احتدم النقاش يوم الجمعة 23 أيلول/سبتمبر في الكونغرس حول ما يحتمل أن يشكّل أهمّ قوانين السياسة الخارجية على مدى سنوات عديدة، عندما لجأ الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى استخدام حقه في الفيتو لرفض قانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب” (جاستا). والجدير بالذكر أن هذا القانون، الذي يسمح للمواطنين الأمريكيين بمقاضاة الحكومات الخارجية و/أو مسؤوليها لتحميلهم المسؤولية القانونية بشأن مقتل أمريكيين في اعتداءات إرهابية على الأراضي الأمريكية، قد حصل على موافقة كل من مجلس الشيوخ والبرلمان بالإجماع. ويشكل فيتو أوباما الأول من نوعه الذي يحتمل أن يلغى في خلال ولايتيه في الحكم.
وسيصعب جدًا على أوباما تأمين الدعم الكافي للحفاظ على الفيتو الذي استخدمه على الرغم من القلق الشديد والواسع النطاق الذي لا يساور البيت الأبيض فحسب، بل يطال أيضًا العديد من خبراء الأمن القومي والخبراء الدبلوماسيين، حول عواقب قانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب” المترتبة على تنفيذ السياسة الخارجية والعمليات العسكرية الأمريكية حول العالم. ويشدد البيت الأبيض على أن العديد من النواب يقرّون سرًا بالمخاطر الطويلة الأمد إن تخلّت الولايات المتحدة، وهي ليست ككافة الدول، عن اتفاقية الحصانة السيادية النافذة منذ وقت طويل والتي لا تسمح بمقاضاة الدول ومسؤوليها بناء على سلوكهم الرسمي. فالخسائر المحتملة التي قد تتكبدها الولايات المتحدة نتيجة تقويض علاقاتها الدولية أكبر من تلك التي قد تواجهها سائر الدول نظرًا إلى الحضور والدور الفريديَن للولايات المتحدة على المستوى العالمي.
ولكنه يسصعب من الناحية السياسية مقاومة الصدى العاطفي الذي لاقته الدعوة إلى “نيل عائلات ضحايا 11 أيلول/سبتمبر العدالة”، نظرًا إلى أن القانون يقوم في المقام الأول على الرغبة في السماح لتلك الأسر بمقاضاة المملكة العربية السعودية أو مسؤوليها بتهمة التواطؤ المزعوم في تلك الاعتداءات الإرهابية. وقد يكون توقيت القانون الأسوأ بالنسبة إلى الرئيس أوباما وكل من يعي مقدار الضرر الهائل الذي قد يلحقه القانون بالمصالح الوطنية للولايات المتحدة. فيأتي القانون قبل أسابيع فحسب من انتخابات وطنية مهمة سيكون العديد من أعضاء البيت الأبيض ومجلس الشيوخ مسؤولين فيها بشكل مباشر أمام الناخبين. وببساطة، متى تقوم الولايات المتحدة بالاستغناء عن مبدأ الحصانة السيادية، ستواجه سلسلة بلا نهاية من الدعاوى المرفوعة حول العالم بناء على أي عمل يعتبر غير شرعي كانت قد قامت به في أي دولة أخرى. وليست المملكة العربية السعودية الدولة الوحيدة القلقة بشأن تبعات القانون. فصدرت تقارير عدة عن حلفاء الولايات المتحدة، بما في ذلك الدول الأوروبية وإسرائيل (بهدوء)، أعربت عن قلق تلك الدول بشأن العواقب الطويلة الأمد التي ستترتب على هيكلية العلاقات الدولية في حال بادرت واشنطن بإلغاء الحصانة السيادية.
ويبدو أن هذا القانون فريد من حيث حرمانه للسلطة التنفيذية من حق إصدار الإعفاء المُلزِم المطبّق في قرارات السياسة الخارجية. وينص قانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب” على أن وزير الخارجية قد يطلب إيقاف سير مثل هذه الدعوى، و”يحق” للمحكمة أن تقوم بذلك، أو لا يحق لها ضمنيًا، إن “دخلت الولايات المتحدة في مناقشات النوايا الحسنة مع الدولة الأجنبية المدعى عليها” أو مع أطراف أخرى. وعلاوة على ذلك، ينص القانون صراحًة على أن المحاكم دون غيرها تمتلك “الصلاحية الحصرية” لحل هذه القضايا.
فإن قررت المحاكم أن تقبل بمصادقة وزارة الخارجية على مناقشات النوايا الحسنة، تتم إحالة القضية مجددًا إلى السلطة التنفيذية على أساس شبه دائم. ومتى تم إيقاف سير الدعوى، يحق للمدعي العام أن يطالب بتمديد فترة وقف الدعوى، و”يتعين” على المحاكم أن تلبي هذا الطلب طالما تشهد وزارة الخارجية أن “مناقشات النوايا الحسنة” مستمرة مع الدولة الأجنبية. ولا تفرض أي قيود على كمية المهل التي تجبر المحكمة على إعطائها والتي تمتد كل منها على 180 يومًا متى صدر قرار وقف سير الدعوى الأساسي.
بالتالي، يحاول الكونغرس في الواقع أن يغيّر جانبًا ضيقًا لكن ذا تأثير كبير في عملية صنع القرارات في السياسة الخارجية عبر نقله من السلطة التنفيذية إلى السلطة القضائية في إطار بعض أنواع الدعاوى. وربما يكون غياب الإعفاء التنفيذي المُلزِم الميّزة الأكثر غرابة في هذا القانون. فعلى سبيل المثال، نصّ قانون سفارة القدس للعام 1995 على نقل السفارة الأمريكية في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، إلا أنه سمح بالإعفاء الرئاسي الذي استخدمه كل الرؤساء منذ إقراره. ومن المسلم به عموما أن التنازلات التنفيذية في مثل هذا القانون تحفاظ على الفصل بين السلطات فتتولّى السلطة التنفيذية مهمة إدارة السياسة الخارجية.
وشملت الحالات الأخرى التي حاول فيها الكونغرس أن يكبّل يدي السلطة التنفيذية في ما يتعلق بقضايا السياسة الخارجية اللجوء إلى صلاحيته التقليدية في إدارة المخصصات المالية، إذ رفض أن يموّل السياسات الخارجية التي يسعى إلى إفشالها. وخير مثال على ذلك التعديلات الثلاثة على الاعتمادات التي عرفت معًا باسم “تعديلات بولاند” والتي أجريت بين عامي 1982 و1984 وحظّرت على الحكومة الأمريكية تقديم المساعدة إلى متمردي “الكونترا” في نيكاراغوا الذين أرادوا أن يسقطوا الحكومة الساندينية. وشكّل هذا القانون جزءًا رئيسيًا من سياق الفضيحة المعروفة بإيران-كونترا. ولكن حتى في مثل هذه الحالات، تم الحفاظ على نظام الفصل بين السلطات التقليدي واستمر الكونغرس في محاولاته للتأثير على السياسة الخارجية عبر المخصصات المالية ليس إلا.
لا يعكس قانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب” المفهوم التقليدي السائد لمبدأ الفصل بين السلطات، بل يقدّم سلطة قضائية جديدة لا تعترضها السلطة التنفيذية إلا إذا أحالت المحاكم طوعًا القضية مجددًا إلى السلطة التنفيذية. وعلاوة على ذلك، يستطيع قانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب”، في الواقع، أن يخلص إلى إسناد الجوانب الحساسة من السياسة الخارجية الأمريكية إلى محامي المدّعين الذين قد يطلبوا من الحكومات الأجنبية أن تزوّدهم بحيّز استثنائي من المعلومات عبر عملية الكشف عن البيانات. وقد لا يتقيّد محامو المدّعين بأي اعتبارات لا تخدم مصالح موكّليهم وبأي اهتمامات ضيقة أخرى لا تمت بصلة إلى أولويات أي بلد كان أو احتياجاته أو إلى عامة الشعب أو إلى النظام والاستقرار الدوليين.
لا شك في أن الدول الأجنبية، بما فيها أبرز حلفاء الولايات المتحدة، ستتردد كثيرًا في الكشف عن المعلومات الحساسة والمصادر والطرق التي تلجأ إليها لجمع المعلومات ليتم الإفصاح عنها في المحاكم الأمريكية في حال تعرضت لمثل هذا الموقف – هذا إن لم نقل إنها ليست على استعداد أبدًا لفعل ذلك. وقد تجد هذه الدول ومسؤولوها أنفسهم متورطين في دعاوى قضائية لفترات طويلة من الزمن، ما قد يشكّل مصدر إلهاء هائل وعائق كبير في وجه قدرتهم على تسيير الأعمال اليومية لإدارة علاقاتهم الدولية. وعلى غرار ذلك، قد يصبح مسؤولو الحكومة معرضين تمامًا لطلبات تكميلية في المحاكم الأجنبية. وسيكون على الدبلوماسيين وضباط الجيش الأمريكيين أن يضعوا بالحسبان حجم مسؤوليتهم القانونية الشخصية عند تنفيذهم للتعليمات وقيامهم بالمهام الأخرى التي تخدم مصلحة الولايات المتحدة الوطنية. وإن كان على الحكومات ومسؤوليها أن يسيّروا أعمالهم من دون التمتع بالحصانة السيادية المتبادلة، قد يؤدي ذلك إلى تقويض جوهر عمليات صنع القرار الدبلوماسية والعسكرية، الجماعية منها والفردية، ونتائجها. ومجددًا، لا يعتبر أي بلد أكثر عرضة لهذا السيناريو وأكثر تضررًا من الولايات المتحدة.
وبالتأكيد يرغب البيت الأبيض في أن يحافظ على حقه بإصدار الإعفاء التنفيذي الملزم مع قانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب” إلا أن هذا الأمر مستبعد تمامًا. وها إن عددًا من المبادرات يجري على قدم وساق للحدّ من الأذى المحتمل عبر نسخة معدّلة من قانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب” يمكن أن تعتبر بمثابة تسوية بين البيت الأبيض والكونغرس. ومن شأن هذه التسوية أيضًا أن تحدّ من الأذى الذي قد يلحق بمبدأ الفصل بين السلطات من خلال احتواء تبعات القانون بشكل فعال بفضل طريقة ما يتم الاتفاق عليها بالإجماع. وليس من الواضح مدى إمكانية نجاح أي من هذه الجهود نظرًا إلى أنه من شبه المؤكد أن الأعمال التشريعية ستبدأ هذا الأسبوع.
ويبقى قانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب” خطرًا يلوح في الأفق ويتربص بالسياسة الخارجية الأمريكية، وبالعلاقات مع المملكة العربية السعودية. ومن المحتمل أن يهدد أيضًا لائحة طويلة تضمّ المزيد من أبرز حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا وفي كل بقاع الأرض. ولا يقتصر الأمر على تعرّض أوباما للإهانة بعدما أقدم الكونغرس للمرة الأولى على إبطال الفيتو الرئاسي فحسب بل توشك الولايات المتحدة على إلغاء مبدأ الحصانة السيادية الذي يحميها، أكثر من أي دولة أخرى، من الدعاوى التي لا تحصى التي قد ترفع ضدها بسبب إدارتها لسياستها الخارجية والعسكرية حول العالم.