بعد ثلاث سنوات، وتحديدا 874 يوما، من المباحثات بين الولايات المتحدة وإسرائيل توصل الرئيس ترامب ورئيس وزراء إسرائيل إلى خطة لتقرير مستقبل الفلسطينيين الخاضعين لاحتلالها أو سيادتها، تم الكشف عليها في البيت الأبيض في الثامن والعشرين من كانون الثاني – يناير في “احتفال” غاب عنه الفلسطينيون، مذكرا بالحقبة الاستعمارية حين كان قادة الدول الأوروبية يجتمعون فيما بينهم لتقرير مصير شعوب ومجتمعات بكاملها كانت تعتبر من أملاك هذه الدول من وراء البحار.
مثل هذه المناسبات والترتيبات كانت تبرر وتفسر على أنها محاولات لتحقيق “السلام” و “الاستقرار” وخلق الظروف القادرة على “تنمية” هذه المجتمعات وتمدين شعوبها “غير الراشدة” سياسيا وقانونيا، لتصبح قادرة على ممارسة الحكم الذاتي. إحدى المفارقات العديدة التي ميزت اجتماع البيت الأبيض هي أن بطلي هذه المسرحية السريالية- العبثية السافرة يمكن وصفهما بأنهما مطلوبان من العدالة. الرئيس ترامب كان يحاكم بتهمتي إساءة استخدام صلاحياته الدستورية وعرقلة تحقيقات الكونغرس في مجلس الشيوخ الذي يقع على مرمى حجر تقريبا من البيت الأبيض، وفي الوقت ذاته كان المدعي العام الإسرائيلي يدعي رسميا ضد نتنياهو في محكمة القدس بثلاثة تهم فساد: تلقي الرشاوى والاحتيال وانتهاك الثقة العامة.
يمكن وصف الاتفاق المؤلف من 180 صفحة بأوصاف عديدة، ولكن وصفه بخطة سلام، أو اتفاق سلام، أو الادعاء بأنه يلتزم بما كان يسمى “حل الدولتين” أو القول بأنه يمكن أن يؤدي إلى دولة فلسطينية عاصمتها القدس، سوف يكون تضليلا ممجوجا، وأكاذيب لا أساس لها من الصحة. هذا النص الذي وضعه صهر الرئيس الأمريكي ومستشاره جاريد كوشنر ومساعداه، فضلا عن دافيد فريدمان الرئيس السابق لمنظمة ترامب وسفير واشنطن في إسرائيل، وجايسون غرينبلات الذي عمل في السابق محاميا لترامب، ليس وثيقة دعم أمريكية لإسرائيل، كما تعودنا من الرؤساء الأمريكيين في السباق، بل مباركة رسمية وقانونية لفتوحات إسرائيل، ولضمان سيطرتها وسيادتها على معظم الأراضي الفلسطينية التي احتلتها في حرب 1967. الثلاثي الأمريكي الذي وضع الوثيقة بالتعاون مع الإسرائيليين، معروف بدعمه القوي لطروحات اليمين الإسرائيلي المتطرف وتبرعاته المالية للاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ما هو واضح لمن يلق ولو نظرة عابرة على نص الخطة وبياناتها وخريطتها يخرج بانطباع سريع وهو أنها تنقض بلغتها ونبرتها ومضمونها كامل “الإرث” الأمريكي بشأن “عملية السلام” وخاصة منذ مؤتمر مدريد وما كانت تدعو له مختلف الحكومات الأمريكية من جمهورية وديمقراطية: حل الدولتين (دولة فلسطينية ضمن حدود الأراضي التي احتلتها إسرائيل في 1967 مع تعديلات طفيفة ومتفق عليها للحدود)، وعاصمة في القدس الشرقية، وحل لمشكلة المستوطنات واللاجئين، واعتراف متبادل واتفاقية سلام وتعايش سلمي بين إسرائيل ودولة فلسطين.
قراءة نص الاتفاق لن تبين ما هو الأسوء فيه، هل اللغة المهينة للفلسطينيين؟ أم المضمون الذي ينتهك بشكل سافر حقوقهم التاريخية والسياسية والقانونية، ويحولهم إلى سكان محليين يفترض بهم أن يتخلوا عن تاريخهم الرفضي والسلبي الذي كان يفوت الفرصة تلو الأخرى التي كانت توفرها لهم إسرائيل للسلام، وأن يقبلوا بالعيش الخانع في عالم صغير تسيطر عليه إسرائيل بأشكال مختلفة مباشرة وغير مباشرة، عالم لا يمارسون فيه أي سيادة أو سيطرة على أي حدود برية وبحرية، حتى في “دولتهم” المتشرذمة المعروضة عليهم من الولايات المتحدة وإسرائيل بعد استيفائهم لشروط عديدة، سوف تقرر إسرائيل في المستقبل ما إذا كانت قد استوفت بشكل نهائي. كل الشروط في الاتفاق مفروضة على الفلسطينيين، وكل ما على الفلسطينيين أن يفعلوه هو تنفيذ الإملاءات الأمريكية-الإسرائيلية. الصيغ والمفاهيم التي استخدمت في معالجة مطالب إسرائيل الأمنية أو مفهومها لتاريخها وتاريخ نزاعها مع الفلسطينيين مأخوذة من قاموس المصطلحات السياسية لإسرائيل.
من وعد الدولة المستقلة إلى البانتوستان
تمثل الخطة الاميركية-الاسرائيلية، ضربة تاريخية لطموحات الفلسطينيين باقامة دولتهم المستقلة في الضفة الغربية وغزة. وتمهد الخطة لضم إسرائيل لأكثر من ثلاثين بالمئة من الضفة الغربية بما في ذلك جميع المستوطنات التي بنيت منذ 1967 ومنطقة غور الأردن. ضم المستوطنات يعني ان الاراضي التي يمكن أن تصبح كيانا فلسطينيا أو دويلة تفتقر إلى المقومات الحقيقية للدولة سوف تتحول إلى ارخبيل من الجزر الفلسطينية التي تحيط بها أراض خاضعة لسيطرة وسيادة إسرائيل. الادعاءات أن الدولة الفلسطينية المشروطة مترابطة جغرافيا غير صحيحة، لأن الفلسطينيين في هذه الجزر المنعزلة عن بعضها البعض سوف يتنقلون من منطقة إلى أخرى عبر أنفاق وجسور تربط هذه الجزر. وحتى ولو بنيت هذه الجسور والانفاق، وهذا أمر غير مؤكد، فإن هذه المناطق لن تكون قادرة على الحياة اقتصاديا، وسوف تكون تابعة للاقتصاد الإسرائيلي. الخريطة المقترحة للكيان الفلسطيني تذكر بكيانات البانتوستان التي حاول نظام التمييز العنصري في جنوب إفريقيا (الأبارتايد) قبل الغائه، بنائها للسكان الأصليين لتفادي اعطائهم حقوقهم كمواطنين مع إعطائهم صلاحيات إدارة شؤونهم المحلية. كيانات البانتوستان كانت بمثابة جزر بشرية معزولة وتحيط بها أراضي دولة جنوب أفريقيا. الدويلة الفلسطينية المشروطة، وفقا للخرائط في الاتفاق سوف تكون محاطة بمجملها لأراض تسيطر عليها إسرائيل، أي أن أراضي الضفة الغربية سوف تكون معزولة عن الأردن. وهناك ناحية مقلقة وصارخة بشوفينيتها وعنصريتها غابت عن تغطية الاعلام الأمريكي، وهي أن الخريطة المقترحة لأرخبيل الكيان الفلسطيني في الضفة الغربية سوف تشمل منطقة “المثلث” في شمال إسرائيل الذي تسكنه أغلبية عربية من الفلسطينيين الذين لم يقتلعوا أو لم ينزحوا خلال حرب 1948 والذين يحملون الجنسية الإسرائيلية. وهذا يعني أن أسرائيل سوف تتخلى عن حوالي ربع مليون مواطن إسرائيلي من السكان الفلسطينيين، لتعزيز الهوية اليهودية لإسرائيل، “وتطهيرها” من العبء الديموغرافي العربي.
الكذبة الأخرى التي ذكرها الرئيس ترامب خلال حديثه عن “رؤيته” لحل النزاع بين الفلسطينيين وإسرائيل، بعد تأكيده أن القدس سوف تبقى عاصمة إسرائيل غير القابلة للتجزئة، هو أن الدولة الفلسطينية المشروطة سوف تقيم عاصمتها الوهمية في القدس. طبعا، نص الاتفاق لا يقول ذلك، كما أسرع بنيامين نتنياهو إلى توضيح الأمر، وهو أن مدينة القدس كما يعرفها العالم سوف تبقى تحت سيطرة وسيادة إسرائيل، ولكن بإمكان الفلسطينيين أن يقيموا عاصمتهم خارج الجدار العازل في بعض القرى المحيطة بالقدس التاريخية بما فيها قرية أبو ديس وتسمية هذه المنطقة “القدس”. اعلان عاصمة للفلسطينيين في أبو ديس هو طرح إسرائيلي قديم رفضه الفلسطينيون مرارا.
النص المتعلق باللاجئين في الخطة مهين، ولا يبالي بمركزية “حق العودة” في سردية الفلسطينيين لحقوقهم الوطنية والقانونية: “لن يكون هناك حق للعودة، أو استيعاب لأي لاجئ فلسطيني في دولة إسرائيل”. وإذا لم يكن ذلك سيئا بما فيه الكفاية، فإن الخطة تعطي إسرائيل الحق باختيار اللاجئين الفلسطينيين الذين يمكن للكيان الفلسطيني المقترح أن يستوعبهم، وتحديد عددهم، وفقا للاعتبارات الأمنية لإسرائيل.
الخطة الأمريكية-الإسرائيلية حافلة بالشروط التعجيزية التي دفعت بالعديد من المحللين للقول بأنها صيغت بهذا الشكل لكي ترفض بشكل قاطع من الفلسطينيين، الأمر الذي سيسهل على إسرائيل ضم غور الأردن والمستوطنات وفقا للخريطة الجديدة للحدود الإسرائيلية التي تتضمنها الخطة. وكان بنيامين نتنياهو قد قال فور انتهاء الاعلان عن الخطة أنه سيبدأ فورا إجراءات ضم الأراضي الفلسطينية وبسط السيادة الإسرائيلية عليها.
الفلسطينيون وحدهم
ردود الفعل الفاترة في العالم العربي وأوروبا وفي الولايات المتحدة، أظهرت بشكل صارخ مدى عزلة الفلسطينيين وانحسار الدعم لقضيتهم. الدول العربية تفادت ادانة الخطة، وتلك الصديقة لواشنطن أما قبلت بهدوء بالخطة أو أصدرت بيانات عامة ومبهمة دعت إلى تفاوض الطرفين واحترام حقوق الفلسطينيين. في الولايات المتحدة تعرضت الخطة إلى انتقادات من قبل معلقين بارزين، كما انتقدها بعض المرشحين الديمقراطيين لمنصب الرئاسة وخاصة السيناتور بيرني ساندرز الذي قال إن الخطة غير مقبولة ودعا إلى “إنهاء الاحتلال الإسرائيلي” للأراضي الفلسطينية. وكان ساندرز قد وصف بنيامين نتنياهو بالعنصري. كما رأت المرشحة إليزابيث وارن أن أي خطة سلام لا تشمل الفلسطينيين “ليست ديموقراطية بل خدعة”. وبعث السيناتور الديمقراطي كريس فان هولن رسالة موقعة من 11 من زملائه إلى الرئيس ترامب وقالوا إن الخطة منحازة لإسرائيل وتشكل ضربة لصدقية حل الدولتين، ووصفوا خطة ترامب ونتنياهو بأنها ستساهم في زيادة الانقسامات والنزاعات في المنطقة.
رد الفعل الفلسطيني الرسمي السريع والرافض للخطة، كان أمرا متوقعا. ولكن كيف سيكون وقع هذه الخطة على الأرض في الأسابيع والأشهر المقبلة فهذا أمر من السابق لأوانه الحديث عنه بأي ثقة. ما هو واضح هو أن إدارة الرئيس ترامب سوف تقف مع إسرائيل وسوف تبارك أي خطوات تصعيدية من بينها فرض السيادة الإسرائيلية على الأراضي التي “أعطاها” الرئيس ترامب إلى نتنياهو، وفقا للخرائط الملحقة بنص الخطة. اللغة النابية والمهينة للفلسطينيين التي استخدمها جاريد كوشنر ضدهم في المقابلات التلفزيونية التي أجراها فور الكشف عن الخطة لبيعها لمجتمع دولي يشكك بها، تبين إلى أي مدى انهارت مكانة القضية الفلسطينية وخاصة في إدارة الرئيس ترامب. ومن بين تصريحات كوشنر النافرة “هذه فرصة كبيرة للفلسطينيين، ولديهم سجل مثالي بتفجير كل فرصة توفرت لهم في السابق”.
من السهل القول للسلطة الفلسطينية، أن أفضل السبل لمقاومة هذه الخطة هو تكثيف العمل السياسي والديبلوماسي وابقاء الجسور قوية مع الدول الأوروبية التي يمكن أن تساعد الفلسطينيين في الأمم المتحدة، وغيرها من المحافل الدولية. ولكن الواقع المؤلم للفلسطينيين هو أنهم لوحدهم في عالم عربي ينهار حولهم في حروب ونزاعات في سوريا والعراق وليبيا واليمن، وحكومات أخرى تعاني من الاضطرابات ينخرها الفساد وتميل إلى المزيد من التسلط. الخطة الأمريكية-الإسرائيلية سوف تفرض على قيادة فلسطينية مثقلة بالفساد والعجز السياسي، خيارات صعبة إن لم نقل مستحيلة. المقاومة السياسية والدبلوماسية جيدة نظريا وصعبة التحقيق عمليا. وحتى ولو اعتمدت السلطة الفلسطينية هذا التوجه اللاعنفي، فهذا لا يعني أنها ستكون قادرة على ضبط الفلسطينيين الخاضعين للسيطرة الإسرائيلية. وبعد أن تضم إسرائيل الاراضي الفلسطينية الجديدة في الضفة الغربية إليها، سوف تتضاعف احتمالات لجوء فلسطينيين إلى العنف الاعتباطي – والعبثي بنتائجه – لإبلاغ إسرائيل أنهم لن يقبلوا بعد الآن العيش تحت سيطرتها في عالم يذلهم ويلغي حقوقهم وينفي انسانيتهم. قطعا، سوف تهرق الدماء.