في السنوات الأخيرة، تسعى دول الخليج العربية لتحقيق عددٍ متزايدٍ من المشاريع العملاقة. في السعودية، تعد مشاريع، مثل نيوم أو ذا لاين ومدينة القدية الترفيهية، من المساعي غير المسبوقة في تحدي المفاهيم الحضرية المعاصرة. لكن لم تسلم هذه المبادرات من الانتقادات التي اعتبرتها أحد مظاهر الثروة النفطية، والرغبة في التنافس مع المدن العالمية على حساب الاستدامة البيئية. يعد مشروع المربع الجديد واحدًا من المشاريع التي توضح هذه التناقضات، وهو عبارة عن مخطط حديث لمنطقة داون تاون الرياض التي يتوسطها المكعب، وهو ناطحة سحاب عملاقة مكعبة الشكل. وفي حين حظي المكعب باهتمام كبير، إلا أنه لا بد من إجراء تقييم موضوعي للمشروع، ومكانته في السياق الأوسع للعمارة الطوباوية، ومزاياه البيئية أو انعدامها.
الرؤى الخليجية والاستدامة
جميع دول الخليج لديها سياسات تقر بمخاطر النمو الاقتصادي غير المنضبط من خلال إعطاء الأولوية للمشاريع التنموية مُنخفضة الكربون؛ وتعتبر مدينة مصدر في أبوظبي من الأمثلة الجيدة على ذلك، حيث يتم تقديمها على أنها أول مدينة خالية من الكربون في العالم، ولكنها في نهاية المطاف أخفقت في تحقيق طموحاتها النبيلة المرجوة منها. في الوقت الحالي، سيتم بناؤها بشكل جزئي، الأمر الذي دفع أحد مراسلي صحيفة الجارديان للافتراض بأنها قد تصبح أول “مدينة أشباح خضراء” في العالم.
غالبًا، لا يتم تنفيذ الرؤى الوطنية الخليجية، التي تُصاغ لدعم الاستدامة الاقتصادية، بطرق تعكس مدى أهمية المخاوف البيئية الملحة. ولا يتم في معظم الأحيان الإشارة بشكل صريح إلى التغير المناخي، ويستثنى من ذلك الإمارات العربية المتحدة وقطر. علاوة على ذلك، أثبتت العديد من الدراسات أن شكل المدن وبنيتها المادية يؤثران بشكل مباشر على متطلبات الطاقة ومدى فاعلية استخدام الموارد، ما يجعل التكوين الحضري للمدن – شكلها وبنيتها – عاملاً حاسمًا في الاستدامة العالمية. وتعد بعض المدن، مثل أبوظبي ومدينة الكويت، بطبيعتها أقل كفاءة في استخدام الطاقة نظرًا لنمو الكثافة السكانية المنخفض والاستخدام المكثف للمركبات الخاصة في الانتقالات، حيث تنعكس هذه الحقيقة على التصنيفات البيئية. في عام 2019، احتلت الإمارات المرتبة الثالثة عالميًا من حيث أعلى معدلات انبعاث ثاني أكسيد الكربون للفرد. كما تعد الإمارات واحدة من أكبر مستهلكي المياه للفرد في العالم. ونظرًا لندرة المياه العذبة في المنطقة، تتم تلبية حوالي 90٪ من احتياجات المياه الصالحة للشرب في دولة الإمارات من خلال محطات تحلية المياه التي تستهلك الكثير من الطاقة، والتي تعيد الأملاح المتبقية إلى البحر، الأمر الذي يزيد من ملوحة مياه البحر، ويؤثر سلبًا على الحياة البحرية.
وضعت العديد من دول الخليج أهدافًا طموحة لزيادة نسبة الطاقة المتجددة ضمن مزيج الطاقة لديها. حددت السعودية هدفًا لتوليد 50٪ من طاقتها الكهربائية من مصادر الطاقة المتجددة بحلول عام 2030. وتهدف الإمارات لزيادة نسبة الطاقة النظيفة في مزيج الطاقة لديها إلى 50٪ بحلول عام 2050، مع الأخذ في الحسبان أنه يتم توليد 6٪ من الطاقة النووية. وحددت عُمان هدفًا لتوليد 30٪ من الكهرباء لديها من مصادر متجددة بحلول عام 2030.
شهدت جميع أرجاء منطقة الخليج تحولاً نحو الحلول التكنولوجية، وإصلاح السياسات لتشجيع الاستدامة البيئية. جاء هذا كنوع من الاستجابة للضغوط البيئية العالمية، والإدراك المتزايد بأن نماذج الطاقة القديمة ليست مستدامة. ومع ذلك، يجادل بعض الباحثين بأن قادة المنطقة يستخدمون “سردية الاستدامة” من أجل “إضفاء صورة الحداثة والريادة التكنولوجية والرفاهية الزائدة، من أجل تعزيز شرعيتهم ونفوذهم”. وفي حين أن التركيز على التكنولوجيا يسمح للسلطات بالمطالبة بالالتزام بجدول الأعمال العالمي للاستدامة البيئية، إلا أنه يتجاهل البعد الاجتماعي للاستدامة، ما يتم تسميته “الغسل الأخضر“.
المكعب
أعلنت السعودية عن انطلاق مشروع المكعب في فبراير/شباط في حملة إعلامية ضخمة ومقطع فيديو لجولة افتراضية غامرة. تتميز مخططات التصميم الداخلي للمكعب بإسقاطات ثلاثية الأبعاد تجعل المشاهدين يشعرون كما لو كانوا يعيشون واقعًا وزمانًا وأماكن مختلفة. يضم الجزء المركزي من التجربة برجًا حلزونيًا يتكون من شقق وفندق ومنصات مشاهدة ومطاعم. تم تصميم المكعب ليكون محور منطقة داون تاون في مشروع المربع الجديد الكبير. إذا تم بناؤه، فسيكون المكعب ضخمًا بما يكفي ليتسع لـ 20 مبنى كمبنى الإمباير ستايت (Empire State building) – مدينة داخل مدينة – وتفتخر الشركة القائمة على إنشائه بأنه يتكون من 2 مليون متر مربع من مساحة الأرضية الداخلية وارتفاع 1302 قدم، سيكون أكبر مبنى في العالم قائم داخل مدينة. تتولى تنفيذ المشروع شركة تطوير المربع الجديد، التي يتزعمها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
وصفت التقارير الإعلامية موقع المكعب بأنه وجهة طوباوية. زعم كاتب مقال في مجلة فوربس (Forbes) أن المكعب سيكتمل “بالسيارات الطائرة والتجارب الغامرة التي تنقل الزوار إلى كواكب أخرى”، وأضاف أن مشروع المربع الجديد “يهدف إلى توسيع رقعة العاصمة لتسع ما يقدر بـ 350 ألف مقيم على مساحة 4695 هكتار”.
وفقًا لوكالة الأنباء السعودية، سيعمل مشروع المربع الجديد على إضافة ما يقدر بنحو 48 مليار دولار إلى الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي للمملكة، وسيوفر أكثر من 300 ألف فرصة عمل. والأهم من ذلك، أنه سيعود بإيرادات غير نفطية، وقد يجتذب كلا من الاستثمار الأجنبي والدخل السياحي، الأمر الذي سيعزز استراتيجية رؤية 2030 الرامية للتخفيف من اعتماد السعودية على عائدات النفط من خلال سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية والصناعات المحلية. وثمة هدف رئيسي آخر لرؤية 2030 يتمثل في زيادة مشاركة القطاع الخاص في الاقتصاد، وجذب المزيد من الاستثمار الأجنبي نحو مشاريع طموحة أخرى، مثل مدينة نيوم المستقبلية المخطط لها، ومدينة ذا لاين التي يبلغ طولها 100 ميل.
التوفيق بين أهداف المكعب والاستدامة
تعد الاستدامة جزءًا جوهريًا من رؤية 2030. وعلى الرغم من كونها واحدة من أكبر منتجي النفط في العالم، تهدف السعودية للوصول إلى هدف انبعاثات كربون صفرية بحلول عام 2060، وقد تبنت تكنولوجيا المناخ لتحقيق ذلك. تخطط شركة أرامكو السعودية لزيادة طاقتها الإنتاجية من النفط بمقدار مليون برميل يوميًا من مستويات مايو/أيار 2022 بحلول عام 2027، ولكن في محاولة لتلبية المتطلبات البيئية الصارمة ومتطلبات الاستدامة للمستهلكين، تستثمر أرامكو في استخلاص الكربون وتخزينه وفي الطاقة المتجددة وتكنولوجيا الهيدروجين. بالإضافة لذلك، تأمل الرياض في بناء أكبر مفاعل لإنتاج الهيدروجين الأخضر في العالم في مدينة نيوم. تتماشى هذه التطورات مع الطموحات الأوسع لرؤية 2030 لتسريع المرحلة الانتقالية في مجال الطاقة، وتحقيق أهداف الاستدامة، والحث على موجة جديدة من الاستثمار.
لكن من الصعب التوفيق بين هذه الرؤية ومشروع المكعب في شكله الحالي. فمن الممكن للمشاريع العملاقة مثل “المكعب” أن تؤثر سلبًا على البيئة، لا سيما من خلال استهلاك الموارد والانبعاثات وتدمير البيئات الطبيعية. على سبيل المثال، في حين تهدف مبادرة السعودية الخضراء، التي تعد جوهر أجندة الاستدامة للرياض، لتطوير المساحات الخضراء المفتوحة في المدن، سيشكل المكعب مساحة ضخمة ومغلقة تحتاج للتبريد والإضاءة على مدار العام. وعلاوة على ذلك، فإن حجم المبنى سوف يستلزم توفير كميات هائلة من المياه في منطقة تعاني من ندرة المياه. سيؤدي إنشاء مثل هذا المشروع الهائل إلى إنتاج كمية كبيرة من النفايات، وسوف تؤدي عملية نقل مواد البناء وتزويد المبنى بالطاقة إلى إطلاق المزيد من الانبعاثات الكربونية. أخيرًا، يمكن لموقع المكعب الضخم، الذي وضع في وسط العاصمة، أن يدمر البيئات الطبيعية القائمة، ويضر بالأنظمة البيئية المحلية. وعلى الرغم من وجود استراتيجيات للتعامل مع هذه المشاكل في المباني التقليدية، إلا أن حجم المكعب غير المسبوق سيشكل تحديات فريدة من نوعها.
من الواضح أن المشروع ما يزال في مرحلته الأولية. ولا يزال هناك الكثير مما ينبغي القيام به، ومن الضروري إجراء المزيد من البحوث لضمان توافق المكعب مع مخطط رؤية 2030 السعودية. ربما يتعين على أصحاب القرار الرجوع إلى الماضي ودراسة الكيفية التي تمكنت من خلالها المنشآت الأيقونية الارتقاء بملامح المدن الكبرى. عندما تم اقتراح بناء برج إيفل في باريس لأول مرة، وحتى بعد بنائه، اعترض عليه السكان والفنانون باعتباره آفة معمارية. ومع ذلك، وبعد أكثر من قرن من الزمان، يصعب على المرء تصور باريس دون برج إيفل.
قد يحتل المكعب بالنسبة للرياض مكانة برج إيفل بالنسبة لباريس، ولكن لا بد من إيجاد تصميم أكثر استدامة لكي يصبح حقيقة واقعة. فعلى سبيل المثال، بدلاً من أن تكون تجربة داخلية فقط، يمكن ربط المكعب بالبيئة الخارجية. وبدلاً من اعتبار المكعب وكأنه مجرد وسيلة للاستثمار، يمكن أن نتصوره على أنه منشأة متميزة لكل من المقيمين والزوار لرؤية الرياض من ارتفاعات وزوايا ووجهات نظر مختلفة. وفي الوقت ذاته، يمكن للمساحات المحيطة أن تشكل قلبًا أخضر جديدًا للرياض، وبالتالي إضفاء الطابع الإنساني على البيئة القائمة في العاصمة، وتوفير الراحة التي يحتاجها السكان من ضغوط العمل والحياة اليومية. وفي نهاية المطاف، هناك متسع للابتكار حيث يسعى المطورون العمرانيون لبناء مدن مستدامة وصالحة للحياة.