عند احتراق الفحم، تنبعث كمية من ثاني أكسيد الكربون تكاد تبلغ ضعف الكمية الناتجة عن احتراق الأنواع الأخرى من الوقود الأحفوري على غرار الديزل أو الغاز الطبيعي. وفي عام 2015، بلغت نسبة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الناجمة عن الفحم في العالم 45 في المئة. وإنّ انعباث ثاني أكسيد الكربون من احتراق الوقود الأحفوري مرتبط ارتباطًا مباشرًا بتغيّر المناخ. وقد تبيّن في الواقع أن ثاني أكسيد الكربون هو المصدر الأكبر لانبعاثات الغازات الدفيئة بشرية المنشأ ويحتكر نسبة 77 في المئة من الانبعاثات العالمية، الأمر الذي يجعله عاملاً رئيسيًا في تغيّر المناخ.
ولكن ها هي بعض دول الخليج العربية الغنية بالهيدروكربون تلجأ إلى استخدام الفحم وقودًا لمعامل الطاقة لديها، مع العلم أن هذه الدول تملك نحو ثلث كمية النفط الخام المثبت في العالم ونحو خُمس احتياطي الغاز الطبيعي في العالم. وقد بدأ في عام 2016 العمل على بناء المحطة الأولى العاملة على الفحم في الخليج، وهي مشروع “حصيان” الذي ستبلغ قدرته 2400 ميغاواط ويجري بناؤه في سيح شعيب في دبي دعمًا لاستراتيجية دبي للطاقة النظيفة 2050. وتدرس دولة الإمارات العربية المتحدة حاليًا تطوير محطة طاقة ثانية تعمل على الفحم. وكذلك الأمر في عُمان التي سبق أن باشرت بمناقصة تنافسية لبناء أول محطة طاقة بالفحم في البلاد بقدرة تبلغ 1200 ميغاواط ومقرر إنشاؤها في المنطقة الاقتصادية الخاصة الجديدة في الدقم وذلك في إطار استراتيجيتها الجديدة لتنويع مصادر الوقود.
فلماذا قررت دول الخليج العربية التحول إلى استخدام الفحم، ولماذا الآن؟
وجدت دول الخليج نفسها – وخصوصًا مع انخفاض أسعار النفط منذ منتصف عام 2014 – أمام تحدٍّ ثلاثي في السياسات لاقتصاداتها التي تعتمد على الهيدروكربون، وهي تأمين الكمية الكافية من الطاقة لتلبية الطلب المحلي المتعاظم والحفاظ على مستوى صادراتها من الطاقة على المدى الطويل مع السعي إلى تطبيق استراتيجياتها الطموحة بالتنويع الاقتصادي.
والواقع أن دول الخليج العربية تشهد طفرةً استثنائيةً في معدلات استهلاك الطاقة، حيث سجل إجمالي الطلب على الطاقة لديها بالمعدل ارتفاعًا سنويًا بنسبة 5 في المئة تقريبًا خلال العقد الأول من الألفية الثالثة. وبين عام 2003 وعام 2013، ازداد استهلاك الكهرباء في المنطقة بمعدل 6 إلى 7 في المئة سنويًا – أي بوتيرة أسرع من أي مكان آخر في العالم. حتى أن قرابة الـ50 في المئة من إجمالي الطاقة الكهربائية المولّدة في دول الخليج مخصصة للقطاع السكني، حيث يحتكر تكييف الهواء جزءًا كبيرًا من الطلب. وبما أن قطاع الطاقة مدعوم من الحكومة بنسبة عالية، يعتبر الاستهلاك الفردي للكهرباء في دول الخليج كبيرًا أيضًا، إذ فاق في عام 2014 العشرة آلاف كيلواط في الساعة للشخص الواحد، وتخطى بذلك المتوسط العالمي (البالغ 3127 كيلواط في الساعة للفرد) لا بل تخطى أيضًا المستويات المسجلة في الدول الصناعية الكبرى أمثال المملكة المتحدة (حيث المعدل 5129 كيلواط في الساعة للفرد) وحجّم المستوى المسجل في الدول النامية الأخرى كالهند (805 كيلواط في الساعة للفرد) والصين (3927 كيلواط في الساعة للفرد). وبالنتيجة، تعاظم الطلب على الغاز في كل دول الخليج إلى الضعفين ونصف الضعف منذ عام 2000، وقد نتج ثلثا هذا النمو تقريبًا عن توليد الطاقة وحده.
والجدير بالذكر أن ارتفاع الطلب المحلي على الغاز يؤثر على إمكانية بعض الاقتصادات التي تعتمد على الهيدروكربون على الحفاظ على مستويات التصدير على المدى البعيد. وبالفعل، بات استيراد الغاز الطبيعي ظاهرةً منتشرةً في بعض دول الخليج التي كانت في السابق دول مصدّرة صافية للغاز الطبيعي. فالغاز الطبيعي المستورد يشكّل 19.2 في المئة من استهلاك الغاز في الإمارات و37.7 في المئة في الكويت و10.8 في المئة في عُمان. وفيما يتم استخدام معظم الغاز المستورد لتلبية الطلب المحلي لا سيما لتوليد الكهرباء وتحلية المياه، يتم تخصيص جزءًا منه أيضًا لمعالجة الغاز الطبيعي المُسال بهدف استيفاء التزامات التصدير طويلة الأجل والحفاظ على حصة الدول في السوق.
فضلاً عن ذلك، فإن الطلب المحلي المتزايد على الغاز يعرّض للخطر طموحات الدول بتطبيق التنويع الاقتصادي ولا سيما المبادرات المتمحورة حول التوسع الصناعي. وبسبب تراجع أسعار النفط بعد عام 2014 – من سعر مرتفع يصل إلى 100 دولار للبرميل الواحد إلى سعر تدنى حتى 40 دولارًا للبرميل الواحد – باتت مساعي التنويع الاقتصادي تتوجه أكثر فأكثر نحو تطوير الصناعات النهائية القائمة على الاستخدام المكثف للطاقة على غرار الصناعات البتروكيميائية التي تعتمد اعتمادًا تامًا على النفط والغاز لتشغيل عملياتها.
وعلى ضوء هذه المعطيات، بات من المنطقي أن تعمل دول الخليج على ترك الغاز الطبيعي متاحًا للتصدير أو التوسع الصناعي، وهذا ما يزيد من أهمية توفير الطاقة الإضافية أكثر فأكثر. ونظرًا إلى هذا التحدي الثلاثي في سياسات الطاقة، أصبحت كل دول الخليج العربية اليوم تتبنى سياسات لتنويع مصادر الوقود بما فيها تطوير الطاقة المتجددة والطاقة النووية ومؤخرًا الفحم. ولكن لماذا اختارت الفحم، وهو المرتبط ارتباطًا مباشرًا بتغيّر المناخ؟
تفضّل بعض دول الخليج الفحم على البدائل الأخرى للأسباب التالية:
- من الأفضل ترك الغاز الطبيعي متاحًا لأغراض أخرى كالتصدير أو التوسع الصناعي.
- بناء معامل الطاقة النووية مكلف ويستغرق وقتًا أطول وينطوي على مخاوف بشأن السلامة.
- لا تزال الطاقة الهوائية والشمسية المتجددة تواجه مشكلة عدم الاستمرارية، وليست متوافرةً بعد لدعم الصناعة والنمو الاقتصادي واسع النطاق بشكل كافٍ.
كما أن الفحم يحمل ميزةً تنافسيةً من حيث الكلفة مقارنةً بمصادر الطاقة الأخرى. فمتوسط تكلفة الكهرباء المسواة – وهذه أداة لقياس تنافسية مختلف تقنيات التوليد – الناتجة عن الفحم (0.05 دولار لكل كيلواط في الساعة) أدنى بكثير من متوسطها الناتج عن الخيارات البديلة كمعامل الطاقة العاملة بالغاز (وكلفتها بين 0.02 و0,05 دولار لكل كيلواط في الساعة) والطاقة الشمسية (وكلفتها بين 0,11 و0,47 دولار لكل كيلواط في الساعة) والطاقة الهوائية (بين 0,06 و0,12 دولار لكل كيلواط في الساعة) والنووية (نحو 0,15 دولار لكل كيلواط في الساعة). حتى أنها أقل كلفةً من أدنى كلفة مسجلة لإنتاج الطاقة الشمسية الكهروضوئية على نطاق واسع وقد بلغت 0,06 دولار لكل كيلواط في الساعة في دبي عام 2014. كما أن بناء المحطات العاملة بالفحم يستغرق وقتًا أقل، ما يعني إمكانية ترك الغاز أو الديزل متاحًا وسريع الاستعمال لأغراض أخرى كالتوسع الصناعي أو البيع في الأسواق العالمية.
علاوةً على ذلك، يبدو أن دول الخليج تستغل تنامي الاستثمارات الصينية الاقتصادية في المنطقة (على غرار مبادرة الحزام والطريق) لدعم اهتمامها بالفحم. فمشروع “حصيان” مثلاً هو مشروع مشترك بين “هيئة كهرباء ومياه دبي” (بنسبة 51 في المئة) والاتحاد المؤلف من شركتَي “أكوا باور” و”هاربن إلكتريك” ومؤسسة “صندوق طريق الحرير” (بنسبة 49 في المئة).
وفي هذا السياق، قال نائب مدير مشروع محطة حصيان في دبي تاي سيجيا: “بعد إنهاء العمل على محطة الطاقة النظيفة العاملة بالفحم بحلول عام 2023، ستكون هذه المحطة الأولى من نوعها في الشرق الأوسط ورمزًا لشراكة الطاقة الخضراء بين الإمارات والصين ومشروعًا مشتركًا ناجحًا ضمن إطار “مبادرة الحزام والطريق” الصينية”.
ويشار أيضًا إلى أن قرار دول الخليج العربية باللجوء إلى الفحم تزامن مع مساعي إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لدحض الأنظمة المتعلقة بالتلوث الناجم عن الفحم الصادرة في عهد أوباما. ففي وقت سابق من هذا العام، درست إدارة ترامب إمكانية تشكيل “تحالف للوقود الأحفوري النظيف والمتقدم” للدفاع عن تقنيات وصادرات الغاز الطبيعي والفحم، وفق ما جاء في وثيقة حصلت عليها وكالة الأخبار الخاصة بالبيئة والطاقة “إي أند إي نيوز” من مصدر في الإدارة. ومع أنه لم يتم الكشف عن هذه المعلومات، يُتوقع من الدول الحليفة القديمة كالإمارات العربية المتحدة أن تستفيد من القرار الأخير الذي اتخذته إدارة ترامب. والواقع أن الإمارات بدأت تنظر في استيراد الغاز من الولايات المتحدة كوسيلة لتنويع مواردها من الغاز الطبيعي المسال، خصوصًا وأن وضع العلاقات مع قطر مجهول. ولذا قد يكون الفحم أحد الواردات المقبلة.
مع ذلك، ليس مقنعًا للجميع وصف الفحم بـ “النظيف” أو “الأخضر”. ففي سلطنة عمان مثلاً، بدر عن الشباب رد فعل قوي ضد محطة الطاقة العاملة بالفحم التي تم الإعلان عنها حديثًا. وقد وصفها بعض المغرّدين على موقع تويتر بالخطوة إلى الوراء فيما العالم يمضي قدمًا نحو الطاقة النظيفة. وفي حين شاع استخدام مصطلح “النظيف” للترويج لطرح التكنولوجيا القائمة على الفحم، لم تتوفر حتى الآن أي تفاصيل حول كيفية تأمين طاقة نظيفة من الفحم. وحتى إن كان الحل يكمن في احتجاز وتخزين ثاني أكسيد الكربون (أو الاستفادة منه)، فهذه التكنولوجيا ليست متطورة بما يكفي. وبما أن مخزون الوقود الأحفوري محدود، فهذا يجعل من الصعب الاعتماد على هذه التقنيات لمعالجة المخاوف الناشئة بشأن الطاقة على المدى المتوسط إلى البعيد.
ومن غير المعروف حتى الآن ما إذا كانت دول الخليج العربية ستحذو حذو الإمارات وعُمان في تطوير محطات عاملة بالفحم. فثمة حلٌّ عملي أكثر و”نظيف” أكثر، وهو تفادي استيراد الفحم عبر تعزيز الإجراءات المتعلقة بكفاءة الطاقة ومواصلة إصلاح الدعم الحكومي الخاص بالوقود الأحفوري وبالتالي تقليل الهدر غير الضروري للموارد القيّمة كالغاز.