث والحفاظ على البيئة، وتعقيد تطور التقاليد الحرفية باستخدام المواد الطبيعية.”
يجمع بينالي الدرعية، الذي يتسم بتعدد الادراكات الحسية، والذي يشغل عدة مواقع، فناني المنطقة وفنانين آخرين عالميين للتأمل في كيفية تعافي المجتمعات وسط الصعوبات الجماعية، وكيف يمكن للذاكرة والتقاليد أن توفر الراحة وسط التغييرات السريعة، وكيف يمكن للتعاون في حل المشاكل أن يقدم حلولاً بديلة للتحديات المشتركة. مثل الحصول على المياه النظيفة، وصدمات ما بعد الحرب، وتبعات الاستعمار المستمرة. وبالاعتماد على خبرة أوتي الواسعة في منطقة جنوب شرق آسيا، يقدم البينالي كذلك مجموعة من فناني الجنوب العالمي، ما من شأنه أن يعيد إحياء السرديات الفنية العالمية من خلال تعزيز الروابط بين شبكات المحيط الهندي والمحيط الهادي.
من بين العديد من الفنانين المشاركين في المعرض هذا العام، يبرز فنانون رواد معاصرون من مواليد الخليج أو المقيمين فيه بمنظوراتهم المتبصّرة وإضفائهم للطابع المحلي على موضوعات المعرض. وتوفر أعمالهم التركيبية والبصرية متعددة الوسائط وعروضهم فرصة للمشاهدين لفهم المشهد الإقليمي المتطور بشكل أفضل.
الذاكرة والمادية
إن الخيط الذي يربط العديد من الأعمال الفنية والمشاريع بعضها ببعض في سياق عنوان “ما بعد الغيث” هو فحص الذاكرة والتاريخ بحثًا عن طرق للتعامل مع الصدمات المعاصرة والدمار والضياع. تعتمد أعمال الفنانين الخليجيين المشهورين، مثل دانا عورتاني وسارة عبده وريم الناصر، على المواد والسرديات الطبيعية من جميع أنحاء الوطن العربي ومنطقة المحيط الهندي للتأمل في “التاريخ المعقد، والعنيف في كثير من الأحيان، وطرق التعامل مع الموارد الطبيعية”.
ريم الناصر، وهي فنانة سعودية، ولدت ونشأت في مدينة جيزان الساحلية الجنوبية، وهي المكان الذي كان له أثر عميق على أعمالها. في حين أنها غالبًا ما تركز في أعمالها على الموت البشري والطقوس الثقافية-الاجتماعية المحيطة به، إضافة إلى ” رموز الاشياء وطريقتها ومعناها بالتاريخ والفلك والآثار”، إلا أن مساهمة ريم في البينالي، من خلال عمل “نوافذ زرقاء”، تناولت بدلاً من ذلك موضوع الموت البيئي.
يتكون عملها التركيبي من أغصان شجرة العرعر المتفحمة محاطة بإطارين متشابكين بلون أزرق. تعد شجرة العرعر، التي جلبت الفنانة أغصانها من مقاطعة عسير الجبلية في جنوب السعودية، موردًا طبيعيًا مهمًا في منطقة أبها، وعادة ما تستخدم في مراسيم معينة وفي صناعة زيت قطران العرعر والأثاث. إلا أن حريقًا نشب في متنزه الجرة عام 2021، قد دمر الكثير من المساحات الخضراء في المنطقة، تاركًا وراءه بقايا متفحمة من الشجرة البلدية.
في هذا العمل، ابتكرت ريم نصبًا تذكاريًا لشجرة العرعر، تابوتها المزخرف فاقع الزرقة يحاكي نوافذ أبها التقليدية، وهو اللون الذي قالت ريم لمعهد دول الخليج العربية في واشنطن إنها استخدمته ” كرمزية تعبر عن ابواب السماء أو بوابة عشتار الزرقاء” المؤدية إلى مدينة بابل الداخلية. ومن خلال هذين الإطارين اللذين يشبهان القفص والأشجار المتفحمة في عملها التركيبي، ترى ريم أيضًا في بقايا العرعر “طائر العنقاء، الذي يموت ويحيا من رماده… وهو طائر رمزي مليء بالأسرار والتحولات والتغيير”. تضيف ريم، “وهذا ما أشهده في منطقة عسير”.
تعكس نغمة الأسى الكئيبة المحيطة بعمل ريم، إلى جانب أعمال فنانين آخرين في هذا المعرض في البينالي، إحساسًا عميقًا بالاهتمام والتعاطف مع بيئة مسقط رأس الفنانة. تقول ريم، “يكمن مفهوم هذا العمل المأساوي في رفض فقدان الراحل، وكأن الراحل يصر على العودة للحياة، وكأنه يرفض مغادرة هذه الغابات بهذه الطريقة المأساوية، كما لو تم وداعه في موكب جنائزي”.
وهناك عمل آخر في معرض “المعرفة في الذكاء المادي والروحي” وهو عمل تركيبي من ثلاثة أبراج مصنوع من مسحوق السدر التقليدي المصنوع يدويًا وألواح صابون كريستال الكافور للفنانة سارة عبده المقيمة في جدة. وعلى نحو مشابه يستدعي عمل سارة التركيبي، “بعد أن فقدتك الآن في أحلامي، أين سنلتقي؟” للأذهان طقوس الموت والحداد. وتوضح سارة أن كلا “مكوّنَي الصابون هما رائحة الموت”، نظرًا لاستخدامهما في الطقوس الإسلامية لتغسيل الجثث.
تقول سارة لمعهد دول الخليج العربية في واشنطن، “تصبح طقوس الأحياء، في هذا العمل، مكانًا للتدخل الشعري”، كما تصبح أيضًا مكانًا “للتأمل والمصالحة والذكرى”. عنوان العمل، وهو سؤالٌ غالبًا ما تطرحه الفنانة على نفسها، “يركز على المساحات غير الملموسة، مثل الأحلام، كمساحات يمكن فيها إنشاء ذكريات جديدة، ما من شأنه أن يوفر إحساسًا بالمواساة”.
تضيف سارة “بطريقة ما، يعد العمل تمردًا لطيفًا ضد واقع الفناء من خلال منشأة من الصابون الصلب، وهي محاولة لمنع الذاكرة من الانزلاق بعيدًا”. في حين أن الهيكل المستقر والمتناوب من قوالب الصابون التي تشبه الطوب يذكرنا بكيفية وضع الصابون في كثير من الأحيان للمعالجة في مصانع الصابون التقليدية، فإن الفجوات المتبقية بين القوالب تترك مجالًا للذكريات لتنطلق بعيدًا، ما يعكس بدوره الهياكل والأطر غير المستقرة للذاكرة في كثير من الأحيان.
وكما هو الحال مع العمل التركيبي لريم، فإن أبراج سارة تستخدم المواد الطبيعية بطريقة متعددة الأحاسيس للاستحواذ على اللحظات الصادمة ومعالجتها، سواء في التاريخ الشخصي أم الجماعي، ما يوفر للمشاهدين “علاقات لتسهيل المعالجة العاطفية والترويح عن النفس”، على حد قول سارة.
الجهود المجتمعية في الوعي البيئي
وفي قسم آخر مرتبط بالفكرة الأساسية للمعرض، وهو “الماء والبيئات”، حيث يبحث في “الضرورة الوجودية” للمياه بالنسبة لجميع أشكال الحياة، بالإضافة للتهديدات التي يشكلها تضاؤل فرص الحصول على المياه النظيفة في أنحاء كثيرة من العالم. كما أن الأعمال الفنية في هذا المعرض تستعرض طرق الحفاظ على مصادر المياه ومشاركتها، وعلى النقيض من ذلك، طرق إساءة استخدامها واستخدامها كسلاح.
تعرض علياء فريد، وهي فنانة تشكيلية كويتية من بورتوريكو ومخرجة سينمائية، عملاً تحت عنوان “بدلاً من ما كان”، ويتألف من خمس منحوتات، تم تشكيلها على غرار نوافير مياه عامة في الكويت، إلى جانب أفلام تصور الحياة في أهوار العراق، حيث خلفت صناعة النفط أضرارًا لا يمكن علاجها في نهري دجلة والفرات.
تم تصميم نوافير علياء على شكل أبراج مياه، وأباريق فخارية تقليدية، وزجاجات بلاستيكية حديثة، وهي مستوحاة من نوافير المياه الكويتية، المعروفة باسم “ماء سبيل” وتعني “مياه الطريق”، والتي تنتشر في المشهد الحضري للبلاد وتوفر مياه الشرب للجماهير. غالبًا ما يقيم الناس هذه النوافير حول المنازل الخاصة، وبالقرب من المدارس، وعلى منعطفات الشوارع تكريمًا لأحبائهم المتوفين كنوع من الأعمال الخيرية المستمرة، ما يعكس الشعور بالانتماء للمجتمع في مواجهة الصعوبات الجماعية.
وفي الوقت ذاته، يشير عمل علياء إلى الظروف التاريخية التي جعلت الوصول إلى المياه في الكويت ودول الخليج الأخرى صعبًا نظرًا لشح احتياطيات المياه الجوفية ومياه الينابيع، الأمر الذي تسبب، بدلاً من ذلك، في الاعتماد على المياه المحلاة التي يتم توفيرها ونقلها عبر خطوط أنابيب شاسعة الامتداد. يؤكد العمل التركيبي، إلى جانب الأفلام المصاحبة، على ضرورة الوصول إلى المياه العذبة، والتي غالبًا ما تكون شحيحة في الأماكن ذات معدلات هطول أمطار منخفضة ومستويات عالية من التبخر الناجم عن الحرارة، مثل الكويت.
نظرات خاطفة على المستقبل
كما يبرز في البينالي الفنان السعودي الشهير والرائد الثقافي أحمد ماطر، الذي تعاون مع المخرج والمصور الإيطالي أرمين لينكه في العمل التركيبي الفوتوغرافي تحت عنوان “المستقبل السعودي”. يعتمد التعاون على الممارسات الوثائقية لأرمين التي تناقش موضوعات العولمة والتحضر والتصنيع في جميع أنحاء العالم في حين تعتمد على ممارسات أحمد ماطر المفاهيمية التي تُسلسل التاريخ السعودي والحقائق الحياتية.
قدم أحمد وأرمين سلسلة من الصور الفوتوغرافية التي التقطت من مواقع مختلفة في المملكة، من بينها مزرعة للألبان وأرشيف أرامكو ومعرض نيوم، وحاسوب خارق موجود في جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا يعمل على توثيق المنتجات الملموسة للابتكارات التكنولوجية والعلمية والصناعية في البلاد.
تعرض صور هذا الثنائي ذات الأحجام المتعددة على ارتفاعات مختلفة، كمتاهة مؤرشفة ومطبوعة على مواد تم التخلص منها في المعارض الأخرى التي أُقيمت في موقع البينالي. تفاصيل الصورة المعروضة موجودة على ظهر كل لوحة، لتكون بمثابة علامات أرشيفية للحظات التي تم التقاطها. بالإضافة إلى ذلك، فإن العديد من اللوحات تعرض نصوصاً، على غرار العبارات التي تطبعها المصانع، مع مواضيع مثل “لم يتم توفير الأرشيف بعد”، و”الخيال العلمي”، و”سايبر بانك” (CyberPunk). تعمل الأعمدة الرأسية التي تم تثبيت الصور عليها على توفير إمكانية “استبدال الصور نظريًا أو “إعادة تحميلها””، الأمر الذي يعكس المشهد التكنولوجي والصناعي دائم التطور، والذي يتطلب التكيف السريع والمتواصل.
من نواحٍ عِدة، يعد المعرض لحظة فريدة من نوعها في الخليج، يمكن ملاحظتها من خلال عدسات إبداعية ومادية مختلفة. وقد أنتجت الأزمات البيئية والابتكارات التكنولوجية والتغيرات الاجتماعية ظروفًا جديدة وحقائق حياتية، حاول الفنانون المتألقون التعامل معها أو سردها بتسلسل تاريخي من خلال أعمالهم. وفي حين يعمل الفنانون الخليجيون على إضفاء الطابع المحلي على مواضيع المعرض الأوسع في السياق الإقليمي، إلا أن أعمالهم تتحدث أيضًا عن الاستعمار وتدهور البيئة وهشاشتها، والتبادل الاقتصادي والتغيير الاجتماعي، التي يتردد صداها جميعًا على الصعيد العالمي.
مع اقتراب عام 2024 من نهايته، لا يزال عدم اليقين يخيم على أسواق النفط بسبب المخاطر الجيوسياسية، وضعف الطلب الصيني الذي جاء أقل من المتوقع، والتطورات المتعلقة بالتحول في مجال الطاقة.
مع سعي ترامب لتحقيق زيادة هائلة في إنتاج النفط والغاز الأمريكي، وعرقلة صادرات النفط الإيرانية، فإنه لن يتردد في التدخل بقوة في سوق النفط.
ادعمنا
من خلال تفحصها الدقيق للقوى التي تعمل على تشكيل المجتمعات الخليجية والأجيال الجديدة من القادة الناشئين، يعمل معهد دول الخليج العربية في واشنطن على تسهيل حصول فهم أعمق للدور المتوقع أن تلعبه دول هذه المنطقة الجيوستراتيجية في القرن الحادي والعشرين.