عندما اختار ملك المغرب، محمد السادس، إجراء استفتاء دستوري وانتخابات برلمانية مبكرة في عام 2011 لكبح مطالب متظاهري الربيع العربي، احتل حزب العدالة والتنمية، المرتبط بالإسلاميين، والذي كان يقوده آنذاك عبد الإله بن كيران، مركز الصدارة. فاز حزب العدالة والتنمية بـ 107 مقاعد من أصل 395 مقعدًا، وأصبح بن كيران رئيسًا للوزراء. كانت تبدو الساحة وكأنها مهيأة لبعض التغييرات الرئيسية في السياسة المغربية. كان بن كيران زعيمًا لما كان يُعتبر رسميًا حزبًا إسلاميًا معارضًا معتدلًا في النظام السياسي، وكان يبدو أن النظام الملكي الدستوري في المغرب قد سمح له أخيرًا بالدخول ليحظى بفرصة في الحكم.
ومع ذلك، كان هناك تحول مثير ومفاجئ في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في المغرب. في سبتمبر/أيلول، حصل حزب العدالة والتنمية على 13 مقعدًا فقط، ما يعد نتيجة متأخرة كثيرًا عن حزب التجمع الوطني للأحرار الذي حصل على 102 مقعد، وحزب الأصالة والمعاصرة الذي حصد 86 مقعدًا؛ وحزب الاستقلال الذي فاز بـ 81 مقعدًا. تعتبر هذه الأحزاب الفائزة مقربة من القصر الملكي، بشكل خاص، ويدعمها حلفاء الملك بشكل غير رسمي، وتغدق عليها الأموال. يُعد رئيس الوزراء المغربي الجديد، زعيم حزب التجمع الوطني للأحرار، عزيز أخنوش، واحدًا من أغنى رجال الأعمال في المغرب، وصديقًا مقربًا من الملك، ووزيرًا سابقًا للزراعة. لم يقتصر انتصار حزب التجمع الوطني للأحرار على المستوى الوطني، بل تعداه إلى المستوى الإقليمي والبلدي أيضًا. إن لهذا الانتصار الثلاثي مغزى كبيرًا. حتى إن الأمين العام الحالي لحزب العدالة والتنمية ورئيس الوزراء المغربي السابق سعد الدين العثماني لم يحتفظ بمقعده. ويشهد حزب العدالة والتنمية استقالات من معظم قياداته العليا، ويبدو أنه في حالة من الفوضى.
يعرض هذا التحول الانتخابي المغربي نظرة ثاقبة لوضع الأحزاب ذات الارتباطات الإسلامية في جميع أنحاء شمال أفريقيا -التي عانت جميعها من ضربات سياسية متنوعة في العقد الماضي– هذا إلا جانب الجدل الإقليمي الأوسع حول الوعود التي لم يتم الوفاء بها بخصوص الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي في أعقاب احتجاجات الربيع العربي 2011.
تفسير نتائج الانتخابات
النظام السياسي المغربي هو نظام ملكي دستوري، ويتم اختيار نظامه الحزبي والتحكم به من القمة – وتستفيد العديد من الأحزاب من الدعم غير الرسمي للقصر. يتمتع المغرب بتاريخ طويل في إجراء الانتخابات، وتنفيذ إصلاحات سياسية وانتخابية متزايدة، لكن الملك ما يزال يحتفظ بالقول الفصل في جميع القرارات الرئيسية. تخضع العملية الانتخابية لسيطرة وزارة الداخلية، وغالبًا ما تشوبها التجاوزات والتلاعب، خاصة فيما يتعلق بنفوذ المال. ألقى حزب العدالة والتنمية اللوم في النتائج المفاجئة للانتخابات الأخيرة على “الانتهاكات” خلال العملية الانتخابية، بما في ذلك انتهاكات لقانون الانتخابات وشراء الأصوات. كما صرحت أحزاب من الطرف الآخر من الطيف السياسي، مثل حزب التقدم والاشتراكية، بأن حزب التجمع الوطني للأحرار قد استخدم مبلغًا غير مسبوقٍ من المال في الحملة الانتخابية. جادل الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية نبيل بن عبد الله بأنه “لم يسبق أن تم استخدام هذا القدر الكبير من الأموال في حملة انتخابية”، منددًا بما سمّاه “تسونامي المال”، وبتجاوز حزب التجمع الوطني للأحرار لكل الحدود المالية.
عدا عن ذلك، يتم إنشاء البرلمان بحيث لا يستطيع أي حزب الفوز بأغلبية مطلقة، ويصبح قويًا للغاية. علاوة على ذلك، يجب على أي حزب سياسي رئيسي أن يتقيّد بالقوانين والخطوط الحمراء للسياسة المغربية – وفي المقام الأول الولاء المطلق للقصر والنظام الملكي. بعبارة أخرى، لا توجد أي أحزاب سياسية معارضة قوية أو مستقلة بشكل خاص، بما في ذلك حزب العدالة والتنمية أكبر الأحزاب المحافظة، أو الأحزاب الليبرالية الأخرى مثل حزب التقدم والاشتراكية. أما الجهات المعارضة المستقلة في المغرب فهي على طرفي نقيض مع الطيف الأيديولوجي، على سبيل المثال أحزاب المعارضة اليسارية مثل النهج الديمقراطي، والحزب الإسلامي المستقل جماعة العدل والإحسان، تقاطع بشكل روتيني الانتخابات، ويكسبون شرعيتهم من التأكيد على استقلالهم من خلال العمل خارج النظام الحزبي، الذي يهيمن عليه القصر الملكي. يتمتع النهج الديمقراطي بعدد قليل من الأتباع وقاعدة اجتماعية صغيرة ومحدودة نسبيًا. تم حظر جماعة العدل والإحسان رسميًا، ولكن تشير التقديرات إلى أن أعضاءها يعدون بمئات الآلاف، وهم معروفون بقدرتهم على التعبئة ولديهم قاعدتهم الاجتماعية العريضة (وكان ذلك جليًا في مشاركتهم في احتجاجات الربيع العربي عام 2011، وغيرها الكثير منذ ذلك الحين).
ومع ذلك، فإن نتائج الانتخابات المغربية لها مغزى كبير. فقد فاز حزب العدالة والتنمية في العديد من الانتخابات النيابية الأخيرة على الرغم من تجاوزات التصويت، التي كثيرًا ما تميز الانتخابات المغربية. فاز حزب العدالة والتنمية بـ 126 مقعدًا في انتخابات عام 2016، و13 مقعدًا فقط في سبتمبر/أيلول، حيث خسر 90٪ من مقاعده. يجادل الباحث السياسي المغربي محمد مصباح قائلاً، “هذه هي المرة الأولى، منذ احتجاجات الربيع العربي في عام 2011، التي يتم فيها إزاحة حزب إسلامي عن السلطة من خلال العملية الانتخابية”، ما يمثل تراجعًا سياسيًا حقيقيًا للحزب وقيادته. علاوة على ذلك، كان إقبال الناخبين في هذه الانتخابات مرتفعًا نسبيًا، حيث بلغ حوالي 50٪ مقارنة بـ 43٪ في عام 2016. ويعزى ذلك على الأرجح إلى أنه قد تم دمج الانتخابات الوطنية والمحلية وانتخابات الأقاليم في دورة واحدة – حيث حظيت الانتخابات المحلية بأعلى نسبة مشاركة للناخبين في تاريخ المغرب.
ينظر الخبراء إلى نموذج الانتقال في القيادة في 2016- 2017 لتفسير هذا التحول بعيدًا عن الأحزاب الإسلامية. عندما حاول رئيس الوزراء السابق بن كيران تشكيل حكومة في أعقاب فوز حزب العدالة والتنمية مرة أخرى في الانتخابات البرلمانية لعام 2016، واجه مقاومة من حلفاء القصر وأحزابه، مثل أخنوش وحزب التجمع الوطني للأحرار، والتي بدت وكأنها تعرقل، عمدًا، عملية تشكيل الحكومة كوسيلة لدفع بن كيران لترك السلطة. وقد نجح ذلك، واستُعيض عنه بعثماني وهو عضو رفيع المستوى في حزب العدالة والتنمية، وتمكن من تشكيل حكومة بشكل سريع. كان يُنظر إلى هذا على أنه تكتيك من المماطلة والتلاعب يسعى إليه القصر لإضعاف حزب العدالة والتنمية من خلال إزاحة بن كيران، الذي أصبح يتمتع بشعبية سياسية متزايدة. ويجادل مصباح قائلاً، إن مشكلة القيادة الجديدة لحزب العدالة والتنمية هي أنها “لم تستطع تحقيق توازن بين الولاء للقصر وإدارة ائتلاف حكومي والمحافظة على الآلية الحزبية”. علاوة على ذلك، اضطر الحزب، مؤخرًا، إلى الضغط من أجل تمرير تشريعات لا تحظى بالكثير من الشعبية، مثل إصلاح نظام التقاعد، الذي رفع سن التقاعد من 60 إلى 63 عامًا.
يشير هذا إلى انعكاس مهم آخر لهذه الانتخابات. الآن وقد عزز القصر سيطرته علنًا على البرلمان، وأصبح رئيس الوزراء صديقًا شخصيًا للملك، سيكون من الصعب تفادي النقد بشأن الأداء السياسي والاقتصادي في البلاد. واستنتج مصباح قائلاً، “مع خروج حزب العدالة والتنمية من المشهد، لم يعد للقصر كبش فداء إذا سارت الأمور بشكل خاطئ”. والأحزاب التي فازت في هذه الانتخابات، ولا سيما حزب التجمع الوطني للأحرار وحزب الأصالة والمعاصرة، تعد مقربة بشكل خاص من القصر، وتربطها علاقات صداقة في الأعمال التجارية، وتصف نفسها بـ “الليبرالية” و”العلمانية” المعارضة للإسلاميين، وتصف الكثير من وسائل الإعلام المحلية والدولية فوزهم بأنه انتصار لـ “الليبراليين”.
يقول برنابي لوبيز جارسيا وسعيد كيرهلاني إلى أن هيمنة حزب أخنوش – التجمع الوطني للأحرار- على المستويات الوطنية والبلدية والأقاليم “تشير إلى بنية سياسية جديدة ستحكم البلاد على مدار الدورة التشريعية القادمة، وينبغي أن ترسي الأسس “للنموذج التنموي الجديد” الذي أعلنت عنه البلاد للفترة التي ستمتد حتى عام 2035″. والأهم من ذلك، أن فوز حزب التجمع الوطني للأحرار في الانتخابات وتعيين أخنوش رئيسًا جديدًا للوزراء، يكشفان عن سيطرة النظام الملكي الصارمة على النظام السياسي في المغرب.
السياق الأوسع في شمال أفريقيا
يعد السياق السياسي في شمال أفريقيا، وبشكل خاص منذ احتجاجات الربيع العربي عام 2011، له أهمية بارزة لفهم الكثير من الخطاب المتعلق بنتائج الانتخابات المغربية، والتركيز الدولي والإقليمي على “خسارة الإسلاميين المعتدلين”. قام الرئيس التونسي قيس سعيد خلال الصيف بإقالة رئيس الوزراء، وجمّد عمل البرلمان، وتولى السيطرة الكاملة على النظام الديمقراطي حديث الولادة في البلاد. أدى تجميد عمل البرلمان إلى تهميش حزب النهضة، وهو حزب سياسي آخر مرتبط بالإسلاميين استمر في الفوز بالانتخابات في السنوات التي أعقبت احتجاجات الربيع العربي عام 2011. أعلن سعيد حينها تعيين رئيسة وزراء جديدة، نجلاء بودن رمضان، وهي أول امرأة تونسية تشغل هذا المنصب، لكن من غير الواضح تمامًا ما هي الصلاحيات التي ستمارسها بالفعل. جاء هذا القرار بعدما أعلن سعيد أنه سيحكم بموجب مرسوم رئاسي، الأمر الذي أثار احتجاجات تندد باستيلائه على السلطة.
تم استهداف الجماعات الإسلامية الرئيسية الأخرى سياسيًا في شمال أفريقيا، ولا سيما جماعة الإخوان المسلمين في مصر بعد الإطاحة بالرئيس الإخواني محمد مرسي في عام 2013، وصعود الرجل العسكري القوي عبد الفتاح السيسي. منذ ذلك الحين، وجد الجيش طرقًا مختلفة لقمع الجماعة، وتهديد قاعدتها الاجتماعية، بهدف إخماد التهديد الاجتماعي والسياسي الذي شكلته في الماضي كحركة معارضة.
المشهد من دول الخليج
بالنسبة لدول الخليج مثل السعودية والإمارات، تعد جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية، ويتم تصوير الأحزاب السياسية المرتبطة بالإسلاميين على أنها بوابة لانتشار الجماعات الإسلامية الأصولية التي تهدد بزعزعة استقرار الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. تقيم بعض دول الخليج مثل قطر والجهات الفاعلة الإقليمية الأخرى، مثل تركيا، علاقات تاريخية وعابرة للحدود مع الأحزاب المرتبطة بالإسلاميين، وتتعامل معها في كثير من الأحيان كوسيلة لزيادة نفوذها السياسي والاقتصادي في المنطقة – خاصة بعد الأداء الجيد للأحزاب الإسلامية في صندوق الاقتراع بعد انتفاضات الربيع العربي عام 2011. إن الذي أقنع العديد من قادة الخليج بأنهم يواجهون تهديدًا سياسيًا خطيرًا هو مزيجٌ من الاحتجاجات القوية في الشوارع، ونجاح الإسلاميين في صناديق الاقتراع، ومناصرة قناة الجزيرة لهذه القوى.
ينظر الكثيرون الآن إلى خسارة الإسلاميين المعتدلين في الانتخابات المغربية على أنها ناقوس الموت للإسلاميين في جميع أنحاء شمال أفريقيا – وذلك بسبب كيفية تهميشهم بمرسوم تنفيذي من قبل سعيد في تونس، وقمعهم بشكل سافر من قبل السيسي في مصر. من بعض الجوانب، تمثل الانتخابات المغربية ضربة أقوى لنفوذ وشرعية الأحزاب المرتبطة بالإسلاميين، وذلك نظرًا لأن خسارتهم جاءت من صناديق الاقتراع، وليس بالقمع السياسي والعودة إلى القبضة الاستبدادية للسلطة كما في البلدان المجاورة. وتأتي أهمية تلك الضربة أيضًا من كونها ناتجة عن حكم الإسلاميين الذين طُلب منهم التعامل مع إجراءات تفتقر للشعبية (إذا لزم الأمر في بعض الأحيان). بالنسبة لدول الخليج، مثل السعودية والإمارات، فإن هذه الأحداث هي مكسب للاستقرار والتعاون الإقليميين، حيث يبدو أن معظم المنطقة تحاول الابتعاد عن السياسات الشعبوية والأيديولوجية التي يهيمن عليها الإسلاميون باتجاه التعاون الاقتصادي والأعمال التجارية المتسمة بالبراجماتية.
وعلى الرغم من ذلك، حتى وإن تعرضت هذه الأحزاب التابعة للإسلاميين لضربات قاسية، فإن العديد من العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي أدت بالدرجة الأولى إلى احتجاجات عام 2011، قد ظلت على حالها دون تغيير، وفي كثير من الحالات، ازدادت سوءًا. بعبارة أخرى، حتى ولو تلاشى الإسلاميون تدريجيًا من المشهد، في الوقت الحالي على الأقل، فإن هذا لا يعني، بأي حال من الأحوال، أن الأحزاب الإسلامية على وشك الاختفاء (وهذا ما تشير إليه الجاذبية المتواصلة لجماعة العدل والإحسان في المغرب) والأهم من ذلك، أن الاحتجاجات سوف تتلاشى في جميع أنحاء المنطقة. فرجل الأعمال الملياردير المغربي أخنوش يجسد النظام المغربي بما فيه من فساد سياسي ومالي، ويدعمه في ذلك القصر بخطوات الاستقطاب التي قوضت خصومه. قد يسهل هذا التعامل معه في مجال الأعمال، لكنه لا يبشر بالخير بالنسبة للإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يطالب بها المغاربة والمواطنون في جميع أنحاء المنطقة.