ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
منذ ظهوره في أواخر ديسمبر كانون الأول 2019، أصاب وباء فيروس كورونا، والذي تم إعلانه حالة طوارئ عالمية للصحة العامة من قبل منظمة الصحة العالمية، أكثر من 80000 شخص، وقتل ما يقرب من 3000 شخص. أدى الكشف عن محاولات التستر المبكرة التي قامت بها السلطات الصينية إلى إثارة الغضب الشعبي إزاء ردة فعل الحزب الشيوعي الصيني الحاكم على الأزمة. وقد غذى هذا بدوره تكهنات المراقبين الأجانب بشأن التأثير السياسي الطويل الأجل المحتمل للوباء على قبضة الرئيس الصيني شي جين بينج على السلطة. يمكن فهم الوباء -في ظل احتمال إلحاق أضرار جسيمة بالاقتصاد (حيث تقوم الدول بفرض قيود على السفر وتعليق الرحلات الجوية إلى الصين، وتعطيل التصنيع إلى درجة كبيرة) – على أنه حدث يمكن وصفه بـ “البجعة السوداء“، وهو نوع من الأزمات أو المخاطر التي حذرت، مرارًا وتكرارًا، منها القيادة عامة الشعب خلال السنوات القليلة الماضية. في الواقع، أعلنت القيادة أن الوباء يمثل أزمة وطنية تتطلب “تكاتف كل من الحزب والجيش والجماعات العرقية الصينية معًا”.
لجأ الحزب الشيوعي إلى الدعاية كجزء من محاولته لإدارة الأزمة والتقليل من تداعياتها السلبية. وقد اقتضى ذلك السيطرة الفاعلة على الخطاب في منصات وسائل الإعلام الاجتماعية والتقليدية، بالإضافة للترويج لروايته الخاصة – “السرد الجيد لقصة الصين في مكافحة الوباء” والانتصار الحتمي للحزب الشيوعي على الوباء. لم يتم تطبيق هذا النهج المزدوج فقط على الصعيد المحلي، وإنما تم نشره أيضًا على الصعيد العالمي. كان الدافع، جزئيًا، وراء ذلك هو الرغبة في إدارة رأي الجماهير الأجنبية، بما في ذلك استجابة الدول في مواجهة الوباء، فضلًا عن إيجاد أصداء مؤثرة يمكن استغلالها في الخطاب الأجنبي الداعم لتعزيز حملة الدعاية المحلية للحزب الشيوعي. إن استنساخ وسائل الإعلام الصينية لتعليقات الزعماء الأجانب (بما في ذلك تلك التي نُسبت لملك المملكة العربية السعودية وأمير قطر عقب مكالماتهم الهاتفية مع الرئيس الصيني بهذا الخصوص)، معبرين عن “ثقتهم بقدرات الصين الحاسمة في الانتصار على الوباء”، والتأكيد على قرارهم بـ “الوقوف معًا بحزم إلى جانب الصين مهما كانت الظروف”، يدور حول هذه النقطة.
قامت دول الخليج العربية، رغم كونها من الشركاء الاستراتيجيين والاقتصاديين الرئيسيين للصين، مع تبادل تجاري بلغ حجمه الإجمالي 162 مليار دولار في عام 2018، بإتخاذ مجموعة واسعة من التدابير ردًا على الوباء. فرضت الكويت والبحرين حظرًا صارمًا على دخول المواطنين الصينيين والمقيمين وحتى السفن القادمة من الدول الموبوءة كما هو الحال في الكويت). على النقيض من ذلك، فرضت المملكة العربية السعودية قيودًا على السفر لمواطنيها وسكانها، وقامت أيضًا بإجلاء مجموعة صغيرة من الطلبة السعوديين من ووهان في مقاطعة هوبى. كما أوقفت مؤقتًا دخول الأفراد إلى مكة لأداء فريضة العمرة. أحجمت دولة الإمارات العربية المتحدة عن اعتماد قيود الدخول هذه، وقد يُعزى السبب في ذلك، جزئيًّا، للاعتبارات الاقتصادية النابعة عن وجود جالية صينية كبيرة في دبي وأبو ظبي، تقارب 250000 شخص. ومع ذلك، قامت معظم شركات الطيران الخليجية الرئيسية، بما في ذلك الخطوط الجوية السعودية والطيران العماني والخطوط الجوية القطرية وطيران الإمارات وطيران الاتحاد، بتخفيض أو بتعليق الرحلات الجوية إلى الصين. وأعرب المسؤولون الخليجيون بشكل متزايد عن قلقهم بشأن التأثير المحتمل للوباء على سوق النفط. ومما لا شك فيه، أن التباطؤ المُطرد للاقتصاد الصيني سيضعف الطلب على النفط، وسوف يضر أيضًا بقطاع السياحة الناشئ والمتطورة في منطقة الخليج، والذي يعتمد على السياح الصينيين.
في سعيه لتهدئة المخاوف المتنامية، وإقناع دول الخليج العربية بالتراجع عن هذه التدابير (وإجهاض ردود الفعل المماثلة في أماكن أخرى)، عمل الحزب الشيوعي على ترويج رسالة موحدة للجماهير الخليجية. فبدلًا من إظهار الغضب تجاه دول الخليج، سعت الرسالة الصادرة عن الدبلوماسيين الصينيين إلى تسليط الضوء على التضحيات البطولية والإدارة الفعالة، التي اضطلعت بها الحكومة الصينية في التعامل مع هذه الأزمة الصحية (على عكس التغطية التي تقوم بها وسائل الإعلام الغربية). قام تشن وي تشينج، السفير الصيني في المملكة العربية السعودية، بتنفيذ حملة دعاية فعالة نسبيًّا بهذا الصدد. فقد عمل على تقديم تحديثات متكررة حول الانخفاض اليومي لحالات الإصابة المؤكدة بفيروس كورونا في الصين (خارج مقاطعة هوبي)، وكانت الميزة الأكثر بروزًا في حملته هي الاستفادة من أخبار المساعدة الطبية، التي قدمتها الحكومة السعودية للصين، كفرصة لإظهار امتنان الشعب الصيني للمملكة بشكل متكرر. أكسبت هذه الأمور السفير تقديرًا واسع النطاق من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي السعوديين، الذين استخدموا هاشتاج باللغة الصينية (“#我们与中国伟大的人民站在一起”) مفاده “إننا نقف إلى جانب الشعب الصيني العظيم” للتعبير عن دعمهم.
لعبت المنصات الإعلامية الصينية الصادرة باللغة العربية دورًا رئيسيًا في نشر سردية الحزب الشيوعي المفضلة حول الوباء إلى الجماهير الخليجية والعربية على نطاق واسع. فعلى سبيل المثال، استفادت صحيفة People’s Daily بشكل كبير من وجود الجالية العربية في الصين. كثيراً ما تنشر المنابر الإعلامية قصصًا عن متطوعين عرب يذهبون إلى ووهان، أو عن المقيمين الذين يختارون البقاء في الصين، باعتباره ثقة في النظام الحاكم وقدرته على السيطرة على الوباء، ومن ضمن المواد التي تم استخدامها مقاطع فيديو للأطفال الذين يؤكدون، باللغة الصينية، أنهم “لن يغادروا بسبب المرض”. في مقالٍ كتبه مقيم عربي في الخامسة والعشرين من العمر، ونُشر في صحيفة People’s Daily، بدأ، في تكراراً للسردية التي يتبناها الحزب الشيوعي، بإعلانه “كم هي محظوظة الإنسانية لكون خط دفاعها الأول [ضد الوباء] هو الصين!” أشاد المؤلف بالإجراءات السريعة للحكومة المركزية (نافياً ما نُسب إلى إساءة معاملة أول من بلّغ المسؤولين المحليين عن المرض، الدكتور لي وين ليانج)، وأدان المعايير المزدوجة للغرب في نشر شائعات لا أساس لها من الصحة خلال فترة الأزمة هذه، باعتبارها تتزامن مع الحرب التجارية بقيادة الولايات المتحدة ضد الصين. والأهم من ذلك، هو أن وسائل الإعلام الصينية قد تواصلت مع أكثر من 30 من نظيراتها الخليجية والعربية (بما في ذلك عكاظ السعودية والرياض بالإضافة إلى سكاي نيوز العربية الإماراتية) للتنسيق فيما بينها في كيفية تغطية الوباء.
على الجانب الآخر من الخليج، قامت السلطات الإيرانية -شأنها شأن نظيراتها في الخليج العربي- بفرض قيود على السفر في مواجهتها لتفشي فيروس كورونا الحاد، وقامت بحملة دعائية متجانسة بهدف إظهار تضامن الدولة والجماهير مع الصين. على عدة مستويات دبلوماسية، ابتداءً من وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، وصولًا إلى سفير إيران لدى الصين، محمد كيشافارز زاده، وجّهَ الإيرانيون رسالة ثابتة وموحدة إلى الجماهير الصينية تُظهر عبارات الدعم، مثل “اصمدي أيتها الصين! اصمدي يا ووهان!” (!中国 加油! 武汉 加油). في احتفال أُضيء فيه نصب أزادي في طهران باللون الأحمر (مع حفل مماثل في دبي)، أعلن السفير الصيني في إيران تشانج هوا “يأتي دعم الحكومة والشعب الإيرانيين تجسيدًا لألفي عامٍ من الصداقة التقليدية”.
تشير الرسائل الواردة من إيران –التي هي أكثر حماسيةً من نظيراتها في دول الخليج العربية- إلى أنها تستغل الفرصة التي يتيحها الوباء لصياغة سردية دعمٍ سياسيٍ شامل للصين. في حين أن مثل هذه الروايات الرمزية تقدم لإيران -التي تخوض مواجهةً جيوسياسية متوترة مع الولايات المتحدة ونظام عقوبات يتسبب في معاناة متزايدة- فرصة لإنتاج رأس مال سياسي هي في أمس الحاجة إليه مع الصين. يمكن الاستفادة من هذا (أو مكافأته) في مرحلة لاحقة، حين يقوم الحزب الشيوعي “بتصفية الحسابات” مع المجتمع الدولي بعد انحسار الأزمة. ومن المثير للاهتمام، أن تفشي فيروس كورونا في إيران (مع إصابة كبار المسؤولين)، وانتشاره لاحقًا إلى أماكن مثل العراق والكويت ولبنان قد أعطى خصومها من الدول الخليجية الفرصة لتسليط الضوء على ما ينظرون إليه كعدم كفاءة وسوء إدارة جنائية للأزمة.
على المستوى الشعبي في وسائل الإعلام التقليدية والاجتماعية العربية، خلق الوباء سرديات مختلفة، تتراوح ما بين تلك التي تمتاز بالعنصرية، وتعزو تفشي المرض إلى عادات الأكل الصينية، إلى الاتهامات بأنه هجوم بيولوجي من قبل الولايات المتحدة لعرقلة تقدم الصين، إلى الادعاء الأكثر انتشارًا (على الرغم من المعارضة الشديدة من بعض المؤلفين المعادين للإسلام) الذي يفيد بأن الوباء هو تعبير عن العقاب الإلهي المرتبط باضطهاد الأقليات المسلمة (مع عقد مقارنات بين احتجاز ملايين الأشخاص في مقاطعة هوبى بسبب الوباء مع اعتقال مسلمين الإيجور في إقليم شينج يانج). ارتبط مفهوم التفوق الروحي للإسلام بانتشار بعض أكثر القصص الإخبارية الزائفة اللامعقولة المتداولة حتى الآن. ومن تلك القصص مناشدة الرئيس الصيني لكلا المجتمعات الإسلامية العالمية والمحلية “للدعاء للصين” و”التضرع إلى الله ليرفع الكرب عنها“، فضلًا عن الادعاءات بأن السلطات الصينية تقوم بإعادة فتح المساجد للمساعدة في هذه التعبئة الروحية، وأن “أكثر من 20 مليون صيني “اعتنقوا الإسلام بعد إدراكهم بأن فيروس كورونا لا يصيب المسلمين. كما برزت أيضا روايات ثانوية أخرى (وعلى الدرجة نفسها من الخيال)، ولكن لا علاقة لها بالصين تشمل هذه الروايات بأن قطر وراء وباء فيروس كورونا لعرقلة تنفيذ رؤية السعودية 2030، وادعاءات طائفية بأن الوباء لا يصيب الشيعة، أو أن أصول المرض روحانية في طبيعتها.
وفي حين أن الوباء يبدو أنه على وشك الانتشار في جميع أنحاء الشرق الأوسط، إضافة إلى تسريعه لعملية فك الارتباط بين الاقتصادات الكبرى، فإنه يتم تسييسه وإقحامه في السرديات التي تحركها أجندات العديد من الأطراف الفاعلة المتصارعة. إن دراسة هذه الروايات تقدم نظرة ثاقبة عن الاهتمامات الاستراتيجية والأطر الأيديولوجية لتلك الأطراف. كما أنها تعدّ توضيحًا مناسبًا حول القراءة الماوية (الكلاسيكية) للسياسة: كل شيء يكمن وراء الكفاح المتواصل، بما في ذلك على ما يبدو، تغطية الوباء في السياق الخليجي.