في 26 مايو/أيار، أمر رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بإلقاء القبض على قائد الميليشيا القوي قاسم مصلح، بتهمة تنفيذ عمليات قتل خارج نطاق القانون بحق المتظاهرين السلميين، بالإضافة إلى هجماته التي استهدفت قاعدة جوية تستضيف القوات الأمريكية والدولية في العراق. وبإصداره أمر الاعتقال، يكون الكاظمي قد حرض الدولة العراقية بشكل مباشر ضد الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران.
بعد ذلك بأيام، كانت اليد العليا لا تزال للدولة العراقية وسيادة القانون، على عكس ما كان عليه الحال سابقًا. في يونيو/حزيران 2020، أمر الكاظمي باعتقال 14 من مقاتلي الميليشيات، المدعومة من إيران، بينما كانوا يعدون لهجمات صاروخية هدفها مطار بغداد الدولي. ومع ذلك، وبعد دخول المسلحين للمنطقة الخضراء، مقر سفارات أجنبية ومسؤولين عراقيين رفيعي المستوى، وبعد مطالبتهم بالإفراج عن جماعتهم، نقل الكاظمي عهدتهم إلى الميليشيات، مطلقًا سراح المقاتلين بشكل أساسي. وقد حظي نجاح الكاظمي هذه المرة – في اعتقال المقاتلين وقدرته على إبقاء مصلح رهن الاعتقال، على الرغم من تهديد الميليشيات – بإشادة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لأنه يشير لتغييرات مهمة في العراق، في الوقت الذي تستعد فيه البلاد لانتخابات برلمانية في أكتوبر/تشرين الأول.
أولًا وقبل كل شيء، يوضح القيام بهذه الاعتقالات أن ميزان القوى بين مؤسسات الدولة والميليشيات الشيعية، المدعومة من إيران، والتي تندرج تحت سيطرة قوات الحشد الشعبي الرسمية، ظاهريًا، ولكنها تعمل خارج نطاق سيطرة الحكومة، يمكن أن يميل لصالح الدولة. وبصفته رئيس الوزراء، فإن الكاظمي مسؤول قانونيًا عن جميع قوات الأمن، كما أنه مسؤول عن كبح جماح قوات الحشد الشعبي، وهي مجموعة شاملة تتألف من عشرات الآلاف من المقاتلين، وهذا أمر بالغ الأهمية لإرساء القانون والنظام. وكانت خطوته لممارسة السلطة على قوات الحشد الشعبي مطلبًا طالما نادى به المجتمع الدولي والعديد من العراقيين.
جاء اعتقال مصلح، قائد لواء الطفوف، التابع للحشد الشعبي، ردًا على مقتل قائد الاحتجاج إيهاب الوزني في 6 مايو/أيار في مدينة كربلاء. حيث اندلعت تظاهرات حاشدة أمام القنصلية الإيرانية في كربلاء فور وفاته- وهي رسالة قوية وصريحة تعارض التدخل الإيراني في العراق. في 25 مايو/أيار، اندلعت احتجاجات ضخمة مرة أخرى، في بغداد بصورة رئيسية. واتهم المحتجون مصلح بأنه هو من أمر بقتل الوزني. وفقًا للأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان، قُتِلَ أكثر من 600 شاب عراقي منذ بدء التظاهرات في أكتوبر/تشرين الأول 2019. استخدمت القوات المسلحة الذخيرة الحية لقتل منظمي الاحتجاجات، ووجهت أصابع الاتهام لميليشيات قوات الحشد الشعبي بالاغتيالات التي استهدفت قادة الاحتجاجات. وحسب مسؤولين عراقيين، فإن مصلح متهم أيضًا بالتورط في عدة هجمات استهدفت قاعدة عين الأسد الجوية، حيث تتمركز الولايات المتحدة وقوات دولية أخرى.
الإشارة الثانية للتغيير هي أن الكاظمي قرر الآن استخدام المؤسسات الأمنية الرئيسية للدولة للحد من تجاوزات الميليشيات- على الأقل في هذه الحالة. وقد يُنبئ ذلك بزيادة قوة الدولة، ويشكل نكسة كبيرة لقوات الحشد الشعبي. كما ألقى جهاز مكافحة الإرهاب، وهو الجهة المسؤولة إلى حد كبير عن هزيمة العراق لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، القبض على مصلح واعتقاله واقتياده لمكان، لم يتم الكشف عنه، بطائرة مروحية. ثم حاولت الميليشيات ترهيب الكاظمي بنشر قواتها في المنطقة الخضراء. ووفقًا لعدة تقارير إعلامية، حاصر مقاتلو الميليشيات منزل رئيس الوزراء.
قال الكاظمي خلال اجتماع لمجلس الوزراء في 26 مايو /أيار، إن استعراض قوات الحشد الشعبي للقوة في المنطقة الخضراء كان “انتهاكًا خطيرًا للدستور”. وأعلن وزير الدفاع جمعة عناد أن الدولة لن ترهبها الميليشيات “إن استخدام ثقافة لَيّ الذراع لا يمكن أن يخيف دولة أو جيشًا”. وصرح بأن القضاء هو المسؤول الآن عن القضية، وهو الذي سيبت في مصير مصلح من خلال الإجراءات القانونية.
بعد هذا الدعم المؤسساتي الراسخ للكاظمي، أمرت قيادة قوات الحشد الشعبي مقاتليها بالانسحاب من المنطقة الخضراء مساء 26 مايو/أيار. ولكن في محاولة يائسة لحفظ ماء الوجه، لجأت قوات الحشد الشعبي للحملات الدعائية وبدأت في تداول مقاطع فيديو على الإنترنت مدعين، كذبًا، أنه تم الإفراج عن مصلح. قال قيس الخزعلي، زعيم ميليشيا عصائب أهل الحق، المتحالفة مع إيران، إنه ينبغي تسليم مصلح لقوات الحشد الشعبي، لأنه فرع من جهاز أمن الدولة العراقي.
يمكن أن تكون النتيجة الثالثة للاعتقال هي تعزيز حركة الاحتجاج، وتوسيع نطاق دعم المجتمع المدني العراقي للكاظمي والدولة. ومن المرجح أن ضغوط المحتجين، الذين يطالبون بمعاقبة قوات الميليشيات، التي استهدفتهم منذ بدء التظاهرات الحاشدة في أكتوبر/تشرين الأول عام 2019، كانت هي العامل الرئيسي في قرار الكاظمي باعتقال مصلح. قبل أيام قليلة من الاعتقال، أخبر قادة الاحتجاجات، الذين شكلوا أحزابًا سياسية جديدة للتنافس في انتخابات أكتوبر/تشرين الأول، الرئيس برهم صالح أنهم سيقاطعون الانتخابات ما لم تعمل الدولة على إرساء القانون والنظام.
في حين أن في المقاطعة رسالة قوية للحكومة العراقية، التي هي في أمس الحاجة لمشاركة فعالة من الناخبين، والتي من شأنها أن تعيد درجة من الشرعية للنظام السياسي، إلا أنها ستكون أيضًا ذات نتائج عكسية بالنسبة لأهداف المتظاهرين. إن انخفاض نسبة مشاركة الناخبين لن يؤدي إلا إلى إطالة أمد نظام المحاصصة القائم، والذي يسمح للجيل القديم من النخب السياسية الشيعية بالبقاء في السلطة – وهو الأمر الذي يناضل ضده المتظاهرون.
أظهر استطلاع أبريل/نيسان للرأي العام الذي أجرته مجموعة المستقلة للبحوث والدراسات [العاملة في العراق] بالتعاون مع مؤسسة جالوب الدولية أن الثقة العامة في الحكومة وصلت إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق، حيث أظهر أن 22% فقط من العراقيين و17% فقط من الشيعة يثقون بالحكومة. وفي الاستطلاع نفسه، تبين أن 75% من العراقيين و80% من الشيعة يعتقدون أن البلاد تسير في الاتجاه الخاطئ.
هناك تأييد واسع النطاق داخل المجتمع العراقي للحركة الاحتجاجية، لأن العراقيين يشاطرون المتظاهرين مخاوفهم ومطالبهم. كانت الأغلبية الساحقة من الشعارات واللافتات خلال الاحتجاجات ذات طابع قومي، بما في ذلك صيحة المعركة التي أصبحت الشعار غير الرسمي للاحتجاجات: “نريد وطنًا”.
تقول مصادر أمنية عراقية إن المزيد من الاعتقالات ستتم في المستقبل القريب. وفي الوقت نفسه، من المرجح أن تستمر اغتيالات المحتجين في محاولة لوقف زخم انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 2019. ومع ذلك، يمكن أن تكون المنافسة على الدولة العراقية قد أخذت منحى جديدًا الآن، فخلافًا لحادثة يونيو/حزيران 2020، التي أضعفت سلطة الكاظمي وسلطة حكومته، فإن الحسابات السياسية ربما تكون قد تغيرت. وإذا أخذت القضية ضد مصلح مجراها القضائي، كما وعد وزير الدفاع، فقد يكون ذلك تغييرًا في قواعد اللعبة ليس فقط بالنسبة للعلاقة بين الدولة وقوات الحشد الشعبي، وإنما لعلاقتها مع جيل الشباب العراقي، الذي يناضل كذلك من أجل الإصلاح.