في السادس عشر من سبتمبر/أيلول، أوضح نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد آل نهيان أن الإمارات العربية المتحدة لن تدعم جهود ما بعد الحرب في قطاع غزة دون إنشاء دولة فلسطينية. ومع اشتراطه الصريح والإشارة إلى “الوضع الراهن” في القطاع الذي من شأنه أن يمنع مشاركة الإمارات بعد الحرب، فإن البيان يمثل تشديدًا مدروساً لإعلان الإمارات السابق عن استعدادها للمشاركة في مهمة دولية مؤقتة بعد الحرب. وعلى نفس المنوال، أكد مسؤول كبير في وزارة الخارجية العُمانية في السادس عشر من سبتمبر/أيلول أن عُمان “ليس لديها نية” لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، ودعا إلى وقف فوري “لحرب إسرائيل البربرية التي تشنها على قطاع غزة”.
إن التشدد النسبي في مواقف دول الخليج بشأن تطبيع العلاقات مع إسرائيل، أو إعادة الانخراط فيه إذا كانت عملية التطبيع قائمة بالفعل، يثير التساؤل عما إذا كانت الحرب في قطاع غزة قد خلقت تحديات هيكلية من شأنها أن تجعل العودة لمرحلة التطبيع التي سبقت السابع من أكتوبر واقعاً صعباً. هل تم تقويض المنطق الداخلي للتطبيع بشكل أساسي بسبب حجم الموت والدمار الهائل في غزة؟ إحدى الطرق لتقييم الضرر هي محاولة تحديد وفحص العقبات التي تحول دون العودة إلى الأمر الواقع المفتوح نسبيًا أمام عملية التطبيع والمسار الذي كان موجودًا قبل بدء الحرب في غزة.
العقبة الأولى: الغضب الشعبي العارم
إن العقبة الأولى أمام أي عودة لعملية التطبيع هي الغضب الشعبي العارم الذي تأجج – في العالم العربي (بما في ذلك دول الخليج) وفي إسرائيل وبين الفلسطينيين. في الخليج والمنطقة عموماً. يجبر هذا الغضب الحكومات على تشدد المواقف العامة تجاه تطبيع العلاقات مع إسرائيل. وبالنسبة لتلك البلدان التي بدأت تطبيع العلاقات بموجب اتفاقيات إبراهام في عام 2020، فهناك ضغوط للحفاظ على أي خطوات اتخذتها في الأيام الأولى من الحرب للتعبير عن استيائها من سلوك إسرائيل. وبالنسبة لدول مثل المملكة العربية السعودية، التي لم تقم بتطبيع العلاقات بعد، فإن التصريحات الرسمية، وتلك الصادرة عن الشخصيات الرئيسية هناك، تشير إلى أن تكلفة الخطوات الأولى في التطبيع قد أصبحت مرتفعة بشكل ملحوظ. خلال فصل الشتاء، ومع تصاعد المعاناة والدمار في قطاع غزة، بدأت السعودية في التعبير عن موقف أكثر تشدداً وتفصيلاً، على سبيل المثال، التعبير عن الحاجة إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة معترف بها على حدود عام 1967، وعاصمتها القدس. ومع تواصل الحرب، أصبح السعوديون أكثر تحديدًا في المطلوب من إسرائيل القيام به. تشير التقارير، التي بدأت تظهر في مايو/أيار، نقلاً عن مصادر في الرياض، إلى “خطة بديلة” للمفاوضات السعودية-الأمريكية الشاملة بشأن توقيع اتفاقية أمنية، مع عناصر أخرى في حزمة لن تتضمن المكون الإسرائيلي. ومؤخرًا، أصر ولي العهد الأمير محمد بن سلمان على أن السعودية لن تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل دون إنشاء دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية. وأكد بعض المحللين على أن الغضب في المنطقة قد غير حسابات السعوديين.
ومن وجهة نظر مغايرة، وصف برنارد هيكل (Bernard Haykel)، أستاذ دراسات الشرق الأدنى بجامعة برينستون وعضو مجلس المدراء في معهد دول الخليج العربية في واشنطن، الخطوة السعودية بأنها تزيد من ثمن التطبيع بعد بدء الحرب. وبينما أقر بأن السعوديين كانوا يعبرون بشكل متزايد عن بعض التفاصيل المتعلقة بما قد يُطلب من إسرائيل القيام به، إلا أنه رأى أن حساباتهم ثابتة، ويظل تركيزهم على رؤية 2030، والتحديات الكبيرة التي تنطوي عليها عملية التنمية والتحول في بلادهم. لقد كانوا بحاجة لإتفاق أمني مع الولايات المتحدة، مع التفاوض على البنود الأخرى، ونظروا إلى التطبيع مع إسرائيل باعتباره مطلباً أمريكياً. وفي حين أن الغضب في المنطقة قد يشكل تأخيرات تكتيكية أو تعديلات في لغتهم العامة، يرى هيكل أن الحسابات الاستراتيجية للسعودية ظلت على حالها.
في إسرائيل، أدى الغضب العام إزاء عمليات القتل المروعة التي وقعت في السابع من أكتوبر 2023، واحتجاز الرهائن، والانتهاكات واسعة النطاق إلى تصلب المواقف تجاه إقامة الدولة الفلسطينية. وفقًا لاستطلاعات الرأي الأخيرة، فإن دعم الرأي العام الإسرائيلي بعد السابع من أكتوبر لفكرة إقامة دولة فلسطينية قد استقر عند حوالي 26%، بعدما كانت النسبة 35% في الأشهر التي سبقت بدء حرب غزة، وهذا بالكاد نصف مستوى الدعم الذي كان موجودًا في عام 2013. وفي الاستطلاع نفسه، قال 40% من الإسرائيليين إنهم يعتقدون أن إسرائيل يجب أن تحكم قطاع غزة (ويرتفع الرقم إلى 50% بين اليهود الإسرائيليين). وأشارت استطلاعات الرأي في يناير/كانون الثاني إلى أن 94% من الإسرائيليين اليهود يعتقدون أن مستويات القوة المستخدمة في غزة كانت مناسبة أو حتى غير كافية. كان الإجماع العام في إسرائيل في العقد الذي سبق السابع من أكتوبر، أو ما يزيد عنه، هو أن قضايا المستوطنات والاحتلال، مثل إنشاء دولة فلسطينية، لم تكن مطروحة على الطاولة. وقد تشددت هذه المواقف إلى حد كبير بعد السابع من أكتوبر. فقط 13% من الإسرائيليين الذين شملهم الاستطلاع بعد السابع من أكتوبر يعتقدون أن السلام الدائم مع الفلسطينيين أمر ممكن.
وقد انعكس تشدد المواقف الإسرائيلية إلى حد كبير في المواقف الفلسطينية بعد السابع من أكتوبر، على الرغم من أن الاتجاهات قد بدأت في الاعتدال إلى حد ما. فما يزال الدعم لحركة حماس هو الأعلى مقارنة بجميع الفصائل الفلسطينية (على الرغم من التراجع المعتدل في الدعم منذ حزيران/يونيو). كما أن دعم الكفاح المسلح قد تراجع قليلاً خلال الأشهر الثلاثة الماضية، ولكنه لا يزال عند مستوى يقارب 50% من الفلسطينيين الذين تم استطلاع آرائهم.
تآكل آفاق حل الدولتين
وبالإضافة إلى الغضب الذي أشرنا إليه أعلاه، فإن تحديات القيادات التي يواجهها الإسرائيليين والفلسطينيين والاتجاهات السياسية الأوسع نطاقًا تؤدي إلى تآكل احتمالات حل الدولتين. إن آفاق حل الدولتين، حتى مع الأخذ بعين الاعتبار كل الصعوبات التي تعترض سبيل تحقيق ذلك، تساعد في تمهيد الطريق لمزيد من التطبيع بعد الحرب. ولكن العقبات تبدو قريبة من التغلب على هذا الاحتمال. على الجانب الفلسطيني، تظل السلطة الفلسطينية لا تحظى بشعبية إلى حد كبير، حيث أعرب أقل من ربع الفلسطينيين الذين شملهم الاستطلاع عن رضاهم عن أدائها، على الرغم من أن الأرقام تحسنت قليلاً خلال الصيف. شهد نفس الاستطلاع ارتفاعًا ملحوظًا – بنسبة 6% – في تأييد الفلسطينيين لحل الدولتين.
وعلى الجانب الإسرائيلي، يجد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو نفسه محاصرًا بعاملين رئيسيين: عناصر ائتلاف اليمين المتطرف التي تعارض بشدة إنشاء دولة فلسطينية، وتدفعها أيديولوجيتها إلى ترسيخ الاحتلال إلى الحد الأقصى، وتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية، والتفكير في الاحتمالات المستقبلية لطرد السكان الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية. وتتجاوز المشاكل عناصر الائتلاف المتطرفة. فقد صوت الكنيست الإسرائيلي في 17 يوليو/تموز بأغلبية ساحقة لصالح قرار يعارض إنشاء دولة فلسطينية. كما يجد نتنياهو نفسه محاصرًا بمخاطر قانونية محتملة تحفزه على البقاء في السلطة (وتجنب وقف إطلاق النار ومخاطر التحقيقات الحتمية في انتكاسات هجوم السابع من أكتوبر).
إذا استمرت المسارات الحالية، فإن آفاق حل الدولتين ستكون قاتمة، ما يعني أن الدول العربية التي تسعي للتطبيع مع إسرائيل قد تضطر في نهاية المطاف إلى مواجهة حقيقة مفادها أن هناك دولة واحدة فقط – وهي إسرائيل – وستبقى، واحتلال عسكري يحكم إلى الأبد السكان الفلسطينيين الذين يعتبرون مواطنين من الدرجة الثانية، ليس لهم حقوق في تلك الدولة، وهم مهددون بإفلات الاحتلال من العقاب وتوسع الاستيطان. مثل هذا الواقع، الذي كان ظاهرًا بالفعل قبل السابع من أكتوبر في الأفق، يبرز منذ حرب غزة بطريقة أكثر وضوحًا. يعتقد دانييل كيرتزر (Daniel Kurtzer)، السفير الأمريكي السابق لدى إسرائيل ومصر، أن مثل هذا السيناريو محتمل إذا لم يكن هناك تحرك نحو حل الدولتين. في حين أن مثل هذا الوضع “كان يمكن التعامل معه”، ربما لعقد أو أكثر، فإن الناس يخدعون أنفسهم إذا كانوا يعتقدون أنه يمكن أن يستمر للأبد. من وجهة نظر كيرتزر، فإن السماح لإسرائيل بتنحية أي احتمال لحل الدولتين جانباً، مع الحفاظ على الاحتلال وتوسيع المستوطنات، من شأنه أن ينزع الشرعية عن دولة إسرائيل بشكل خطير، ويدفعها إلى وضع منبوذ دوليًا بشكل دائم، والذي مع مرور الوقت سيؤدي حتى إلى تآكل الدعم القوي الثابت من الحزبين، والدعم الشعبي القوي على نطاق واسع في الولايات المتحدة لإسرائيل.
وعلى المدى القريب، توقع أحد كبار المسؤولين السابقين في وزارة الخارجية، الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته، حدوث ارتفاع مفاجئ في حالة الغضب في المنطقة بعد الحرب، وهو ما قد يشكل مشكلة أيضًا لعملية التطبيع. وتكهن بأنه من الممكن، مع حصول الأجانب على حق الوصول إلى غزة مرة أخرى بعد الحرب، أن يتم اكتشاف المزيد من انتهاكات حقوق الإنسان وارتفاع أعداد القتلى، وهو ما من شأنه أن يلهب مشاعر الرأي العام الفلسطيني والعربي.
المصلحة المتحققة من التطبيع
بينما يعتبر الوضع الحالي لعملية التطبيع أمرًا في غاية الصعوبة، يرى البعض أن هناك بصيصًا خافتًا من الأمل. وفقًا لوجهة النظر هذه، حفز الوضع الحالي القادة في الخليج، والمنطقة عمومًا، على استغلال النفوذ الذي حققوه نتيجة عملية التطبيع للضغط على إسرائيل لتتخذ خطوات لدعم وقف إطلاق النار وحل الدولتين. قدم دانييل سيدمان (Daniel Seidemann)، المحامي الإسرائيلي المتخصص في القضايا القانونية والعامة في القدس الشرقية، تقييمًا للوضع بهذه الطريقة، وقال إن توجهات عملية التطبيع قبل حرب غزة “قد قللت من دوافع الإسرائيليين للنظر في تكاليف الاحتلال”، بما في ذلك التكاليف البشرية وتكاليف الضرار بالسمعة الباهظة التي ستتحملها إسرائيل للحفاظ على وجودها على المدى الطويل. وأعرب عن أمله في أن يدرك القادة العرب الذين دعموا التطبيع في نهاية المطاف أن غزة – من نواحٍ كثيرة، بما في ذلك من خلال المواقف الفلسطينية العامة، ومبادئ أيديولوجية حماس على سبيل المثال – مرتبطة بشكل وثيق بالمسجد الأقصى في القدس والهوية الدينية الأشمل للقدس ومكانتها المستقبلية. وأعرب عن أمله في أن هذا الإدراك سيمنع الأطراف العربية من أصحاب المصلحة في عملية التطبيع من “التخلي” عن غزة في الفترة الحرجة بعد انتهاء الحرب.
آفاق التطبيع بعد انتهاء الحرب
في مجال الدبلوماسية، لا توجد أبنية مادية فعلية. واستخدام المصطلح لوصف التحديات الصعبة التي تواجهها آفاق عملية التطبيع في المنطقة ليس سوى استعارة مناسبة. لكنها تعطي شعوراً بالتحديات البارزة التي تواجهها العملية والضغوط التي يتعرض لها قادة الخليج وهم يفكرون في التقدم في عملية التطبيع مع إسرائيل أو يسعون للحفاظ عليها. في الوقت الحالي، هناك العاصفة التي تسبق الهدوء. يعتقد ديفيد ويلش (David Welch)، مساعد وزير الخارجية الأمريكي السابق لشؤون الشرق الأدنى والرئيس المؤقت الحالي لمجلس إدارة معهد دول الخليج العربية في واشنطن، أنه في نهاية المطاف، بعد انتهاء الحرب، ومع تراجع حدة الغضب، ومباشرة إعادة البناء في قطاع غزة، فإن أجواء التطبيع ستتحسن، على الرغم من أن وتيرة التحسن ومداه لا يزالان غير واضحين في هذه المرحلة. في تقديره، على الرغم من تأثير الخسائر البشرية المروعة والصدمة على الجانبين، فإن صناع السياسات في واشنطن والمنطقة لم يغيروا حساباتهم بشكل جذري فيما يتعلق بالتطبيع مع إسرائيل والتهديد الذي تشكله إيران. ستكون هذه الحسابات هي التي ستعمل في نهاية الأمر على تجاوز العقبات التي تواجهها آفاق عملية التطبيع في الوقت الحالي. وفي هذه الأثناء، ومع تصاعد الأعمال العدائية بين إسرائيل وحزب الله، قد يستمر الوضع لفترة قبل أن تعود تلك الحسابات الاستراتيجية نفسها إلى الظهور مجدداً.