قد يكون إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن سحب “الجزء الرئيسي” من قوات بلاده العسكرية الموجودة في سوريا منذ أواخر أيلول/سبتمبر 2015 أقل تأثيرًا عمليًا مما يأمل به – أو يتوجس منه – كثيرون. لا يشير الإعلان وسياقه العام إلى وجود تحول في السياسة الروسية الكبرى، وذلك مع إصرار بوتين على أن العمليات الروسية ستستمر كالمعتاد ضمن القواعد العسكرية في طرطوس واللاذقية – وهي المنشآت المأهولة الهامة الوحيدة للجيش الروسي خارج الاتحاد السوفياتي السابق. يعني هذا أن روسيا سوف تُبقي قوة جوية كبيرة في سوريا، من دون معرفة الأمكنة التي ستنفذ فيها طلعاتها. لا يتوفر عدد دقيق للقوات الجوية الموجود هناك حتى الآن، وقد لا يتوفر بشكل علني مطلقًا. ومع ذلك، كان لروسيا وجود عسكري كبير في سوريا قبل التدخل، وهناك اعتقاد كبير أنه حتى بعد الانسحاب، سيبقى دور روسيا أكبر مما كان عليه قبل أيلول/سبتمبر. بالتالي، فإن فكرة مغادرة روسيا لسوريا، أو حتى إنهاء عملياتها العسكرية فيها، يبدو أمرًا متناقضًا مع إعلان موسكو نفسه.
إضافة لذلك، تُظهر البيانات الرسمية الروسية دعمًا متواصلًا للرئيس السوري بشار الأسد، حيث نرى من خلال قراءة المحادثة الهاتفية التي جرت بين بوتين والأسد في 14 آذار/مارس أنه بينما لم تكن روسيا قد شاورت تابعيها السوريين حول تلك الخطوة، لكنها لم تتخلَ عنهم أيضًا. لماذا قد تتخلى روسيا فجأة عن نظام دعمته بشدة طوال الأشهر الستة الماضية؟ لقد أظهرت موسكو علامات سخط ضد الأسد، لكنها بقيت ملتزمة جوهريًا في الحفاظ على النظام، على الأقل حتى يجري ترتيب عملية انتقالية تضمن مصالح روسيا. وحتى يحدث ذلك، لا يظهر أن هناك أي سبب عملي لقيام روسيا بإدارة ظهرها فجأة لنظام عملت بجد على دعمه طوال الأشهر الستة الماضية.
ومع ذلك، قد يكون من أسباب الانسحاب الروسي إرسال رسالة إلى الأسد تشجعه على أن يكون أكثر تعاونًا في مفاوضات جنيف، حيث يأتي في سياق وقف إطلاق النار المضمون إلى حد كبير من قبل الولايات المتحدة والضغط الروسي المرتبط بجهود الإغاثة الإنسانية ومحادثات السلام. إن العملية الدبلوماسية مفيدة لكل من موسكو ودمشق، وتأمن الوقت والفترة الكافيين للنظام لتأمين وتعزيز سيطرته على المناطق الرئيسية في سوريا والعمل على استمرار الوضع الراهن فيها. لكن يبدو أن روسيا تريد من النظام السوري مزيدًا من التقدم على طاولة المفاوضات، حيث يوحي توقيت الخطوة الروسية برسالة للأسد مفادها أن يتعاون بشكل أكبر. أما الرسالة الثانية فهي للمجتمع الدولي لكي يرى بشكل أكبر دور روسيا البناء في سوريا وعدم وجود أي دور “مفسد” لها للمفاوضات. بدوره يريد بوتين نفسه أن يُرى داخليًا كزعيم حاسم يمكنه أن يرتب تدخلات عسكرية ناجحة من دون التورط في مستنقعات لا نهاية لها؛ ودوليًا، كرجل دولة حكيم يدرك القيود المفروضة على استخدام القوة ويبقى ضمن الضوابط المعقولة.
يريد بوتين أن تكون روسيا قوة تضغط باعتدال على النظام السوري، وذلك بالرغم من أن ديكتاتورية الأسد لم تكن لتحيا لولا دعم موسكو. لكن يبدو أن موسكو انزعجت من تعليقات وزير الخارجية السوري وليد المعلم الأخيرة والتي قال فيها بأن أي تشكيك في مستقبل الأسد في البلاد هو “خط أحمر” لا يمكن مناقشته في جنيف. كما عبرت روسيا أيضًا عن نفاد صبرها مع تصريحات النظام التي تفيد برغبته في مواصلة القتال حتى التمكن من بسط سيطرته على كامل البلاد. ترى روسيا مثل هكذا برنامج طموحًا للغاية واستفزازيًا بلا داع؛ بالتالي، في حين أنها لا تزال داعمة عمومًا للأسد سياسيًا، إلا أنها تُرسل رسالة له تفيد بأنه يحتاج إلى أن يكون أكثر مرونة واستجابة للمخاوف الدبلوماسية والسياسية الروسية.
قد يبدو الانسحاب الروسي في المقام الأول استجابة محسوبة جيدًا لمهمة التدخل بعد أن كانت قد نجحت إلى حد كبير، كما يدعى الكرملين. كان الغرض من هذا التدخل، الذي أفادت تقارير عن أنه جرى بتنسيق بين روسيا وإيران في صيف عام 2015، لقلب ما بدا لهم على أنه سلسلة مخيفة من الانتكاسات للنظام على أيدي جماعات المعارضة الرئيسية، مثل فصائل “الجيش الحر” وتجمع “أحرار الشام” و”جند الإسلام”، التي تدعمها المملكة العربية السعودية وقطر وتركيا. تشير العديد من التقارير إلى أن روسيا وإيران و”حزب الله” والحلفاء الرئيسيين الآخرين للأسد شعروا بقلق متزايد من خسارة دكتاتورية دمشق لكثير من الأراضي خلال النصف الأول من عام 2015 بحيث قد تصبح غير قابلة للإنقاذ. كما كان هذا الوضع هو ذاته الذي بدا لكثير من المراقبين الخارجيين.
هدفَ التدخل – الذي أمنت فيه روسيا الغطاء الجوي والطليعة الاستشارية الفنية للقوات البرية والتي تألفت بدورها إلى حد كبير من عناصر الجيش والموالين للنظام السوري مدعومين بقوات التدخل السريع من “حزب الله” و”فيلق الحرس الثوري الإسلامي”، وعدد من الميليشيات الشيعية العراقية – إلى عكس الزخم في ميدان المعركة في سوريا، حيث اُستهدفت عدة مناطق رئيسية، بما في ذلك حلب والمناطق التي تشكل معقل العلويين قرب الساحل الشمالي الغربي والتي هي قريبة أيضًا من القواعد العسكرية الروسية في سوريا، علاوة على مناطق استراتيجية أخرى تعرضت للتهديد بسبب تقدم الثوار. تشير معظم التقارير إلى أن الدعم الجوي الروسي وتدخل الحلفاء على الأرض، مكّنا النظام السوري من تحقيق تقدم ملموس في معظم، إن لم يكن كل، مناطق البلاد الأكثر أهمية.
من الممكن القول إن النظام يفضل مواصلة الصراع في طوره التصاعدي الحالي والعمل على تأمين السيطرة على أجزاء إضافية من البلاد التي فُقدت لصالح جماعات المعارضة في السنوات الأخيرة؛ إلا أن الإعلان الروسي يشير بقوة إلى أن التزام موسكو سيقتصر على تأمين سيطرة النظام على ما يُطلق عليه في وسائل الإعلام العربية اسم سوريا “الضرورية” أو “القابلة للحياة”، بدلًا من محاولة استعادة كل البلاد. تبدأ حدود “سوريا قابلة للحياة” من الحدود اللبنانية، ثم تمتد شمالًا عبر القلمون إلى دمشق، ثم حمص وحماه والمناطق الساحلية. من الناحية المثالية، ومن وجهة نظر النظام، ينبغي أن تتضمن أيضًا جميع أو معظم حلب وضواحيها. حققت قوات النظام على ما يبدو تقدمًا كبيرًا في هذا المجال حيث بدت قوات الثوار تعاني من ضربات معيقة حول حلب كنتيجة مباشرة للهجوم ذي القيادة الروسية.
لقد تحققت المهمة التي نوتها موسكو بالفعل – إن كانت هي حقًا تأمين “سوريا القابلة للحياة” للنظام وحلفائه المحليين –. مع ذلك، ادعت روسيا أن تدخلها كان ضمن الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب التي تستهدف “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش). صحيح أن قوات النظام هاجمت مؤخرًا بعض مواقع “داعش”، إلا أن معظم الهجمات كانت ضد مواقع الثوار وبنسبة قليلة جدًا ضد “داعش”. إذا كان الغرض حقًا سحق أو إضعاف قوات “داعش”، بالتالي يغدو الادعاء بأن المهمة قد أُنجزت من قبل روسيا وحلفائها لا معنى له لأنه لم يفعل شيئًا يُذكر للتأثير على وضع “داعش”. لكن من وجهة نظر إعاقة تقدم الجماعات المتمردة الرئيسية في “سوريا القابلة للحياة”، فإن ادعاء النجاح معقول، بل وحتى دقيق.
ستدّعي روسيا وتابعيها في النظام السوري من دون شك نيتهم في تعزيز المفاوضات وآفاق السلام عبر عملية إعادة الانتشار هذه. ولكن لا يوجد هناك للأسف ما يشير إلى أن الأطراف على الأرض، من أي جانب، على استعداد لاحتضان أي تسوية – رسمية كانت أم غير رسمية – تنهي الصراع. على العكس من ذلك، يبدو أن كل المجموعات السورية المسلحة تعتقد أنها قادرة على أن تعزز من سيطرتها عبر المزيد من المعارك؛ كما يبدو أن رعاتها الإقليميين موافقون على ذلك. لذلك، حتى لو تفاهمت القوى العالمية مثل الولايات المتحدة وروسيا على إنهاء الصراع بحكم القانون أو بحكم الواقع، فإنه لم يحن الوقت بعد لإجراء محادثات أبعد من الشكليات وحالات وقف إطلاق النار الواهية الحالية.
سوف يشعر نظام الأسد حتمًا بقوة أكبر مع تدخل حلفائه، حتى لو كانت روسيا قد رسمت الحد التي ستقف عنده أثناء محاولتها فرض إرادتها في سوريا. تمكّنت روسيا وإيران و”حزب الله” معًا من قلب مجريات الميدان لصالح الدكتاتورية إلى حد كبير، ولن تُقلب هذه المعطيات بسرعة. حتى إن حدث هذا، لا يوجد هناك ما يمنع روسيا من الانخراط مجددًا في عملية “دعم” أخرى لقلب أي تحول جديد في الوضع. لذا، بينما قد يكون النظام قد لاحظ أن روسيا لن توفر غطاءً جويًا لطموحات أكبر من أجل استعادة السيطرة على مناطق أوسع من هذه بكثير، إلا أنه سيشعر أنه قادر على الاستمرار في البناء على النجاحات التي تحققت خلال الأشهر الستة الماضي. كما لا يوجد أي دليل على أن إيران و”حزب الله” وباقي القوى قد رسمت ذات الحد الذي ألمحت إليه روسيا، كما أن موسكو لا تزال مؤيدًا قويًا للنظام، حتى لو حدّت من تدخلها العسكري المباشر. بالتالي، من المحتمل أن يعتقد نظام الأسد أن بإمكانه تأمين مكاسبه عبر صراع إضافي، وربما حتى مواصلة تحقيق بعض التقدم المحدود في المناطق الرئيسية.
من المحتمل أن يصل الثوار أيضًا إلى استنتاج أنه يمكنهم الاستفادة من المزيد من القتال. يمكن أن يشكل “انسحاب” روسيا مصدر ارتياح إليهم، ويشير إلى إمكانية وصول النكسات التي عانوا منها مؤخرًا إلى نهايتها. نتذكر، في النصف الأول من عام 2015، كيف حقق الثوار سلسلة من النجاحات الكبيرة في مرحلة ما قبل الدعم الروسي الإيراني، وهو ما تسبب بتدخلهما لاحقًا في المقام الأول. مع انسحاب روسيا، وإشارتها إلى أن تدخلها في سوريا هو محدود فضلًا عن إثارة احتمال أنه قد يكون منهكًا سواءً الآن أو في المستقبل، قد تكون فكرة إمكانية عودة المعارضة على الأقل إلى المواقع التي كانت تسيطر عليها منذ بضعة أشهر فحسب فكرة مغرية للغاية.
تستمر المعارضة في تلقي الدعم السياسي والدبلوماسي والمالي والعسكري الكبير من القوى الإقليمية مثل تركيا والمملكة العربية السعودية وقطر، كما لا تزال قوى المعارضة تسيطر على أجزاء كبيرة من البلاد. والأهم من ذلك، يعتقد التيار الرئيسي من المعارضة أنه يمثل مصالح ورغبات الأغلبية العربية السنية في سوريا. إن المعارضة مقتنعة بأنه نظرًا لأنها تتكون من أغلبية سنية، فإنها انتصارها على المدى الطويل مضمون. نتيجةً لذلك، ترى المعارضة قيام روسيا ضمنيًا بوضع قيود على أهدافها في سوريا تأكيدًا على أن قراءتها الصحيحة حول مسارها طويل الأجل في البلاد. ولكون مجموعات المعارضة هذه لا تزال مقتنعة بأن هناك أغلبية سنية قوية في سوريا وفي المنطقة بشكل عام رافضة لسيطرة ديكتاتورية الأقلية العلوية ورعاته الإيرانيين على سوريا، بما فيها طبعًا المناطق الأكثر أهمية ضمن “سوريا القابلة للحياة”، فإنها تعتقد أن الوقت إلى جانبها وبأنها سوف تنتصر في نهاية المطاف.
لا تظهر الفصائل المتقاتلة في سوريا أنها تحت ضغط كبير من الرعاة الإقليميين للوصول إلى نهاية مبكرة للقتال. قد يكون نظام الأسد قد أصيب بخيبة أمل بسبب الانسحاب الروسي، لكنه يعزي نفسه برؤية أن إيران و”حزب الله” لا تشاركا روسيا اهتمامها بالعملية الدبلوماسية (على الرغم من أن حماس روسيا قد يكون مبنيًا على الشعور بأن الولايات المتحدة قد بدأت تدريجيًا بتبني موقف سياسي مستوعب لكل مخاوفها الأساسية، بما في ذلك ربما بقاء نظام الأسد في المناطق الخاضعة لسيطرته حاليًا). كما لا يبدو المؤيدون الرئيسيون للمعارضة المسلحة، وهم المملكة العربية السعودية وقطر وتركيا، مقتنعين أن الحل السياسي معقول، أو حتى مرغوب فيه، في ظل الظروف الحالية. على العكس من ذلك، يبدو التنافس الإقليمي بين هذه الكتل النافدة، والذي يجري في سوريا، أكثر عدوانية من أي وقت مضى. في لبنان الجار مثلًا، هناك مواجهة بالوكالة بين حلفاء إيران وحلفاء السعودية والذي تتزايد شدته مع الوقت، كما أن الحرب في اليمن تستمر أيضًا في التصاعد.
هددت كل من تركيا والمملكة العربية السعودية بالتدخل بريًا في سوريا. على الرغم من وضع هذا التدخل ظاهريًا تحت عنوان التحالف لمكافحة “داعش” بقيادة الولايات المتحدة، لكن لا تبدو واشنطن منفتحة على مثل هكذا مبادرة عسكرية هائلة، لا سيما تلك التي تنطوي أيضًا على مواجهة مباشرة مع دكتاتورية الأسد. في نفس الوقت، لا يبدو من المرجح على المدى القريب حدوث تدخل مباشر منفرد من الرياض أو أنقرة. كما لا يبدو أيضًا أن هذه القوى الإقليمية، أو المنافسين الإيرانيين، لديها أي اهتمام في حث تابعيها المحليين في سوريا على التوصل إلى حل سياسي، لا سيما وأن المجموعات السورية المسلحة غير مهيأة للقيام بذلك، وقد تقاوم – إن لم ترفض – مثل هكذا ضغط.
يعني كل هذا أنه من المحتمل أن يكون الإعلان الروسي أقل دراماتيكية عمليًا مما يبدو عليه. لا يوجد شيء في سوريا ذي أرجحية لأن يتغير على المديين القصير أو المتوسط عند النظر إلى موازين القوى على الأرض، والالتزام المستمر الروسي بتمكين النظام من السيطرة على “سوريا القابلة للحياة”، واحتمال حدوث “دعم” روسي إيراني جديد إن حدث تحول في سير المعارك. تتشكل الدبلوماسية في جنيف من الحقائق في سوريا؛ بالتالي، إذا بقي التوازن العسكري على حاله، فإن آفاق وجود انفراج سياسي – حتى كانت تريده موسكو وواشنطن – سيكون محدودًا. وعلى المدى البعيد، قد يُرى الانسحاب الروسي مهمًا لأنه يعرّف حدود الالتزام العسكري الروسي لنظام الأسد؛ إلا أنه على المديين القصير والمتوسط فإن تأثيره على المعادلة الاستراتيجية في سوريا، واحتمال وجود اتفاق أو تفاهم لإنهاء الصراع، ربما يكون محدودًا جدًا.