العلاقة الشخصية القوية التي طورها الرئيس دونالد ترامب مع نظيره الفرنسي ايمانويل ماكرون، تجلت بوضوح بالمراسيم الاحتفالية لزيارة الدولة للرئيس الفرنسي وزوجته بريجيت، وهي الأولى خلال ولاية الرئيس ترامب، وكذلك بالأسلوب الحميم لتعامل الرئيسين مع بعضهما البعض، من تبادل العناق، وتقبيل الوجنتين، ومسك الأيادي والمصافحات الطويلة.
وعلى مدى ثلاثة أيام تحولت واشنطن إلى مسرح تحرك فوقه الرئيس ماكرون بفعالية حيث تفاعل بحرارة مع المسؤولين والمواطنين العاديين، خلال مؤتمرات صحفية، وخطاب هام ألقاه أمام مجلسي الكونغرس، فضلا عن لقاء مع طلاب جامعة جورج واشنطن. ماكرون يرى نفسه في موقع فريد في علاقته الحميمة مع الرئيس ترامب، يختلف عن العلاقات الفاترة بين ترامب وقادة حلفاء الولايات المتحدة التقليديين مثل بريطانيا وألمانيا وكندا. ماكرون يعتقد أن هذه العلاقة يمكن أن تسمح له باقناع ترامب بتعديل أو تطوير مواقفه “القومية” الفجة أو الانعزالية المتعلقة بالتجارة الدولية، أو التغيير البيئي والعلاقة مع الحلفاء التقليديين.
الرئيس الفرنسي هو “أبن” النظام الليبرالي الدولي الذي بنته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، عبر مؤسسات مثل الأمم المتحدة، ومنظمة التجارة الدولية، وحلف شمال الأطلسي (الناتو) وغيرها. وكان من اللافت أنه خلال مداخلاته السياسية العلنية والخاصة في واشنطن، كان ماكرون يحض الأمريكيين، في نقد ضمني لدونالد ترامب، على ضرورة صيانة المؤسسات الدولية “التي خلقتموها أنتم،” كما قال للمشرعين الأمريكيين. ماكرون، السياسي الواقعي، جاء إلى واشنطن لاستخدام ما لديه من رصيد ( أو جاذبية شخصية) مع ترامب لإقناعه بعدم الانسحاب من الاتفاق النووي الدولي الموقع مع إيران في 2015، والرامي إلى تقليص وتجميد برنامجها النووي.
سحر ماكرون المحدود
ولكن ماكرون اضطر في نهاية زيارته للاعتراف بعدم نجاحه حين قال للصحفيين إنه يتوقع انسحاب ترامب من الاتفاق النووي كجزء “من استراتيجية زيادة التوتر” في التعامل مع الخصوم، وتابع “باعتقادي – وأنا لا أعلم ما الذي سيفعله رئيسكم – أنه سيتخلص من الاتفاق بمفرده، لأسباب داخلية”. ورأى الرئيس الفرنسي أن مثل هذا الأسلوب “يمكن أن ينجح في المدى المنظور، ولكنه جنوني في المدى المتوسط والمدى البعيد، عندما تغير (الولايات المتحدة) مواقفها مرارا”. هذا الموقف عكس تسليم الرئيس الفرنسي بأن كل المظاهر الحميمية المبالغ فيها بينه وبين ترامب، والتي وصلت إلى المستوى المسرحي، وعرضّت ماكرون إلى انتقادات كثيرة في فرنسا، أخفقت كليا في تعديل مواقف ترامب. ولكي لا يعرّض نفسه لانتقادات أضافية، حذّر ماكرون في تصريحاته العلنية من أخطار الانسحاب من الاتفاق “لأنه يضبط نشاطات إيران” النووية “ولذلك لا نستطيع التخلص منه بهذه الطريقة”. ولكن ماكرون، قال إن لديه خطة “استراتيجية” مصممة لمعالجة اعتراضات الرئيس ترامب على الاتفاق النووي، مثل تمديد مدة سريان مفعول الاتفاق، وفرض قيود على برنامج إيران الصاروخي (الذي لم يشمله الاتفاق) والتصدي للنشاطات الإيرانية التخريبية في اليمن ولبنان وسوريا والعراق. وقال ماكرون للمشرعين الأمريكيين “هدفنا واضح. إيران لن تحصل أبدا على الأسلحة النووية، لا الآن، وليس بعد خمس سنوات، بل أبدا”. ونبّه ماكرون من مخاطر الانزلاق مرة أخرى إلى حرب جديدة في الشرق الأوسط. وفي إشارة ضمنية إلى غزو العراق، قال ماكرون “دعونا نتفادى أخطاء الماضي..”. ويأمل ماكرون، بالعمل على هذه الخطة الاستراتيجية حتى بعد انسحاب ترامب من الاتفاق، بأمل أن يتم إلحاق أي اتفاق جديد بالاتفاق القديم. المشكلة، هي أن إيران أكدت وفي أكثر من مناسبة أنها غير معنية بتعديل الاتفاق أو التوصل إلى اتفاق جديد. وكل ما حصل عليه ماكرون من ترامب، الذي وصف الاتفاق بأنه “سخيف” و “جنوني” قبل أن يبدأ محادثاته مع ماكرون، هو وعد عام ومبهم بأنه يمكن أن يقبل “بصفقة جديدة” إذا كانت قوية بما فيه الكفاية إذا نجحت جهود ماكرون.
وسوف يقوم الرئيس ترامب في الثاني عشر من الشهر المقبل باتخاذ قراره حول مستقبل الاتفاق، وكان قد هدد بالانسحاب منه قبل أشهر إذا لم يتوصل الكونغرس الأمريكي والأوروبيين من إدخال التعديلات الجذرية على الاتفاق والتي يطالب بها منذ انتخابه. وانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق سوف يؤدي تلقائيا إلى إعادة فرض العقوبات الاقتصادية على إيران، والتي جمدت في 2015 عقب التوقيع على الاتفاق. وهدد ترامب إيران “بأنها ستدفع ثمنا لم تدفعه إلا دول قليلة في السابق”إذا قامت بتهديد الولايات المتحدة، وكان بذلك يرد على تصريحات للرئيس الإيراني حسن روحاني قال فيها إنه ستكون هناك “عواقب وخيمة” إذا تخلت الولايات المتحدة عن الاتفاق. وحذّر ترامب إيران من استئناف برنامجها النووي بشكل موسع كما هدد وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف في حال انسحاب واشنطن من الاتفاق، وشدد على أنه “إذا استأنفوا برنامجهم النووي فإنهم سيواجهون مشاكل أكبر من أي وقت مضى”. ولكن ترامب لم يوضح ما يعنيه بذلك.
من يردع إيران؟
خلال الأشهر الماضية سعت فرنسا وبريطانيا وألمانيا إلى اتخاذ إجراءات متشددة أكثر تجاه إيران لإرضاء ترامب، ولكن هذه الإجراءات التي لم تحظ باهتمام كاف من الاعلام الأمريكي، ولم تؤد إلى تعديل موقف ترامب. وعلى سبيل المثال وافقت الدول الأوروبية الثلاثة خلال محادثاتها مع المسؤولين الأمريكيين على فرض عقوبات على برنامج إيران الصاروخي، كما أعربوا عن استعدادهم لاتخاذ إجراءات أقوى ضد التصرفات الإيرانية التخريبية في العالم العربي، بما في ذلك إجراءات عقابية جديدة ضد الحرس الثوري الإيراني وضد حزب الله اللبناني. طبعا انتقادات الرئيس ترامب للاتفاق النووي مع إيران معظمها محق، وهي انتقادات وجهها مراقبون محايدون، حذروا من عدم شمول البرنامج الصاروخي لإيران في الاتفاق، كما طالبوا بأن تتصدى الولايات المتحدة للنفوذ التخريبي لإيران في المنطقة، حتى خلال المفاوضات معها (كما كانت تفعل الولايات المتحدة خلال مفاوضاتها حول الحد من الأسلحة النووية مع الاتحاد السوفياتي السابق، في الوقت الذي كانت تحارب نفوذ موسكو التخريبي في جميع أنحاء العالم، وأبرز مثال على ذلك الاحتلال السوفياتي لأفغانستان). ولكن الرئيس السابق باراك أوباما، وفقا لمسؤولين بارزين في إدارته، كان يرفض ذلك متذرعا بأن التصدي لإيران في المنطقة سيؤدي إلى انسحابها من المفاوضات.
وليس من الواضح ما هي المضاعفات التي ستنجم عن قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق، كما ليس من الواضح كيف سيبرر ترامب قراره، وما الذي سيطلبه، وفي أي إطار زمني لاعادة النظر في قراره. وهناك من يأمل بأن يشمل قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق، اعلانه بتجميد تطبيق العقوبات الأمريكية ضد إيران التي ستصبح تلقائيا سارية المفعول فور الانسحاب، لمدة ستة أشهر على سبيل المثال لإعطاء فرنسا وبريطانيا وألمانيا الوقت للتوصل إلى اتفاق جديد كملحق للاتفاق القديم. ولكن حتى أكثر المتفائلين بمثل هذه الصيغة يقولون إنه لا توجد أي ضمانات بأن إيران ستقبل بأي قيود متشددة ضد برنامجها النووي، أو برنامجها الصاروخي. وقطعا لن تقبل إيران بوقف نشاطاتها في العراق وسوريا ولبنان واليمن، والتي اعطتها نفوذا إقليميا لم تتمتع به أي دولة في المنطقة منذ عقود، وخاصة إذا لم تواجهها الولايات المتحدة وحلفائها بقوة إن كان في سوريا أو في اليمن. الولايات المتحدة وحلفاؤها العرب وإسرائيل والأوروبين، يشكون دوما من النشاطات التخريبية لإيران في الشرق الأوسط، ولكن شكاويهم لم تؤد إلى الإجابة على السؤال المحوري والصعب: من هي الأطراف التي ستقوم بالتصدي الفعلي لهذه النشاطات الإيرانية، وهل هي مستعدة لدفع ثمن هذا التصدي؟
ترامب المتأرجح بين الانسحاب والبقاء في سوريا
وإذا كان الحفاظ على الاتفاق النووي مع إيران في طليعة مطالب أو تمنيات ماكرون من ترامب، فإن بقاء القوات الأمريكية في شمال شرق سوريا هو المطلب الثاني. أوضح ترامب في الأسابيع الماضية وفي أكثر من مناسبة عن رغبته وعزمه على سحب القوات الأمريكية من سوريا والتي يبلغ عددها ألفي عنصر من القوات الخاصة والمستشارين والمدربين، لأنها حققت تقريبا هدفها الأساسي في هزيمة فلول تنظيم “الدولة الإسلامية” المتواجدين في جيوب صغيرة في منطقة انتشار القوات الأمريكية وحلفائها في “قوات سوريا الديمقراطية”. ولكن ترامب قبل على مضض مشورة العسكريين بإبقاء القوات في المستقبل المنظور ليس فقط للقضاء كليا على تنظيم “الدولة الإسلامية” وضمان عدم بروزه من جديد، ولكن أيضا حرمان قوات نظام الأسد والعناصر الإيرانية المسلحة والميليشيات التابعة لها مثل حزب الله وغيرها المنتشرة في تلك المنطقة للسيطرة على المعابر الحدودية مع العراق، وعلى منطقة غنية بالنفط والأراضي الزراعية الخصبة، ما يعني التسليم عمليا بالانتصار الكامل لنظام الأسد وحلفائه، في معظم الأراضي السورية باستثناء محافظة إدلب وبعض الجيوب الأخرى الصغيرة الحجم. وهناك مخاوف في الأجهزة الأمريكية من أن الانسحاب الأمريكي سيفسر على أنه تخل أمريكي عن الحلفاء المحليين، وخاصة أكراد سوريا، في الوقت الذي يواجهون فيه اجتياحا تركيا لمنطقة عفرين في سوريا ذات الأكثرية الكردية، وربما تهديد مناطق أخرى مثل منبج وغيرها.
واستخدم ماكرون بنجاح مع ترامب حجة الجسر البري، مشددا على أن التخلي عن المعابر، يعني عمليا خلق جسر بري يربط إيران عبر العراق بسوريا ولبنان ويفتح أمامها شواطيء المتوسط، بحيث لا تعود مضطرة لتزويد حزب الله بالأسلحة عبر المطارات السورية. وفي مؤتمره الصحفي المشترك مع ماكرون، كرر ترامب رغبته بسحب القوات الأمريكية، وأضاف “لقد ناقشت مع ماكرون حقيقة أننا يجب ألا نعطي إيران معبرا مفتوحا إلى المتوسط..”، إلا أنه عاد وكرر رغبته بسحب القوات الأمريكية “قريبا نسبيا”، بعد أن تترك ورائها “آثارا عميقة”. وإضافة إلى القلق الفرنسي المشروع من النفوذ الإيراني في سوريا، من الطبيعي أن يسعى الرئيس الفرنسي لبقاء القوات الأمريكية في سوريا، لأنه عزز مؤخرا الوجود العسكري الفرنسي في شمال سوريا، في تحذير ضمني لتركيا لكي لا توسع من نطاق اجتياحها للأراضي السورية.
هؤلاء الأثرياء العرب
وكعادته عند الحديث عن الوجود الأمريكي العسكري في سوريا، تطرق ترامب إلى دور الدول العربية في المساهمة عسكريا وماليا في تحمل أعباء الوجود العسكري الغربي في سوريا، كرر ترامب دعوته هذه المرة بنبرة المطالب وليس التمني، وفعل ذلك بطريقة علنية وفضة ومهينة حتى بمقاييسه المتواضعة. وخلال مؤتمره الصحفي، أشار ترامب إلى وجود دول “غنية للغاية” في المنطقة، في إشارة إلى دول الخليج، وتابع “والتي لم تكن موجودة لولا الولايات المتحدة وإلى حد أقل فرنسا..وهم قد لا يبقون على قيد الحياة لأسبوع، لأننا نحميهم. وعليهم الآن أن يتقدموا ويدفعوا نفقات ما يحدث (في سوريا) لأنني لا أعتقد أن فرنسا أو الولايات المتحدة يجب أن يتحملا هذه النفقات الهائلة”.
وكرر ترامب في هذا السياق، إحدى الأساطير التي بدأ بترويجها خلال مهرجاناته الانتخابية، وهي أن الولايات المتحدة أنفقت في الشرق الأوسط منذ هجمات أيلول الإرهابية أكثر من 7 ترليون دولار ولم تحصل في المقابل على أي شيء. وقال لماكرون إن المسؤولين الأمريكيين يقولون له دوما يجب إن نكون حذرين في إنفاق الأموال على بناء البنية التحتية، وتابع “ومع ذلك انفقنا 7 تريليون دولار في الشرق الأوسط، ولم نحصل على أي شيء بالمقابل، وحتى على أقل من أي شيء..” وتابع “الدول الموجودة هناك والتي تعرفونها، غنية للغاية، وسوف يضطرون لأن يدفعوا (هذه النفقات) وأعتقد أنني والرئيس (ماكرون) متفقون جدا حول هذا الأمر. وسوف يدفعون هذه النفقات. ولن تواصل الولايات المتحدة تحمل هذه النفقات”. وأضاف أنه يتوقع أن تشمل مساهمات دول الخليج بإرسال قوات عسكرية إلى سوريا “وعليهم أيضا أن يرسلوا قواتهم إلى الميدان، وهم لم يفعلوا ذلك حتى الآن…”. الحديث عن أنفاق 7 تريليون دولار في الشرق الأوسط مضلل ومبالغ به كثيرا. معظم التقديرات هي بين 3 و 4 تريليون وتشمل نفقات حرب أفغانستان والعمليات في باكستان، وهي دول خارج منطقة “الشرق الأوسط” المتعارف عليها جغرافيا. ويبدو أن ترامب لا يدرك أن دول الخليج نصحت إدارة الرئيس جورج بوش الإبن بعدم غزو العراق، وهو القرار الذي تسبب بحرب طويلة ومكلفة للغاية بشريا وماليا. وكان بإمكان الولايات المتحدة معاقبة تنظيم القاعدة على إرهابه ضد الأمريكيين وكذلك معاقبة نظام طالبان الذي كان يرعاه، وهي خطوات دفاع عن النفس شرعية وأخلاقية، ولكن دون التورط في غزو تحول إلى أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة.
وكانت السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة قد عرضتا توفير رواتب “قوات سوريا الديمقراطية” لسنة كاملة، ولكن ترامب رد على ذلك بمطالبة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز بأربعة مليارات دولار. ويعتقد أن أي مساهمات خليجية مالية في سوريا لن تتعدى بضعة مئات الدولارات، كما أنه من المستبعد أن لم يكن من المستحيل أن تنشر هذه الدول –وخاصة السعودية والإمارات- المنشغلتين بحرب مكلفة في اليمن- أي قوات برية إلى سوريا، وخاصة اذا نفذ ترامب وعده بسحب القوات الأمريكية بعد 6 اشهر كما يتوقع العديد من المراقبين. اللافت أن تصريحات ترامب الفظة جاءت بعد زيارة ولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان، وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني إلى واشنطن. تصريحات ترامب المهينة لدول الخليج، لا تختلف كثيرا عن تصريحاته حول حلفاء واشنطن السياسيين والعسكريين الأوروبية من أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) وحلفاء أمريكا في الشرق الاقصى مثل كوريا الجنوبية واليابان، حيث طالبهم ترامب بدفع “أموال الحماية” العسكرية التي توفرها لهم واشنطن.
كل المؤشرات تبين أن ترامب سوف ينسحب من الاتفاق النووي ولكن دون التوصل إلى صيغة عملية ومشتركة مع الأوروبيين للتصدي لرد الفعل الإيراني، كما سينسحب من سوريا، كما قال في نهاية آذار – مارس الماضي “وسوف نترك للاخرين الاهتمام بها.