كانت اتفاقيات إبراهام إنجازًا كبيرً لإسرائيل، فلم تشمل فقط موافقة الإمارات والبحرين والمغرب والسودان على تطبيع العلاقات مع إسرائيل، بل جسدت هذه الاتفاقيات أيضًا مبدأ “السلام مقابل السلام”، التي استطاعت إسرائيل من خلاله تجنب تقديم التنازلات مقابل التطبيع مع دول عربية. وكما قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في يونيو/حزيران2021، “مكنتنا اتفاقيات إبراهام من الخروج من معادلة الأرض مقابل السلام إلى مبدأ السلام مقابل السلام، ولم نخسر شبرًا.” بالإضافة للحسابات الاستراتيجية التي دفعت دول الخليج الرئيسية للانضمام إلى اتفاقيات إبراهام، فقد مثّلت هذه الاتفاقيات انتصارًا استراتيجيًا لإسرائيل، ساعدها على تشكيل مشهد سياسي عربي-إسرائيلي يُسهل من تعاطيها مع السعودية، هدفها الدبلوماسي الأساسي. وقد يكون الحفاظ على هذه الاتفاقيات على قيد الحياة هو محاولة للتخفيف من بعض الضغوط السياسية الداخلية، الناتجة عن مشروع الإصلاحات القضائية التي قدمها الائتلاف اليميني الحاكم.
ومع ذلك، ثمة تكهنات بأن أبوظبي والمنامة قد تقطعان العلاقات مع إسرائيل في أعقاب صعود المتطرفين، بقيادة نتنياهو، إلى مناصب عليا في الحكومة الإسرائيلية، ونتيجة لتكثيف الغارات العسكرية الإسرائيلية على الضفة الغربية. وكما أن انهيار اتفاقيات إبراهام أمر غير مرجح، فإن انضمام بقية دول مجلس التعاون الخليجي إلى الاتفاقيات مستبعد أيضًا. إن الحكومة الإسرائيلية منهمكة في الحفاظ على العلاقات الرسمية التي أقامتها حديثًا، وعليها السعي للحفاظ على هذه الاتفاقات إذا كانت ترغب في استمرار نموذج السلام مقابل السلام. تستخدم إسرائيل ثلاث استراتيجيات من أجل تحقيق هذا الهدف.
دول الخليج لا ترغب في الانضمام، لكن دول إسلامية أخرى
نظرًا لاستبعاد انضمام بقية دول مجلس التعاون الخليجي إلى اتفاقيات إبراهام على المدى القريب، تحاول إسرائيل ضم دول أخرى ذات أغلبية مسلمة إلى “دائرة السلام“. ويقال إن وزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين (Eli Cohen)، يعمل على تطبيع العلاقات مع موريتانيا والصومال والنيجر وإندونيسيا. ولكن ليس هناك سوى إشارات ضئيلة على إحراز أي تقدم في هذا السعي. وقد انتكست طموحات إسرائيل في توسيع نطاق الاتفاقيات لتشمل إندونيسيا، الدولة الأكبر من حيث عدد السكان المسلمين، عندما رفض حاكم بالي السماح بدخول منتخب كرة القدم الوطني الإسرائيلي تحت 20 عامًا، وهو قرار حكومي محلي يشير إلى تردد إندونيسيا في تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
وقال كوهين، في أعقاب زيارة قام بها في 19 أبريل/نيسان إلى أذربيجان وتركمانستان، وهما دولتان ذات أغلبية مسلمة تحدان إيران، “في الماضي، ركزنا في وزارة الخارجية على دول الخليج في محاولة لتوسيع اتفاقيات إبراهام، وكذلك على الدول الأفريقية… بهذه الزيارة… نتوسع في منطقة أوراسيا”. وإلى جانب الإشارة إلى أن إسرائيل توجه اهتمامها نحو الدول الإسلامية خارج منطقة الخليج، يوحي بيان كوهين بأن اتفاقيات إبراهام، في نظر حكومة بلاده، تحتوي على مجالين: الأول هو النواة، ويتمحور حول السعودية وبقية دول مجلس التعاون الخليجي، والثاني طرفي، ويضم الدول ذات الأغلبية المسلمة غير العربية. وبما أن التطبيع مع السعودية ليس مرجحًا على المدى القريب، فإن جهود إسرائيل الدبلوماسية للحفاظ على الاتفاقيات تتركز على الأطراف.
التركيز على التواصل ما بين الشعوب
إن الاستراتيجية الثانية التي تعتمد عليها إسرائيل للحفاظ على اتفاقيات إبراهام هي توسيع التعاون الضمني بينها وبين دول مجلس التعاون الخليجي. في حين أن العلاقات الرسمية مع دول المجلس، التي لم توقع على اتفاقيات إبراهام، لا تزال باردة، فمن المرجح أن تحاول إسرائيل توسيع التواصل بين الشعوب وبعضها البعض والتواصل الإعلامي في الخليج.
إن سعي دول الخليج لتصبح مركزًا دوليًا لاستضافة الأحداث العالمية، التي لا بد أن تشارك فيها إسرائيل والإسرائيليون، سوف يساعد في تعزيز جهود إسرائيل في توطيد هذه التفاعلات. على سبيل المثال، شارك رياضي إسرائيلي في أكتوبر/تشرين الأول 2022 في السباق الثلاثي (الترياثلون) في السعودية، كما حظيت مباراة جودو بين امرأة سعودية وإسرائيلية في أولمبياد طوكيو 2021 باهتمام كبير، ومؤخرًا، حضر فريق إسرائيلي إلى الرياض للمشاركة في بطولة كأس العالم لكرة القدم الإلكترونية (فيفا).
وكثيرًا ما تستضيف القنوات التلفزيونية الإسرائيلية أكاديميين ومحللين خليجيين (عادةً لمقيمين في الإمارات)، لمناقشة احتمالات ازدهار اتفاقيات إبراهام مع الإمارات والبحرين، والبحث في آفاق تطبيع العلاقات مع السعودية. على سبيل المثال، قال “ناشط سلام” مقيم في الإمارات في مقابلة مع i24 نيوز، “أعتقد أن التطبيع مسألة وقت”. وجدير بالذكر أن وسائل الإعلام الإسرائيلية تعطى مساحة كبيرة للأصوات المؤيدة لاتفاقيات إبراهام، فيما تخصص وقتًا أقل بكثير (إن وجد أصلًا) للأصوات الخليجية المشككة في الاتفاقيات. وغالبًا ما تصور الخطابات، المتمحورة حول إسرائيل، التفاعلات مع هؤلاء المؤيدين الخليجيين على أنها علامات على تطبيع وشيك بين بقية دول الخليج وإسرائيل، فيما يمكن اعتباره مبالغة لأهمية هذه التفاعلات. على كل حال، ما تزال هذه الجهود ذات مغزى في بناء العلاقات بين الشعوب. إن تعزيز هذه التفاعلات الإسرائيلية-الخليجية سيكون أكثر فائدة بالنسبة لإسرائيل في المستقبل، لأنها تساعد الحكومة الإسرائيلية على تعزيز أهدافها الاستراتيجية المعلنة، وتخفيف الضغوط والاضطرابات السياسية في الداخل، والمستويات المتزايدة من العنف مع الفلسطينيين.
التكهنات المستمرة
تتمثل الاستراتيجية الثالثة، التي تعتمدها إسرائيل للحفاظ على اتفاقيات إبراهام، في خلق التكهنات السياسية. ويتم ذلك عن طريق قيام مسؤولون إسرائيليون (وغيرهم) بالإشارة إلى أن مزيد من التعاون الرسمي أو “إنجازات كبيرة” مع دول الخليج يلوح في الأفق. في المقابل، يمكن أن يتم تسييس هذه التكهنات، أو حتى تأطيرها، لرسم صورة غير دقيقة بأن اتفاقيات إبراهام حية وتتوسع. ومع أن العلاقات التجارية مستمرة بين البلدين، لم تعد تحظى اتفاقيات إبراهام، على نحو متزايد، بشعبية في الشارع الخليجي، كما تزداد الشكوك حول مزاياها كإطار للسلام الإقليمي.
وقد حدد نتنياهو، في خطابه الأول كرئيس للائتلاف الحالي، أربعة أهداف سياسية كبرى، أحدها هو “توسيع دائرة السلام بشكل كبير”، في إشارة ضمنية إلى تطبيع العلاقات مع السعودية. في مارس/آذار الماضي، منعت السعودية زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي المقررة لحضور فعالية للأمم المتحدة استضافتها المملكة. والتي كان من المرجح أن تصفها إسرائيل بالتاريخية لو تحققت. ومع ذلك، ادعى كوهين بعد أسابيع، أثناء وجوده في أذربيجان، أن ثمة زيارة إلى السعودية “مطروحة على الطاولة”، مما أبقى التكهنات حول زيارة له إلى المملكة حية، على الرغم من اعتراف المسؤولين الإسرائيليين بأن الرياض منعت رحلة كوهين في مارس/آذار.
وتلقت استراتيجية خلق التكهنات دفعة جديدة بعد أن اجتمع السناتور ليندسي جراهام (Lindsey Graham) في أبريل/نيسان مع ولي عهد السعودي محمد بن سلمان، وهو الذي وعد بعدم زيارة السعودية مطلقًا بعد مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي عام 2018، طالما ظل محمد بن سلمان في سدة السلطة. أضاف جراهام للتكهنات بخصوص التطبيع الإسرائيلي-السعودي، مبررًا تراجعه عن وعده بقوله: “كنت أتحدث مع إدارة بايدن عن التعاون مع السعودية… للبناء على اتفاقيات إبراهام”.
أعطت موجة التكهنات التي أثارتها تعليقات جراهام فرصة لكوهين للادعاء بأن مسألة الرحلات الجوية المباشرة للحجاج الإسرائيليين المسلمين إلى السعودية هي “قيد المناقشة”، مع أن المملكة لم تظهر أي مؤشرات تدل على أن هناك ثمة اتفاق وشيك في الأفق. وقال كوهين “لكنني متفائل بأنه يمكننا دفع السلام مع السعودية”. كان يأمل المسؤولين الإسرائيليين في أن تساعد الحكومة الأمريكية في تسهيل الرحلات الجوية من إسرائيل إلى السعودية للمسلمين الإسرائيليين ومسلمي الضفة الغربية، إلا أن الحكومة السعودية لم تفسح المجال أمام هذه المحاولة لتسييس الحج واستخدامه كإشارة على التقارب بين البلدين بشكل رسمي. ومع ذلك، قال مستشار الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنجبي (Tzachi Hanegbi)، “ربما في الحج المقبل سنكون في وضع يسمح بحدوث هذا الأمر”.
وبالمثل، قد يتم تصوير الزيارات المستقبلية التي سيقوم بها المسؤولون الأمريكيون إلى المملكة على أنها دفعة نحو المضي قدمًا في اتفاقيات إبراهام. ومن المرجح أن تكون هذه الزيارات مصحوبة بموجة من التقارير التي تتوقع توسيع اتفاقيات إبراهام، بغض النظر عن احتمال انضمام السعودية فعليًا إلى الاتفاقيات في المستقبل القريب. على سبيل المثال، ألقى مستشار الأمن القومي جيك سوليفان (Jake Sullivan) خطابًا في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى في الرابع من مايو/أيار، قبل وقت قصير من سفره إلى السعودية، ذكر فيه أن “الوصول إلى التطبيع الكامل” بين إسرائيل والسعودية “هو مصلحة أمن قومي معلنة للولايات المتحدة”، مما أثار موجة من التكهنات الرئيسية بشأن رحلة سوليفان إلى المملكة، والجهود التي تبذلها الولايات المتحدة لتسهيل التطبيع الإسرائيلي-السعودي. وبالرغم من الضجة الإعلامية، فإن البيانات الصادرة من البيت الأبيض عن اجتماعات سوليفان في السعودية لم تذكر حتى إسرائيل.
وقد أقر المسؤولون الأمريكيون بأن التقارير المتعلقة بتوسيع نطاق اتفاقيات إبراهام، والتي تدعو إلى ضم بقية دول الخليج، وخاصة السعودية، هي عبارة عن تكهنات أكثر من كونها حقائق. قالت مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف (Barbara Leaf ) في 31 مايو/أيار، تعليقًا على التطبيع الإسرائيلي السعودي الوشيك المفترض، إن “هناك الكثير من التقارير المضللة والضجة الإعلامية… خاصة في الصحافة الإسرائيلية”. وبالمثل، أفادت بعض التقارير أن مسؤولًا أمريكيًا، لم يُفصح عن اسمه، وصف التقارير الإسرائيلية حول مفاوضات التطبيع بين إسرائيل والسعودية على أنها “مثيرة للضحك”.
مع هذا، وقعت السعودية مؤخرًا اتفاقًا يسمح لمسؤولين إسرائيليين حضور فعالية لليونسكو من المقرر أن تجري في المملكة خلال شهر سبتمبر/أيلول المقبل. وفي حين لا يزال بعض المسؤولين الإسرائيليين متخوفون من محاولات لتعقيد زياراتهم إلى المملكة من قبل المسؤولين السعوديين، إلا أن زيادة التفاعلات بين البلدين قد يؤدي، على الأرجح، إلى تزايد العناوين الرئيسية المثيرة في الإعلام. إن زيادة قدرات السعودية، التي تسعى جاهدة لتصبح مركزًا دوليًا للأحداث والتجارة، لا يسمح لها بمقاطعة الوجود الإسرائيلي بشكل رسمي. لذلك فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ما إذا كانت هذه التفاعلات الإسرائيلية-السعودية ناتجة عن جهود دبلوماسية إسرائيلية، وتنامي العلاقات الثنائية بين البلدين، أم أنها ناتجة عن العولمة التي تستفيد منها إسرائيل. وفي كلتا الحالتين، سيتم تلفيق مثل هذه التفاعلات وتصويرها من قبل المسؤولين الإسرائيليين على أنها دليل على نجاح اتفاقيات إبراهام.
الهدف الدبلوماسي الأول لإسرائيل يظل بعيد المنال
ازدادت أحداث العنف بين الفلسطينيين والإسرائيليين مع صعود الحكومة اليمينية المتطرفة إلى الحكم في إسرائيل، ومن المرجح أن تستمر. قد يكون هذا التصعيد أهم اختبار واجهته اتفاقيات إبراهام، التي مضى عليها ما يقرب من ثلاث سنوات حتى الآن. وفي حين أصدرت الحكومات الخليجية بيانات إدانة بشأن العنف المتزايد في إسرائيل، إلا أنه لا توجد اليوم أي مؤشرات تدل على أن الإمارات أو البحرين ستعيدان النظر في قرارهما الاستراتيجي للانضمام إلى الاتفاقيات. ومع ذلك، ونظرا للتوترات داخل إسرائيل والضفة الغربية، ستواجه الحكومة الإسرائيلية تحديًا كبيرًا في الحفاظ على مبدأ “السلام مقابل السلام” الذي تأسست عليه اتفاقيات إبراهام، وفي إيجاد طرق لإقناع بقية دول الخليج والدول العربية الرئيسية بأن من مصلحتها الانضمام لهذه الاتفاقيات. في غضون ذلك، يظل التطبيع مع السعودية، الهدف الدبلوماسي الرئيسي لإسرائيل، بعيد المنال.