تأتي الاتفاقية الإماراتية-الإسرائيلية لإقامة علاقات دبلوماسية وتطبيع العلاقات وسط تحول حقيقي في النظام السياسي الخليجي. تؤدي حالة الريبة بشأن الالتزامات الأمنية للولايات المتحدة، والمخاوف بشأن ظهور خصوم إقليمية غير عربية، مثل إيران وتركيا، إلى الضغط نحو نهجٍ أكثر واقعية في العلاقات مع الدولة التي كانت منبوذة يوماً ما. وفي الوقت نفسه، أدى صعود القومية كإطار سياسي مهيمن إلى إضعاف التضامن السياسي الإسلامي والعربي الذي ربط، يوماً ما، دول الخليج بالقضية الفلسطينية.
ومع ذلك، هذه عمليات سياسية واجتماعية معقدة، فحسابات الدول الجيوسياسية تتحول بشكل أسرع من الروابط الاجتماعية والثقافية. ولذلك يمكن رؤية الخطوط العريضة لهذا التغيير في النقاشات الشعبية حول الاتفاقية. بالطبع، تفرض هذه النقاشات نفسها بقوة من خلال التعبئة القومية التي يتم التعبير عنها في وسائل الإعلام الحكومية وغير الرسمية، وعن طريق الولاء للدولة ولقرارات قادتها المفروض فرضًا.
الإمارات تتصدر القومية والتطبيع
من الواضح أن القيادة الإماراتية ترى أن العلاقة الرسمية مع إسرائيل مفيدة، لكون الإمارات العربية المتحدة في تنافسٍ مع القوى الإقليمية الأخرى على تشكيل الأجندة السياسية والبنية الأمنية للمنطقة. أكدت الإمارات في تغطيتها الإعلامية على الطبيعة التاريخية للاتفاقية: كيف أوقفت ضم الأراضي الفلسطينية، وفتحت التعاون بين اللاعبين الرئيسيين في المنطقة. وقد أشاد مجلس الإمارات للإفتاء، ورئيسه عبد الله بن بيه، بحكمة ولي العهد الأمير محمد بن زايد آل نهيان، وأكد مجدداً أن العلاقات والمعاهدات الدولية تعد سلطات سيادية حصرية.
ومع أن التغطية الإعلامية المبكرة وتصريحات الإمارات العربية المتحدة تتجاوز الاستراتيجية الإقليمية، إلا أن “السلام الدافئ” المرتقب يغطي على ذلك السلام الذي تحقق مع خصوم إسرائيل السابقين، مصر والأردن. تحدث الدبلوماسي الإماراتي يوسف العتيبة، في مقطع كتبه على موقع واي نت (Ynet) الإخباري الإسرائيلي، عن تأشيرات متبادلة للسياح والطلبة ورجال الأعمال؛ والتعاون في مجالات الصحة والمياه والأمن الغذائي والتغير المناخي والتكنولوجيا والطاقة والتبادل الثقافي والتعليمي. كانت هناك بالفعل خطوات عملية على هذا المضمار، بما في ذلك اتفاقية بين شركة إماراتية وإسرائيلية للتعاون في أبحاث فيروس كورونا. وتم إجراء أول منتدى شبابي إماراتي إسرائيلي بشكل افتراضي، وعُرض في تقرير على تلفزيون دبي. في الواقع، يبدو أن القيادة الإماراتية مصممة على استخدام العلاقة مع الإسرائيليين للتشجيع على المزيد من التغيير الاجتماعي داخل الإمارات.
على مواقع التواصل الاجتماعي، يحظى اتفاق تطبيع العلاقات بدعم الوطنيين من أمثال حسن سجواني، الذي تبادل التغريدات مع يائير نتنياهو، وأشاد بفرصة زيارة تل أبيب والأماكن المقدسة في القدس. لكن ليس الجميع مرتاحين لهذا العناق الحماسي. فقد أعرب العالم السياسي والمحلل الإماراتي عبد الخالق عبد الله عن قلقه في تغريدة اتهم فيها البعض على وسائل التواصل الاجتماعي بأنهم “صهيونيون أكثر من الصهاينة”، بينما جادل بأن دعمهم المبالغ فيه حقيقةً يلحق الضرر: “نحن أمام حدث سياسي صعب ومعقد ولسنا في عرس”.
ومع ذلك، يبدو أن هناك حدوداً حقيقية لأي انتقادات علنية للاتفاقية. فعلى سبيل المثال، شجع سجواني الإماراتيين على الإبلاغ عن أي مواطنين أو وافدين في البلاد “يروجون لمعاداة السامية”، أو “لا يحترمون قرارات الإمارات العربية المتحدة وقيادتها” عبر تطبيق هاتفي متصل بمكتب النائب العام، يستخدم للإبلاغ عن الجرائم السيبرانية والأنشطة التي تهدد المجتمع أو مبادئه الأساسية. فاقتصرت المعارضة العلنية المنظمة للاتفاقية على المعارضين المقيمين في الخارج.
الجدل الشعبي عبر الخليج
تم تذليل العقبات أمام النهج الإماراتي تجاه إسرائيل بفضل التوجه الاجتماعي والسياسي الذي تبناه ولي العهد الإماراتي محمد بن زايد. وعلى مدى عقد من الزمان على الأقل وهو يروج للتكامل الوطني من خلال القضاء على المعارضة السياسية ورعاية هوية وطنية لا تكون رهينة للتضامن الإسلامي والعربي إلى حد ما. يتطلع هذا التوجه الوطني إلى الخارج، ويدافع عن المصالح التجارية والاستراتيجية الإماراتية من خلال المشاركة الاستباقية في المنطقة، ومن ضمن ذلك الجيش الإماراتي. في الوقت نفسه، تستثمر الإمارات بشكل كبير في المبادرات العالمية بين الأديان، إضافة إلى الحملات المحلية التي تروج لقبول الثقافات الأخرى والتسامح الديني. تم تعزيز هذه الرسالة باستمرار من خلال البرامج الحكومية ووسائل الإعلام الشعبية مثل المسلسلات التلفزيونية الرمضانية.
وفي حين أن هذا النهج الإماراتي مغاير لما هو مألوف، إلا أنه يجد أصداء في دول خليجية أخرى. ترتكز النزعة الوطنية السعودية الجديدة على إعادة تصميم مماثلة للأعراف الاجتماعية، وقمع الشبكات الإسلامية التي احتضنتها الدولة فيما مضى. وتعمل البحرين، التي تتقرب من الإمارات العربية المتحدة استراتيجياً واقتصادياً، على التأقلم مع استراتيجية مماثلة للتواصل الدبلوماسي من خلال برامج الحوار بين الأديان، بما في ذلك استضافة ورشة العمل الاقتصادية “السلام من أجل الازدهار” برعاية الولايات المتحدة في عام 2019.
ومع ذلك فلدى هذه الدول قيود أخرى لتؤخذ بالحسبان. لقد ارتبطت الدولة السعودية برسالة دينية، وتتحمل مسؤوليات تتعلق بالقدس على وجه الخصوص نظراً لقيادتها للعالم الإسلامي. ولدى البحرين تاريخ طويل من نشاط المجتمع المدني، الذي يتضمن التزاماً قويًا بالقضية الفلسطينية. يمكن للمرء أن يستشف هذه الاختلافات في الجدل الدائر حول ردود الفعل على التحرك الإماراتي نحو التطبيع.
جاء رد فعل الحكومة السعودية وصناع الرأي على الاتفاقية متأخراً. وأخيراً، أصدر وزير خارجية المملكة، فيصل بن فرحان، بياناً في 19 أغسطس/آب، أكد فيه التزام المملكة بمبادرة السلام العربية لعام 2002 التي تقودها السعودية، والتي تنص على إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس كشرط للتطبيع. ويطرح الإماراتيون حجة مفادها أن اتفاقيتهم مع إسرائيل تأتي مكملة لمبادرة السلام العربية، من خلال وقف الضم، وبالتالي الحفاظ على إمكانية حل الدولتين. والبيان السعودي لا يتعارض بشكل ملحوظ مع هذا الموقف، حيث أضاف وزير الخارجية أن المملكة تضع موضع التقدير أي جهود لتعليق التحركات الإسرائيلية أحادية الجانب في الأراضي المحتلة.
أبدى العديد من السعوديين ارتياحهم لرؤية المملكة تتمسك بمبادرة السلام العربية في عهد الملك عبد الله. وانتشر هاشتاج “#التطبيع-خيانة” في المملكة العربية السعودية كما في جميع دول الخليج الأخرى، باستثناء الإمارات العربية المتحدة، في اليومين الأولين بعد الإعلان الإماراتي-الإسرائيلي. ومع ذلك، ذهب العديد من كتاب الرأي السعوديين إلى أبعد من ذلك في قبول الاتفاقية أو حتى الإشادة بها. وصف رئيس التحرير السابق لصحيفة “الشرق الأوسط” والمدير العام لقناة “العربية” عبد الرحمن الراشد معاملة الدول العربية لإسرائيل بأنها “قصة قديمة ومملة”. ثم تابع ليتبنى موقفًا وطنياً صارماً: “لكل دولة عربية الحق نفسه [مثل الفلسطينيين] في إدارة علاقاتها الدولية، بما في ذلك علاقتها بإسرائيل. هذه مسألة سيادة تقررها كل دولة على أساس مصالحها وليس على أساس ما يريده الفلسطينيون أو العرب الآخرون”. وذهب كُتاب سعوديون آخرون إلى ما هو أبعد من ذلك في الترحيب بالاتفاقية، واعتبارها انطلاقة دبلوماسية كبيرة. فأيد بعض علماء الدين السعوديين مثل محمد بن غيث شرعية مبادرات السلام تجاه إسرائيل من خلال الاستشهاد بالوساطة بين محمد واليهود في المدينة المنورة. وعندما تم الطعن في هذا الموقف أجاب: “اتركوا هذه الأمور للأمراء والعلماء”.
كانت البحرين أول دولة خليجية ترحب بالاتفاقية، وهنأت الإماراتِ وقيادتَها في بيان على تعزيز فرص السلام والاستقرار في المنطقة. ورددت ذلك رئيسة مجلس النواب البحريني فوزية زينل، التي أشادت بتوصل الإمارات إلى اتفاقية تنهي ضم الأراضي الفلسطينية، وكذلك فعل رئيس اللجنة النيابية الداعمة للشعب الفلسطيني.
ومع ذلك، فإن العثور على معارضة منظمة للاتفاقية في البحرين لم يكن بالأمر الصعب. حيث أدان بيان مشترك صادر عن ثماني هيئات سياسية في البحرين – يسارية وقومية وإسلامية – كل أشكال التطبيع مع إسرائيل، وطالب الحكومة البحرينية صراحة برفض هذه المحاولات. وتبع ذلك بيان موقع من مجموعة أوسع من هيئات المجتمع المدني، بما في ذلك أكبر نقابة عمالية في البلاد. وحاجج البيان بشدة بأن الاستقلال الوطني يتطلب الالتزام بالمبادئ والمعتقدات الأساسية للمجتمع الوطني، مؤكداً رفضهم للتطبيع.
إن معارضة المجتمع المدني كانت أكثر وضوحاً في الكويت، وهي الدولة الخليجية ذات النظام السياسي الأكثر انفتاحاً. ففي حين امتنعت الحكومة عن إصدار أي بيان على الإطلاق، أعربت إحدى أبرز الصحف في البلاد عن المشاعر الوطنية بعنوان بارز: «لا» كبيرة للتطبيع. وفي حين أن مجلس النواب لم يتخذ أي إجراء رسمي، صدر بيان موقع من 41 من أصل 50 نائباً، يعتبرون فيه التطبيع جريمة، ويطالبون الحكومة بتأكيد معارضة الدولة ومجلس النواب والشعب. وأصدرت الجهات السياسية المنفصلة بيانات خاصة أعربت فيها عن معارضتها، وكذلك فعلت مجموعة من 30 من أبرز منظمات المجتمع المدني الكويتية. واتحدت الكتل السياسية الطلابية والاتحادات الطلابية في الكويت وخارجها لإصدار عريضة تطالب مجلس الأمة بإصدار قانون ضد التطبيع بكافة أشكاله.
تباينت ردود عُمان وقطر، وهما الدولتان اللتان أقامتا بعض العلاقات مع إسرائيل في وقت مبكر من فترة اتفاق أوسلو للسلام، حيث رحبت عُمان بالاتفاق الإماراتي-الإسرائيلي كخطوة نحو السلام الإقليمي. أما قطر، التي سمحت لمكتب تجاري إسرائيلي بالتواجد في الدوحة من 1996-2009، فقد امتنعت عن التعليق، رغم أن وسائل الإعلام القطرية انتقدت الاتفاقية. ومع ذلك، احتلت قطر جزءاً كبيراً في موضوع الحوار عبر الخليج، حيث أدان مؤيدو الاتفاق – لا سيما في الإمارات والسعودية- ما اعتبروه نفاقاً قطرياً وتركيا في انتقاد الاتفاقية في حين أنهما تقيمان علاقات فعلية مع إسرائيل. وكثيرًا ما تم التذرع بالاستخدام السياسي للقضية الفلسطينية من قبل “الدول الأيديولوجية”، إيران وتركيا، لتبرير الحاجة إلى شق طريق جديد في حل القضية الفلسطينية. بدورهم، أعرب المعلقون القطريون عن دهشتهم من قيام الإمارات بإضفاء الطابع الرسمي على علاقاتها مع إسرائيل بعد إدانة قطر بشدة لتحركها في الاتجاه نفسه.
ويُعد نهج مجموعات المقاطعة، وسحب الاستثمارات، وفرض العقوبات عبر الخليج جديرًا بالملاحظة، لمحاولتها صياغة إجماع خليجي وتحرك مشترك حول القضية الفلسطينية. وعمل منتدى عبر الإنترنت يضم ممثلين من كل الدول الخليجية على التصدي للحجة القائلة بأن التطبيع أمر حتمي، حيث قدم أمثلة ملموسة للإجراءات التي يمكن اتخاذها، والعديد منها مستمد من تاريخ الخليج ذاته. وسعى آخرون إلى تذكير الإمارات وجميع دول الخليج بدعمهم التاريخي للفلسطينيين والعمل لصالحهم.
مستقبل التطبيع في الخليج
في الوقت الذي تعزز فيه دول الخليج من اعتمادها على القومية وتنظر إلى مصالحها الوطنية الخاصة، يتضح أن وجهات نظرها من التطبيع مع إسرائيل متغيرة. إن إصرار الدول والواقع الجيوسياسي للمنطقة قادران على تحويل الرأي العام. ومع ذلك، وهذا واضح أيضاً، أن بعض مواطني الخليج مصممون، بالقدر نفسه، على التنظيم لمعارضة هذه التحركات السياسية. ومع أن تأثير ذلك على سلوك الدولة ليس حاسماً في معظم دول الخليج، إلا أنه يجب أن يؤخذ في الحسبان في الوقت الذي تجري فيه القيادات الخليجية الأخرى حساباً لتكاليف وفوائد اتباع الإمارات العربية المتحدة في تعزيز العلاقات مع إسرائيل.