أظهرت نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية، والظروف التي جرت فيها، بعض المفاجآت، وأبرزها التراجع الهام في حجم تمثيل القوى السياسية والعسكرية الموالية لإيران، ولكنها أكدت أيضًا عمق المأزق السياسي في العراق، والمتمثل بنظام يعزز الولاءات المذهبية والطائفية والاثنية على حساب المواطنة، ويتسم باستقطابات سياسية عميقة، وانقسامات اقتصادية واسعة بين طبقاته الاجتماعية، وعملية سياسية تهيمن عليها ميليشيات “الحشد الشعبي” الموالية لإيران.
المفوضية الانتخابية قالت، رسميًا، إن نسبة المشاركة وصلت إلى 41 بالمئة، ولكن ائتلافًا، من منظمات محلية وعالمية معنية بمراقبة الانتخابات، قال إن نسبة الاقبال لم تتعد 38 بالمئة، وهذا يؤكد استمرار نمطًا بدا واضحًا خلال الانتخابات الأخيرة في 2018 يعكس عمق مشاعر الاستياء في أوساط الناخبين من أداء الطبقة السياسية الحاكمة.
فوز التيار الصدري بزعامة رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، بحوالي 75 مقعدًا من أصل 329 مقعدًا أي بأكبر كتلة برلمانية، يعني أن المفاوضات والمناوشات والمساومات التي ستسبق تشكيل الحكومة الجديدة سوف تبقى، إلى حد كبير، داخل البيت الشيعي في العراق. وهذا يعني أن الصدر لن يستطيع تجاهل تحالف “دولة القانون” برئاسة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، الذي حصل على 37 مقعدًا، والذي تربطه بالصدر علاقات معقدة اتسمت بالعدائية والاشتباكات الدموية حين كان المالكي في السلطة.
أجريت الانتخابات المبكرة كوسيلة لتخطي الأزمة السياسية والاقتصادية، التي انفجرت في خريف 2019، وأدت الى أكبر انتفاضة شعبية عراقية منذ الاطاحة بنظام صدام حسين في 2003، نتج عنها مقتل أكثر من 600 عراقي وجرح الآلاف. ورأت الحكومة أن الانتخابات المبكرة قد تعيد بعض الصدقية إلى نظام فقد الكثير من شرعيته ومكانته في أعين المواطنين العراقيين، الذين يشاهدون منذ سنوات الانهيار الاقتصادي البطيء لبلدهم على الرغم من ثرواته النفطية الهامة، واستشراء الفساد في عموم مؤسسات الدولة، والازدياد المخيف في معدلات العنف الذي تستخدمه التنظيمات المسلحة التابعة لمعظم القوى الرئيسية في البلاد.
الحقيقة السياسية الأخرى، التي أكدتها الانتخابات، هي أنه على الرغم من بروز التيار الصدري، وانحسار نفوذ القوى التي تمثل “الحشد الشعبي”، فإن “الأحزاب” أو القوى السياسية الأساسية في البلاد هي التي تقاسمت النفوذ في هذه الانتخابات، وهذا ما يعنيه فوز مقتدى الصدر، ورئيس الوزراء السابق نوري المالكي، ورئيس البرلمان (السني) محمد الحلبوسي، الذي فازت كتلته بأكثر من 40 مقعدًا، وكذلك فوز رئيس الحزب الديموقراطي الكردستاني مسعود البارزاني الرئيس السابق لإقليم كردستان. ولكن القانون الانتخابي الجديد وفّر للمرة الاولى الفرصة لفوز بعض المرشحين المستقلين أو الذين يمثلون حركة “امتداد”، التي ارتبط اسمها بالانتفاضة الشعبية بحوالي 10 مقاعد، ما يعني أنه سيكون هناك صوت ولو خافت للانتفاضة الشعبية ومطالبها في البرلمان الجديد.
النكسة الانتخابية التي تعرضت لها القوى والتنظيمات الشيعية الموالية لإيران، وصعود التيار الصدري فُسِرت، عن حق، بأنها تمثل ضربة لنفوذ إيران في العراق، وتعكس رغبة شعبية في أوساط الشيعة تريد الحفاظ على استقلال وسيادة العراق، وإبعاده عن الفلك السياسي الإيراني. حتى الآن، هذا التيار لا يزال يعبر عن نفسه داخل الإطار الشيعي لأن الأحزاب السياسية في العراق لا تزال تنشط تحت خيمة الطائفة أو الفئة الاثنية وليس تحت خيمة الوطن.
إسراع القوى الشيعية الموالية لإيران، التي خاضت الانتخابات تحت لواء تحالف “الفتح”، بالتنديد بنتائج الانتخابات، وإطلاق الاتهامات غير المدعومة بالأدلة بحصول “تلاعب” و”احتيال” بنتائج الانتخابات يعني أن هذه القوى تهدد باستخدام العنف إذا لم تتقاسم معها القوى الفائزة في حكم البلاد. هذا التهديد يمكن اعتباره الخطوة الأولى في المفاوضات والمساومات، التي ستسبق عملية تشكيل الحكومة الجديدة، لأن حالة التفكك والتشرذم لا تزال السمة الأساسية في البرلمان العراقي الجديد، كما كانت في البرلمان السابق.
الحياة السياسية في العراق، مثلها مثل الحياة السياسية في لبنان تقف دائما على حافة التماس العسكري. في هذا السياق يتحول الحزب السياسي في دول مثل العراق ولبنان (وتحديدًا تنظيماته وكتله الشيعية) بسرعة كبيرة إلى ميليشيا مسلحة قادرة على النزول الى الشارع لفرض إرادتها بقوة السلاح. القوى الشيعية في العراق تتعامل مع السلطة في بغداد، وفقًا للنموذج الذي رسخه في لبنان التنظيم المسلح الذي يسمي نفسه حزب الله، والذي يتصرف وكأنه الحاكم الفعلي للبنان، والممثل الرئيسي لمصالح الجمهورية الإسلامية الإيرانية في لبنان والمنطقة، وإن بقي خارج السلطة رسميًا، ولا يتحمل التبعات القانونية والأخلاقية لسلوكه. وهذا ما تحاول أن تفعله ميليشيات “الحشد الشعبي” في العراق منذ هزيمة تنظيم “الدولة الاسلامية” (داعش)، وهذا ما تفعله حركة الحوثيين (التي يدرب عناصرها حزب الله اللبناني) في اليمن.
امتلاك تحالف “الفتح” للسلاح، وتاريخه في استخدام هذا السلاح لترهيب واخراس خصومه، يعني أن التيار الصدري لن يجازف باستبعاده عن الحكومة الجديدة. ولكن من جهة أخرى سوف يكون من الصعب على التيار الصدري، الذي يريد ابقاء مسافة متوازية بينه وبين كل من إيران والولايات المتحدة، التعايش السلمي والايجابي مع قوى ترى في نتائج الانتخابات الأخيرة أن هامشها السياسي قد انحسر كثيرًا.
مواقف مقتدى الصدر، بعد تنديد تحالف “الفتح” بنتائج الانتخابات، اتسمت بالاعتدال والحض على نبذ العنف. ولكن سلوك الصدر، المعروف بعدم تردده في تغيير مواقفه وتحالفاته السياسية في المستقبل القريب وخاصة خلال مفاوضاته مع الكتل الشيعية المتحالفة مع ايران، سوف يقرر إلى حد كبير مستقبل علاقات العراق مع كل من إيران والولايات المتحدة، الدولتين اللتين تتصارعان فوق أرضه منذ الغزو الاميركي الذي أطاح بنظام صدام حسين. في هذا السياق يمكن للولايات المتحدة وحلفائها في منطقة الخليج لعب دور إيجابي، وإن محدود، في العراق من خلال التلويح باستثمارات مالية ومادية جديدة إذا تم تشكيل حكومة تسعى إلى تحجيم سلاح الميليشيات واعتماد سياسة خارجية سيادية.
خلال الأسابيع القليلة المقبلة سوف يواجه التيار الصدري سلسلة من الأسئلة والتحديات الصعبة، أبرزها ما الذي ستفعله الحكومة الجديدة بشأن مستقبل الوجود العسكري الأميركي (غير القتالي) في العراق؟ وما هي خياراته العملية للحد من نفوذ إيران داخل العراق ولكن دون التفريط بالتعايش المضطرب مع القوى الشيعية المحلية المسلحة؟ قد تكون إدارة هذه التوازنات السياسية أكبر من قدرة مقتدى الصدر، وقد تكون حسابات ومطالب إيران وحلفائها تعجيزية أكثر مما يتوقعه الصدر وتياره، وهذا كله يعني أن مقتدى الصدر، الذي ورث مكانته الدينية ونفوذه السياسي من والده، الذي ناضل ضد نظام صدام حسين وعوقب بحكم الإعدام، سوف يجد نفسه يخوض معركة مصيرية هي الأكبر والأخطر في حياته السياسية المضطربة.