بعد سنوات من الضغوط العقيمة من واشنطن والعديد من البدايات الخاطئة، تأتي المصالحة الكبرى داخل مجلس التعاون الخليجي في قمته الحادية والأربعين لتشهد النهاية الفعلية للمقاطعة القطرية من قبل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر. تم التوقيع على اتفاقية المصالحة في قمة الخامس من يناير/كانون الثاني في المملكة العربية السعودية، حيث ستعيد السعودية بموجبها فتح حدودها البرية مع قطر وطرق الرحلات الجوية للخطوط الجوية القطرية، ما من شأنه أن يلطف من أهم المظاهر العملية للمقاطعة. وستتخذ كلٌ من البحرين والإمارات إجراءات مماثلة. وقد وافقت قطر من جانبها على سحب العديد من الشكاوى الرسمية والدعاوى القضائية الدولية ضد جيرانها، ومن المفترض أن تعلن عن اتخاذ خطوات إضافية لم تحدد بعد للتخفيف من المخاوف السعودية ودول الخليج الأخرى بشأن سياساتها. والتزم الطرفان بوقف “الحرب الإعلامية” بينهما، على الرغم من أنه لم يتضح بعد إلى أي مدى سيستمر ذلك.
ومع ذلك، ربما لم تتم معالجة العديد من الأسباب الكامنة وراء المواجهة بشكل كامل. وبما أن المقاطعة الأخيرة، التي بدأت في يونيو/حزيران 2017 كانت قد سبقتها مواجهة أخرى حول سياسات قطر في 2013-2014، فإن احتمال مواجهة أخرى في السنوات المقبلة لا يزال وارداً بكل وضوح.
وينتهي النزاع الآن بسبب مزيج من الضغوط من الإدارة المنتهية ولايتها للرئيس دونالد ترامب والإدارة القادمة للرئيس المنتخب جوزيف بايدن في واشنطن، وتصاعد التوترات مع إيران، وتراجع عائدات المقاطعة نفسها. انبثقت المصالحة من التفاهمات التي تمت بوساطة كويتية ودعمٍ واشنطن، وقد كانت تفاهمات ثنائية إلى حد كبير، وكادت بدلاً من ذلك تفضي إلى تقارب محدود بين السعودية وقطر. الإعلان الذي كان متوقعاً لمثل هذا الاتفاق الثنائي في أوائل ديسمبر /كانون الأول من العام المنصرم لم يرَ النور، لأنه على ما يبدو كانت هناك آمال متجددة لإقناع الإمارات بالانضمام في اللحظة الأخيرة إلى مصالحة عربية-خليجية على نطاق أوسع.
عندما اتضح أن الإمارات قد تخلت عن معارضتها لإجراءات إنهاء المقاطعة، تم نقل قمة دول مجلس التعاون الخليجي في شهر يناير إلى العلا، وهي موقع أثري مهم من التراث الثقافي والتاريخي السعودي، يعود لحقبة ما قبل الإسلام، ويتم الترويج له سياحياً كرمزٍ للهوية الوطنية أكثر منه كمرجع ديني. وتشير تلك الخطوة إلى أن الرياض كانت تتوقع الإعلان عن الاتفاقية في سياق القمة، وأرادت أن تنفرد بالتقارب وتعززه.
يتم الترحيب بالاتفاقية على أنها انطلاقة كبيرة من قبل جميع الأطراف في مجلس التعاون الخليجي. ونشر تركي آل الشيخ، أحد كبار مستشاري ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، صوراً على تويتر تروج لوحدة الخليج العربي. ورحب وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية، أنور قرقاش، بعودة الوحدة الخليجية بما يخدم مصالح الأمن والاستقرار الإقليميين. بالنسبة لقطر، تعتبر الاتفاقية انطلاقةً هائلة، حيث يجب على الدوحة في نهاية المطاف أن تقيم علاقات عمل مع جيرانها الخليجيين، ويبدو أنه تم الترحيب بها بسعادة وحتى بارتياح.
كما سيرحب الديمقراطيون والجمهوريون على حد سواء في واشنطن بهذا التطور. إدارة ترامب، التي كانت تضغط من أجل إنهاء المقاطعة منذ سنوات دون أي تقدم، جعلت هندسة مثل هذا التقارب بين حلفاء واشنطن الخليجيين من أولويات سياستها الخارجية في نهاية ولايتها. ستشير الإدارة إلى هذا التطور باعتباره إنجازاً آخر من إنجازات سياسة الرئيس المنتهية ولايته في الشرق الأوسط، خاصة أن صهر ترامب ومبعوث الشرق الأوسط جاريد كوشنير قد شارك في حفل التوقيع في السعودية.
والأهم من ذلك، أن إدارة بايدن أوضحت في جلسات مغلقة أن ليس لديها الرغبة في أن ترث هذه التعقيدات، ويبدو أن هذه واحدة من عدة محاولات من جانب الرياض لتحسين العلاقات مع بايدن قبل توليه منصبه. وتشير التقارير إلى أن القلق بشأن العلاقات مع بايدن والديمقراطيين هو الذي دفع السعودية للمضي قدماً حتى دون تعاون الإمارات في أوائل ديسمبر/كانون الأول. ولكن الرياض تمكنت بعد ذلك من تأمين تسوية أوسع بمجلس التعاون الخليجي نظراً لأن الإمارات كانت تفضل ذلك، في نهاية المطاف، على صفقة ثنائية قطرية-سعودية لا تستطيع أبو ظبي منعها.
كما أن الدافع وراء المصالحة هو التصاعد السريع في التوترات بين الولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط من جهة، وبين إيران ووكلائها، لا سيما في العراق واليمن من الجهة الأخرى. تصاعدت المخاوف من اشتباكات محتملة في الذكرى الأولى لهجوم الطائرة المسيرة التي أودت بحياة القائد العسكري الإيراني قاسم سليماني، وقائد الميليشيات العراقية أبو مهدي المهندس، وتزايد التوتر في الأيام الأخيرة من قبل إدارة ترامب، إضافة إلى مساعيها لتثبيت العقوبات وتثبيط المبادرات الدبلوماسية مع طهران من قبل إدارة بايدن. وعززت الولايات المتحدة مؤخراً قواتها البحرية وغيرها من القوات، لا سيما قدرتها على إعادة التزود بالوقود، في المياه القريبة من إيران، وذلك بعد سلسلة من الهجمات الصاروخية التي شنتها مجموعات الميليشيات التي تعمل بالوكالة لصالح إيران على أهداف أمريكية في العراق. كما قامت إيران مرة أخرى بتعطيل الأمن البحري من خلال الاستيلاء على ناقلة نفط لكوريا الجنوبية بالقرب من مضيق هرمز.
لذلك، فإن لدى السعودية ودول الخليج العربية الأخرى مصلحة في تعزيز العلاقات مع واشنطن مع تصاعد التوترات مع طهران، وبالطبع تعزيز التعاون فيما بينها في هذه العملية. ونظراً لإصرار الولايات المتحدة على الحاجة إلى إنهاء المقاطعة، فإن هذين الهدفين قابلان للتبادل عملياً. عدا عن أنه من خلال إعادة فتح المجال الجوي السعودي للخطوط الجوية القطرية، فإن الاتفاقية سوف تحرم إيران من 100 مليون دولار سنوياً، والتي كانت قطر تضطر لدفعها لطهران مقابل حقها في استخدام مجالها الجوي بدلاً من ذلك. ولن تكون الدوحة الآن مقيدة بالحاجة إلى الحفاظ على النوايا الحسنة تجاه إيران، وذلك لأن وصولها للمجال الجوي لن يعتمد على إيران بعد الآن، على الرغم من أن البلدين لا يزالان يشتركان في حقل غاز، وهو ما يوفر دخلاً كبيراً لقطر.
وأخيراً، بالنسبة للسعودية، فقد بدأت المقاطعة منذ فترة طويلة تصل إلى نقطة تضاءلت فيها العائدات. فكل المكاسب التي كانت الرياض تسعى إلى تحقيقها من خلال المقاطعة، إما تحققت بالفعل خلال العام الأول، أو لا يمكن تحقيقها على الإطلاق من خلال المقاطعة. فأي هدف كانت السعودية تحاول تحقيقه، إما أن تكون قد أنجزته أو أنه لن يتم إنجازه. فالاستمرار في المقاطعة ربما كان مسألة عدم اهتمام من قبل السعودية أكثر من كونه سياسة هادفة ومدروسة.
بالنسبة للإمارات، فهي على النقيض من ذلك، إذ إن النزاع الأيديولوجي المتأصل مع قطر (وشريكتها الكبرى تركيا) حول شرعية الجماعات الإسلامية السنية وجدواها، مثل جماعة الإخوان المسلمين، في السياسة العربية المعاصرة، ما يزال دون حل كامل. لو تُركت الأمارات وشأنها، ربما كانت ستواصل المقاطعة حتى توافق قطر على إعادة صياغة سياستها الخارجية بشكل حقيقي فيما يتعلق بالإسلاموية. ولكن مع كون السعودية على استعداد للتوصل إلى اتفاق مع قطر، قررت الإمارات على ما يبدو أنه من الأفضل أن تحافظ على موقف موحد مع السعودية بدلاً من الاستمرار في المقاطعة، والتي تقوم في الأساس على إغلاق الحدود القطرية مع السعودية والمجال الجوي السعودي. ومع ذلك، قد يكون من الواضح أن من كان يمثل الإمارات هو محمد بن راشد آل مكتوم، نائب الرئيس الإماراتي وحاكم دبي، وليس ولي عهد أبو ظبي والحاكم الفعلي لدولة المتحدة، محمد بن زايد آل نهيان، الذي قد يُنظر إليه على أنه يعبر عن تحفظات إماراتية حول مدى التقارب وآفاقه.
على الرغم من أن السعودية قد مضت قدماً بصرف النظر عن التحفظات الإماراتية، إلا أن المخاوف الإماراتية من بقاء الأسباب الكامنة وراء ذلك ووراء مواجهة الأعوام 2013- 2014 دون حلٍ فعلي تبدو مبررة. فكلتا المواجهتين قد حدثتا بسبب مظاهر السياسة الخارجية القطرية – دعمها للإسلاميين والحركات السياسية العربية الشعبوية الأخرى، وتحالفها الوثيق مع تركيا، وزيادة التعاطف مع إيران (يمكن أن يُعزى بعضها إلى آثار المقاطعة نفسها)، ودعم الجماعات والشخصيات المعارضة في دول الخليج العربية المجاورة وداخلها – التي يُنظر إليها على أنها لا تتوافق مع المصالح الوطنية الأساسية للدول الأكبر المجاورة لقطر.
لا شك أن قطر ستجري بعض التغييرات على سياساتها استجابةً لإنهاء المقاطعة، ولكن المؤكد أنها أبعد ما تكون عن تلبية المطالب الثلاثة عشر الأولية. ومن المحتمل ألا ترتقي إلى مستوى التوقعات التي تضمنتها خطة النقاط الست، والتي كانت في الأساس تكراراً لاتفاقية 2014، وصدرت بعد أسابيع قليلة من إعلان النقاط الثلاث عشرة. ليس فقط أنه لن يتم إغلاق الجزيرة، إلا أنه من غير الواضح تماماً إلى أي مدى، إن وجد، سوف تُغير من لهجتها في تحرير الأنباء. لا يوجد سبب للاعتقاد بأن الدوحة ستنأى بنفسها عن أنقرة. وسوف تولي السعودية، على وجه الخصوص، اهتماماً وثيقاً بعلاقة قطر بالشخصيات والجماعات المعارضة من السعودية ودول خليجية وعربية أخرى.
من وجهة النظر القطرية، فإن هذه السياسات تُعد تعبيراً عن استقلالها السيادي. والبقاء على ما يرام خلال المقاطعة، مع القليل من المساعدة من أصدقائها، وإجبار جيرانها الأكبر على التوصل إلى شروط تبدو مواتية تماماً من منظور قطري، كل ذلك يمكن أن يغذي شعوراً مضللاً بخلو الطرف. في المقابل، قد يؤدي ذلك إلى استمرار رفضها أخذ مصالح جيرانها الأكبر بعين الاعتبار، معتمدةً بدلاً من ذلك على شراكتها مع واشنطن وتحالفها الوثيق مع تركيا. إذا كان الأمر كذلك، فهناك احتمال قوي لتكرار التجربة بعد اتفاقية 2014، عندما اعتقدت السعودية والإمارات أن قطر تصرفت بحذر شديد لعدة أشهر، ولكن في غضون عام كان يبدو أنها تقوض مصالحهما مجدداً على مجموعة من الجبهات.
كانت تجربة عام 2014 عاملاً رئيسياً في إثارة الغضب الذي أفضى إلى المقاطعة في 2017. لكن هذا الخلاف أنتج مستويات غير مسبوقة من الاستياء، وشعوراً شخصياً جداً لدى العديد من المواطنين، وترك ندوباً عميقة من الغضب والخذلان والعزلة لا يمكن التغلب عليها بسهولة. قد ينهار هذا الاتفاق أيضاً تحت وطأة الخلافات المستمرة بين قطر وجيرانها الأكبر، وقد تندلع مواجهة خليجية عربية أخرى قبل مرور وقت طويل. غير أن ذلك لن يخدم مصلحة أي شخص، لذا فإن الاتفاقية الجديدة هي فرصة موضع ترحيب لحل هذه الخلافات بوجود قدر أقل من الضغينة والاضطرابات الاستراتيجية العامة.