شهد شهر مايو/أيار الماضي أعلى نسبة هجمات شنها حزب الله ضد إسرائيل منذ بداية الحرب بين إسرائيل وحركة حماس في أكتوبر/تشرين الأول 2023. ارتفاع عدد هجمات حزب الله جلب معه تصعيد نوعي لطبيعة الهجمات انعكس على استخدام الصواريخ المضادة للدبابات والمسيرات والصواريخ المتطورة، صاحبه تصعيد إسرائيلي نوعي في القصف المدفعي والغارات الجوية المكثفة في العمق اللبناني، واستهداف القياديين العسكريين في الحزب، كما حدث حين قتلت غارة إسرائيلية القيادي البارز في حزب الله طالب عبد الله قبل أسبوعين، ما أدى إلى رد صاروخي مكثف من الحزب.
تحذيرات السياسيين والعسكريين الإسرائيليين المستمرة منذ بداية الحرب في غزة، وتوقعات المحللين العسكريين، أنه إذا لم يتم ضبط الوضع الأمني على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، فإن التوتر سوف يؤدي إلى حرب واسعة – مع أن كل طرف يقول أنه لا يسعى لمثل هذا الخيار – اتسمت بإلحاح جديد وأكثر خطورة في الأيام والأسابيع الماضية بسبب التطورات الميدانية الأخيرة، التي ذّكرت جميع الأطراف المعنية بهشاشة التوازن العسكري على الحدود بين البلدين وسهولة انهياره. التلازم العملي للجبهتين، وتصريحات قادة حزب الله أنهم لن يوقفوا عملياتهم العسكرية طالما استمرت الحرب بين إسرائيل وحركة حماس، يعني أن الحرب في الجنوب، التي تصر إسرائيل على استمرارها إلى حين “القضاء” على الحركة، قد تصل في أي لحظة إلى حرب الشمال “المضبوطة” حتى الآن لتحولها إلى حرب مفتوحة، مع ما يحمله ذلك من احتمالات خطيرة من بينها تورط إيران والولايات المتحدة في القتال.
ويرى بعض المحللين إن إسرائيل قد تبدأ ما تعتقد أنه “حربا محدودة” لإرغام قوات حزب الله على الانسحاب إلى شمال نهر الليطاني، تمهيداً لعودة حوالي خمسين ألف مواطن إسرائيلي إلى قراهم وبلداتهم في شمال إسرائيل، بعد نزوحهم عنها تفادياً لقصف حزب الله. ويرى هؤلاء المحللين إن إسرائيل قد تجد نفسها في حرب غير محدودة، وأنها قد تعرف موعد بداية هذه الحرب، ولكنها لن تستطيع تحديد تاريخ انتهائها، أو – وهذا أكثر ما يقلق المحللين والمسؤولين في الولايات المتحدة – أنها تريد زج الولايات المتحدة فيها لمساعدتها على انهائها. وبعد المشاركة العسكرية الأميركية في صد الهجوم الإيراني الصاروخي ضد إسرائيل في أبريل/نيسان الماضي، لم يعد الحديث عن تورط القوات الأميركية المنتشرة في مياه المنطقة أو في العراق وسوريا في الحرب إلى جانب إسرائيل مسألة نظرية بحتة.
هذا القلق الأميركي المتزايد دفع بإدارة الرئيس بايدن لإيفاد المبعوث الخاص عاموس هوكستين (Amos Hochstein) في بداية الأسبوع إلى إسرائيل ولبنان لاحتواء الوضع الأمني المتدهور ولتحذير الطرفين – وخاصة لبنان – من مغبة الانزلاق إلى حرب أوسع. التقى هوكستين بقائد الجيش اللبناني جوزيف عون )الذي زار واشنطن الأسبوع الماضي) وبرئيس الحكومة المستقيلة نجيب ميقاتي. ولكن الاجتماع الأهم الذي عقده المبعوث الأميركي كان مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي يحمل رسائل المبعوث الأميركي إلى حزب الله والعكس. ويسعى هوكستين إلى إقناع حزب الله أو الضغط عليه لسحب قواته حوالي 30 كلم شمال الحدود، ما يعني عملياً شمال نهر الليطاني. ولكن لا توجد أي مؤشرات، حتى بعد التصعيد الأخير أن هذا الخيار وارد.
وأفادت مصادر مطلعة على أجواء لقاءات هوكستين أنه شرح “بوضوح الضغوط” التي يتعرض لها رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو من اليمين المتطرف، وحتى من بعض السياسيين المعارضين غير اليمينيين الذي يتهمونه بالصعف في مواجهة حزب الله، وضرورة إرغامه على الانسحاب شمال الليطاني بأي وسيلة. وألمح المبعوث، في تحذير مبطن بأن الحرب تلوح في الأفق، إلى أن الوضع المتوتر على الحدود معرض للانفجار. وكان من اللافت أن هوكستين ناقش مع المسؤولين اللبنانيين عدد الإسرائيليين الذين نزحوا من منازلهم في شمال إسرائيل، لكي يستمع بدوره للمسؤولين اللبنانيين وهم يشرحون له بتفصيل مماثل أن عدد اللبنانيين الذين نزحوا من جنوب البلاد لتفادي القصف الإسرائيلي هو على الأقل ضعف عدد الإسرائيليين. المبعوث الأميركي أشار إلى أن المنطقة ” تمر بأوقات خطيرة ولحظات مفصلية. ونحن نحاول الوصول إلى نقطة نستطيع فيها منع التصعيد الإضافي”.
وحتى الآن، باءت مساعي الولايات المتحدة التوصل إلى هدنة مؤقتة بالفشل، وتأمل واشنطن في حال التوصل إلى مثل هذا الترتيب – الذي يواصل نتنياهو معارضته، حيث يفعل ذلك أحيانا بشكل مهين وعلناً، للحكومة الأميركية، وحتى للرئيس بايدن شخصيا – يتم خلالها تبادل رهائن إسرائيل وأسرى حركة حماس خلال ستة أسابيع، ويبدأ خلالها أيضا بحث سبل تحويل وقف إطلاق النار المؤقت إلى وقف دائم، يصحبه بدايات عملية سياسية لبحث احتمالات تشكيل ائتلاف دولي لإعادة بناء قطاع غزة وبحث مستقبله السياسي.
يقول المسؤولون الأميركيون أن الالحاح الذي يصاحب مساعي وقف إطلاق النار مرتبط مباشرة بالقلق من انفجار الجبهة اللبنانية-الإسرائيلية، لأن استمرار القتال في قطاع غزة، يعني أن محاولات كل من إسرائيل وحزب الله منذ ثمانية أشهر “إدارة” الصراع بينهما بشكل مدروس ومتوازن يتفادى الحرب الواسعة قد تنتهي بالفشل، لمجرد أن صاروخاً قد ينحرف عن مساره ويؤدى إلى مقتل عدد كبير من المدنيين، أو يصيب مسؤولاً سياسياً أو عسكرياً بارزاً دون أن يكون الضحية مقصوداً. وهذا ما يعنيه المحللون الذين يتحدثون دائما عن سوء الحسابات، والخطأ في تقدير نوايا الطرف الأخر. ويشيرون في هذا السياق مثلاً إلى أن أخر حرب واسعة بين حزب الله وإسرائيل في 2006 لم يكن مخططاً لها مسبقاً من قبل حزب الله، حين أعتقد أنه يقوم بعملية عسكرية محدودة للقبض على بعض الأسرى العسكريين الإسرائيليين. حزب الله أخطأ في قراءة الرد الإسرائيلي، ما أدى إلى حرب مكلفة بشرياً ومادياً للطرفين، استمرت لحوالي ستة أسابيع، أدت إلى هدنة عملية ظلت سارية المفعول إلى حد كبير حتى أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
سلوك نتنياهو يعزز من شكوك المسؤولين في واشنطن وبعض المحللين في المنطقة وخارجها، الذين يرون أن رئيس وزراء إسرائيل يدرك أن مستقبله السياسي سوف يكون في مأزق خطير إذا توقف القتال مع حركة حماس، لأن المجتمع الإسرائيلي – وليس فقط جزءاً كبيراً من الطبقة السياسية الإسرائيلية – سوف يطلب محاسبته على الاخفاق الاستخباراتي والسياسي، الذي أدى إلى اختراق حركة حماس المكلف والمحرج للحدود الإسرائيلية. وهناك من يرى أن مصلحة نتنياهو السياسية الضيقة تقضي في حال توقفت مدافع حرب غزة، أن يتسبب في تصعيد على الجبهة اللبنانية–الإسرائيلية لتبرير بقائه في السلطة لوقت أطول.
وحتى التصعيد العسكري الأخير، كان الرأي السائد في أوساط المحللين العسكريين هو أن حزب الله وإسرائيل على الرغم من التهديدات الإسرائيلية العسكرية بشنّ حرب ضد حزب الله لإرغامه على الانسحاب شمال الحدود اللبنانية، فإن الجيش الإسرائيلي، الذي يفضل الحروب السريعة والمحدودة، لا يريد فتح جبهة ثانية لا يستطيع وقفها أو احتوائها بمفرده أو في الوقت الذي يختاره، إذا لم تشارك فيها الولايات المتحدة. ويرى هؤلاء أيضاً أن حزب الله، على الرغم من التصريحات الساخنة لقادته واستخدامه للأسلحة المتطورة، لا يريد حرباً مفتوحة نظراً لمضاعفاتها الاقتصادية المدمرة على لبنان. ويشير هؤلاء إلى أن مصلحة حزب الله وإيران العسكرية الضيقة والآنية – هذه المصلحة التي لا تبالي بالاعتبارات الأخلاقية المتعلقة بمعاناة المدنيين الكارثية في غزة – تقضي باستمرار الوضع الراهن على ما هو عليه؛ الجيش الإسرائيلي متورط في حرب استنزاف أبرزت إلى حد كبير فشله في السيطرة الكاملة على القطاع بعد ثمانية أشهر من القتال، على الرغم من القوة التدميرية التي استخدمها لتحويل أجزاء واسعة من غزة إلى أرض يباب. كما أن إسرائيل وفقاً لهذا التحليل، معزولة دولياً وسياسياً، وتتعرض للتأنيب الأخلاقي دورياً في المحافل الدولية، وحتى من قبل حلفاء إسرائيل التقليديين، بسبب استخدامها المفرط للقوة العسكرية ضد المدنيين الفلسطينيين ما أدى إلى اتهامها من قبل تنظيمات دولية، تتمتع بالصدقية، بممارسة القتل الجماعي للمدنيين.
وأخيراً، هذه الممارسات الإسرائيلية المشينة خلقت شروخا واسعة مع إدارة الرئيس بايدن، التي وفرت لإسرائيل منذ بداية الحرب دعماً شبه مطلق، عرّض بايدن لانتقادات شرعية ومبررة داخل وخارج الولايات المتحدة. هذا النقد يمكن أن يبعد شرائح اجتماعية أميركية مختلفة، مثل بعض الأميركيين من أصل افريقي والناخبين الشباب والطلاب والعرب–الأميركيين عن بايدن، لا لكي يصوتوا لمنافسه دونالد ترامب، بل لنبذ بايدن عبر البقاء في منازلهم يوم الانتخابات الرئاسية في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
رغبات الولايات المتحدة ولبنان وقادة حزب الله وبعض قادة إسرائيل بتفادي حرب شاملة على الجبهة اللبنانية-الإسرائيلية، (بعض قادة إسرائيل يدعون علناً لإشعال الجبهة مع لبنان) تتعرض إلى ضغوط متزايدة من المتغيرات الميدانية والتقلبات والتطورات العسكرية غير المقصودة أو المحسوبة بدقة، والتي تزداد حدتها وخطورتها يومياً مع استمرار الحرب في غزة، مع ما يحمله ذلك من سيناريوهات داكنة سوف تخيم مضاعفاتها وآلامها على المنطقة لسنوات طويلة.