يوم الثلاثاء قررت أكثرية من الأميركيين إعادة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، متناسية ولايته الفوضوية والتسلطية، بما في ذلك عجزه السافر في معالجة جائحة كورونا، وكيف غادر واشنطن بعد حركة انقلابية حرّض فيها أنصاره على اجتياح مبنى الكابيتول لمنع الكونغرس من التصديق على شرعية انتخاب خلفه جوزيف بايدن، الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة، الأمر الذي تسبب بمحاكمته للمرة الثانية من قبل مجلس النواب، لكي تقوم الأكثرية الجمهورية الواهية في مجلس الشيوخ بإنقاذه من موت سياسي محتم.
خلال منفاه في الصحراء السياسية على مدى أربع سنوات، واصل ترامب ادعاءاته أن الرئيس جوزيف بايدن والديموقراطيين “سرقوا” الانتخابات منه. وقبل عامين، أعلن عن بداية حملته الجديدة بعد مقاضاته بمختلف التهم المدنية والجنائية في مدينتي نيويورك وواشنطن وولايتي جورجيا وفلوريدا، وبعد إدانته بعشرات التهم في نيويورك. هذه المرة، لم يخف ترامب نواياه العدائية أو لغته التحريضية المبنية على مفاهيم عنصرية ضد ما هو غير أميركي، وخاصة المهاجرين واللاجئين من عالم الجنوب أو من الشرق، متعهداً علناً بتهجير ملايين المهاجرين غير الموثقين دون أن يوضح كيف.
سوف يمر وقت طويل قبل أن يشرح المحللين والمؤرخين الأسباب الاجتماعية والثقافية والسياسية التي أدت إلى نجاح ترامب الباهر في العودة إلى البيت الأبيض بأكثرية شعبية (لم يحصل عليها في 2016)، وبعد اختراقه للعديد من الولايات المحسوبة سلفاً على الحزب الديموقراطي، وجذب شرائح واسعة نسبياً من ناخبيها، حتى ولو لم يفز بها بشكل كامل.
وللمرة الثانية، طرح ترامب نفسه المخلص السياسي لملايين المواطنين الأميركيين، وخاصة من سكان الريف والبلدات الصغيرة، الذين لا يحملون الشهادات الجامعية، وليدعي أنه صوتهم ضد النخبة السياسية التقليدية، التي تسكن في مدن الساحلين الشرقي والغربي (من نيويورك إلى سان فرانسيسكو، ومن الحزبين، خاصة الحزب الديموقراطي، والاهتمامات الاجتماعية الغريبة لهذه النخبة والمتعلقة بقضايا هامشية برأي هذه الفئة من الأميركيين، وتحديداً حقوق المثليين، وأولئك الذين يجرون عمليات جراحية لتعديل هوياتهم الجنسية، وحق هؤلاء في المشاركة في الألعاب الرياضية كأناث أو ذكور) هذه الفئة من الأميركيين، ومعظمهم من البيض، إضافة إلى شريحة من الرجال السود واللاتينيين يقولون إن الحكومة الفيدرالية في واشنطن لا تبالي بهمومهم أو اهتماماتهم.
وكان من الطبيعي أن يطرح ترامب نفسه ناطقاً باسم هذه الجماعة من الأميركيين ضد النخبة الحاكمة والمتعالية، وهو المعروف بحقده التقليدي على النخبة المالية التقليدية في مدينة نيويورك، والتي نبذت والده، ونبذته كمقاول في المدينة، بسبب سلوكه الاحتيالي وإعلان افلاس شركاته ورفضه تسديد ديونه.
بعد انتخابه للمرة الثانية وبأكثرية كبيرة، لم يعد بالإمكان الحديث عن ترامب كظاهرة عابرة، لأن حملته هذه المرة جذبت إليها شرائح اجتماعية لم يجلبها حين فاز للمرة الأولى في 2016. أظهرت استطلاعات الرأي والتحليلات الأولية لنتائج الانتخابات أن المرشحة كامالا هاريس، التي عولت على معارضة الملايين من النساء للقيود المفروضة على حق المرأة بالإجهاض، لجذب أكثرية واسعة من النساء إلى حملتها، جذبت في الواقع عدداً أقل من النساء الذين صوتن للمرشحة هيلاري كلينتون في 2016 والرئيس جوزيف بايدن في 2020. وكان من اللافت أن ترامب، بسبب ذكوريته المفرطة ربما، جذب إليه عدداً أكبر من الرجال البيض، كما تلقى دعم شريحة هامة من الرجال اللاتينيين، وحوالي عشرين بالمئة من الناخبين السود الشباب.
كل هذه العوامل الجديدة: عودة ترامب إلى البيت الأبيض بأكثرية واسعة في المجمع الانتخابي والتصويت الشعبي، وعودة الحزب الجمهوري للسيطرة على مجلس الشيوخ (واحتمال حفاظه على مجلس النواب بعد فرز الأصوات في جميع الولايات)، الأمر الذي دفع بترامب للقول أنه حصل على “انتداب” من الشعب الأميركي، كلها تدعو للتساؤل حول التغييرات والأولويات، التي سيفرضها ترامب في ولايته الثانية في الداخل والخارج.
أوضح ترامب في أكثر من مناسبة أنه يريد أن يوسع من صلاحياته الرئاسية للتصدي لمعارضيه، لدرجة قوله بأنه لن يحكم كدكتاتور “باستثناء اليوم الأول”. ترامب قال إنه لن يتورع عن “تعليق” الدستور إذا دعت الضرورة. كبير موظفي البيت الأبيض الأسبق جون كيلي الذي خدم ترامب لسنة ونصف، لم يتردد في القول أن وصف “الفاشي” ينطبق على ترامب. لم يحدث في تاريخ الرئاسة الأميركية أن تحدث رئيس أميركي بهذه الطريقة عن المعارضة الداخلية وتعليق الدستور.
خلال ولايته الأولى، حاول بعض مستشاري ترامب، مثل وزير الدفاع الأسبق جيمس ماتيس ومستشار الأمن القومي الأسبق هربرت رايموند ماكماستر وجون كيلي وغيرهم كبح جماح ترامب، ولكن هناك قلق عميق من أن ترامب لن يعين مثل هذ الشخصيات القوية في ولايته الثانية. وحتى قبل انتخابه للمرة الثانية، كان ترامب يكرر تهديداته لمن يعتبرهم أعداؤه في الداخل، مثل رئيسة مجلس النواب السابقة نانسي بيلوسي، والنائب آدم شيف، ويصفهم “بأعداء الداخل”، والصحفيين والمتظاهرين ضده. ويضيف أنه لن يتردد في التصدي لهم من خلال “نشر قوات الحرس الوطني، وإذا دعت الضرورة، القوات المسلحة”. وقبل انتخابه بأيام، تحدث ترامب عن وضع النائبة السابقة ليز تشيني أمام فوهات تسع بنادق لفرقة إعدام بالرصاص.
وتعهد ترامب بطرد المدعي العام الخاص الذي يحقق بدور ترامب في اجتياح مبنى الكابيتول، وحيازته لوثائق رسمية وإخفائها في مقره في مارا لاغو بولاية فلوريدا “خلال ثانيتين” بعد انتخابه. عودة ترامب إلى البيت الأبيض سوف تعني نهاية متاعب وتحديات ترامب القانونية، لأنه قادر على طرد المحققين، ولأن وزارة العدل لن تلاحق رئيس موجود في السلطة. وخلال ولايته الأولى، عيّن ترامب ثلاث قضاة محافظين في المحكمة العليا، لعبوا دوراً كبيراً في إلغاء القانون الفيدرالي الذي كان يضمن حق المرأة في الاجهاض. ويعتقد أنه خلال ولايته الثانية، سوف يطلب من القاضيين المسنين كلارنس توماس وصاموئيل آليتو الاستقالة، ليعين مكانهما قاضيين محافظين أصغر سناً، ليضمن بقاء المحكمة العليا في أيدي مجموعة محافظة جداً من القضاة لوقت طويل.
سياسات ترامب الداخلية – إذا افترضنا أنه سينفذ نصفها على الأقل – سوف تخلق تحولات اجتماعية وقانونية وسياسية يمكن أن تهيمن على البلاد لأكثر من جيل، كما فعل من قبله الرئيس الجمهوري الأسبق رونالد ريغان. خلال أقل من عقد من الزمن، نجح ترامب في خطف الحزب الجمهوري التقليدي (الذي كان يؤمن بالتجارة الدولية الحرة، والتصدي لخصوم واشنطن مثل الاتحاد السوفياتي، ولاحقاً روسيا والصين وإيران، وتعزيز تحالفات واشنطن الدولية وخاصة حلف الناتو) وإعادة خلقه بصورته، حيث نجح أيضاً في إرغام معارضيه على الانسحاب من الحزب أو من الحياة السياسية، بعد أن تحول هذا الحزب العريق يوماً إلى طائفة تابعة لترامب وعلى صورته.
خلال ولايته الأولى، استخدم ترامب شعار “أميركا أولا” الانعزالي التقليدي ليقول للعالم أنه رئيس انقلابي مقارنة بغيره من الرؤساء الأميركيين، حيث تعامل مع بعض الخصوم السابقين كأصدقاء محتملين، والأصدقاء والحلفاء القدامى كخصوم محتملين. في علاقاته الدولية، تجاهل ترامب الاهتمام الأميركي التقليدي بحقوق الإنسان في العالم، وخاصة انتهاكات حقوق الإنسان في الدول الأوتوقراطية، وكذلك في الدول الصديقة والحليفة في الشرق الأوسط. وأقام ترامب علاقات شخصية قوية مع “الرجال الأقوياء”، مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والتركي رجب طيب أردوغان، وطور علاقات قوية وودية مع رئيس وزراء هنغاريا فيكتور أوربان، وتبادل “رسائل حب”، على حد قوله، مع زعيم كوريا الشمالية كيم يونغ أون.
فور إعادة انتخابه، سارع رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو إلى تهنئته والاتصال به هاتفياً، معتبراً فوزه تطوراً “تاريخياً” يعزز العلاقة بين البلدين، ومع أن ترامب كان قد انتقد نتنياهو في السابق بسبب إدارته لحرب اسرائيل ضد قطاع غزة، إلا أنه حضه على ضرب المنشآت النووية الإيرانية، “وانجاز المهمة” في إشارة إلى اجتياح غزة ولبنان. وفي ولايته الأولى، خالف ترامب السياسة الأميركية التقليدية المتعلقة بالقدس الشرقية، ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس المحتلة، كما “اعترف” بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان السورية المحتلة، وأنهى عملياً علاقات واشنطن بالسلطة الفلسطينية. ومن المتوقع أن يواصل هذا الموقف السلبي من الفلسطينيين، وهو الذي لا يبدي أي اهتمام بحل الدولتين. ولكن ترامب يرغب بتوسيع دائرة اتفاقيات إبراهام الموقعة في 2020 بين إسرائيل ودولة الإمارات والبحرين والسودان والمغرب، “لأن الجميع يريد أن يشارك فيها” في إشارة إلى المحاولات التي بذلتها إدارة الرئيس بايدن لأقناع السعودية بالتوصل إلى اتفاقية سلام مع السعودية، وهي جهود من المتوقع أن يحاول ترامب إحيائها.
من جهته سارع الرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي لتهنئة ترامب على انتصاره “المدهش”، وهو الذي يدرك انتقادات ترامب له بأنه كلما زار واشنطن عاد منها محملاً بوعود باستلام المليارات الأميركية. وكان نائب الرئيس المنتخب السناتور جي دي فانس قد أعرب علناً عن معارضته للدعم الأميركي العسكري والمالي لأوكرانيا، وهناك تخوف مشروع في عواصم دول حلف الناتو، من صداقة ترامب وبوتين (ترامب وصف الغزو الروسي لأوكرانيا في بداياته “بالعبقري”)، ورغبة ترامب بخلق مسافة بين الولايات المتحدة وحلف الناتو، مما قد يؤدي إلى وقف المساعدات الأميركية العسكرية لأوكرانيا، والدفع باتجاه “تسوية” مبنية على تخلي أوكرانيا عن بعض أراضيها لروسيا. ولذلك لم يكن من المستغرب أن يتحدث مسؤول روسي بعد انتخاب ترامب بتفاؤل عن إمكانية بروز فرصة “لطرح بنّاء أكثر” لإنهاء الحرب.
خلال ولايته الأولى، انتقد ترامب بشدة وعلناً دول الناتو، لأنها لا تساهم بما فيه الكفاية مالياً لتسليح نفسها، وتقليص اعتمادها على الولايات المتحدة. وخلال حملته الانتخابية، قال ترامب أنه سيشجع روسيا على مهاجمة دول الحلف إذا لم تزيد من إنفاقها العسكري، وأنه يمكن أن ينسحب من الحلف الذي بنته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية لمساعدتها في لعب دورها كقوة عظمى. وهناك قلق عميق في العواصم الأوروبية الرئيسية في الحلف من أن يلجأ ترامب إلى تقليص اهتمام ومشاركة الولايات المتحدة في نشاطات الحلف العسكرية والتنسيق مع أعضائه، وأن تؤدي هذه الممارسات إلى الانسحاب من الحلف.
ويتخوف الخبراء الاقتصاديون من أن يزج ترامب الولايات المتحدة في حرب تجارية مع الصين. ويتحدث ترامب عن فرض ما بين 10 و20 بالمئة كتعريفات على جميع المواد التي تستوردها الولايات المتحدة من الخارج، وأنه يفكر جدياً بزيادة كبيرة من قيمة التعريفات على البضائع الصينية تصل إلى 60 بالمئة.
عودة ترامب إلى البيت الأبيض ستخلق خطوط تماس وتوتر مع نقاده الكثر في الداخل، يمكن أن تؤدي إلى توترات اجتماعية وسياسية جديدة. إضافة إلى خطوط تماس أخطر خارجياً، قد تزج الولايات المتحدة لاحقاً في حرب تجارية مع الصين.