اعتبارًا من 12 مايو/أيار، بدأ أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني جملة زيارات لإيران وتركيا ودولة الإمارات العربية المتحدة. ثم مضى بعدها في جولة دبلوماسية إلى الدول الأوروبية. هنالك العديد من الدوافع وراء دور قطر البارز في الدبلوماسية الأمنية العالمية، وهي تعزيز العلاقات الإقليمية، واستقرار أسواق الطاقة العالمية، وتأمين المزيد من التعاون في مجال الطاقة مع أوروبا، والمساعدة في إنقاذ الاتفاق النووي الإيراني الهزيل. وكان وفد الأمير يضم نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية محمد بن عبد الرحمن آل ثاني ورئيس الديوان الأميري سعود بن عبد الرحمن آل ثاني ووزير المالية علي بن أحمد الكواري ووزير الدولة لشؤون الطاقة سعد شريدة الكعبي ووزير التجارة والصناعة محمد بن حمد بن قاسم العبد الله آل ثاني.
قطر تسعى لإنقاذ الاتفاق النووي الإيراني
قام تميم بزيارة لطهران في 12 مايو/أيار، بعد أشهر فقط من لقائه مع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي أثناء زيارته للدوحة لحضور منتدى الدول المصدرة للغاز. وكان قادة البلدين قد وقعا خلال اجتماع فبراير/شباط أربع عشرة اتفاقية في مجالات التجارة والسياحة والشباب والرياضة والطاقة والتعليم والثقافة والإعلام والتعاون البحري. يبدو أن زيارة الأمير إلى طهران كانت تهدف إلى متابعة العديد من هذه الاتفاقات. قبل زيارة تميم الأخيرة، كانت لجنة المشاورات السياسية بين إيران وقطر قد عقدت أول اجتماع لها في طهران لبحث سبل تطوير العلاقات الثنائية. وأكد الإيرانيون خلال مباحثاتهم مع تميم أثناء زيارته على العلاقات الثنائية والإقليمية، بما في ذلك أهمية تعزيز العلاقات الاقتصادية بين البلدين ومعارضة الإجراءات الإسرائيلية في المنطقة.
جاءت زيارة أمير قطر لطهران متزامنة مع زيارة منسق الاتحاد الأوروبي للمحادثات النووية الإيرانية إنريكي مورا (Enrique Mora). ويسعى الاتحاد الأوروبي للتوسط بين الولايات المتحدة وإيران لإنقاذ اتفاق خطة العمل الشاملة المشتركة بعد أكثر من عام من المفاوضات في فيينا. وتسعى الجهات الإقليمية الفاعلة التي تتمتع بعلاقات جيدة مع كل من الولايات المتحدة وإيران، مثل قطر، لدعم جهود الوساطة التي يبذلها الاتحاد الأوروبي من خلال تسهيل الاتصال غير المباشر بين الجانبين؛ كما أن هذه الجهات، وفقًا لما تناقلته وسائل الإعلام عن مسؤولين إيرانيين، تقدم الدعم في بعض القضايا الرئيسية، مثل تبادل الأسرى وإلغاء تجميد بعض الأصول الإيرانية، الأمر الذي قد يساعد في بناء الثقة بين الجانبين ويشجع على التوصل لاتفاق نهائي.
في اليوم التالي لهذه الاجتماعات في طهران، أجرى وزير خارجية قطر اتصالاً هاتفيًا مع روبرت مالي (Robert Malley)، الممثل الخاص للولايات المتحدة للشؤون الإيرانية، وأجرى اتصالاً أخر مع وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، لبحث القضايا الإقليمية، بالإضافة إلى آخر التطورات المتعلقة بالاتفاق النووي الإيراني. كما أجرى محمد بن عبد الرحمن مكالمةً في 16 مايو/أيار مع وزير خارجية الولايات المتحدة، أنتوني بلينكن تتعلق بالمباحثات النووية.
الشراكة القطرية-التركية وسط جهود التقارب الإقليمي
بعد إيران، سافر الوفد القطري إلى تركيا، حيث التقى تميم بالرئيس رجب طيب أردوغان. وتُعد تركيا أحد أهم شركاء قطر في المنطقة، وقد تجلت المصالح المشتركة، القائمة بين البلدين منذ أكثر من عقد من الزمان، بشكل أكثر وضوحًا خلال مقاطعة قطر، التي انتهت في يناير/كانون الثاني 2021 بتوقيع اتفاقية المصالحة في قمة مجلس التعاون لدول الخليج العربية في مدينة العلا.
الروابط بين البلدين متجذرة بقوة في التعاون الدفاعي والعسكري والعلاقات الاقتصادية. وتعد اللجنة الاستراتيجية التركية-القطرية العليا الآلية الأساسية للتعاون، وقد اجتمعت سبع مرات منذ إنشائها في عام 2014. كما أنشأت تركيا في ذلك العام أيضًا قاعدة عسكرية في قطر، وتوسعت لتصبح موقعًا متقدمًا يمكن أن يستوعب ما يصل إلى خمسة آلاف جندي تركي. وازدادت الروابط القطرية التركية قوةً بعد البدء في مقاطعة قطر في يونيو/حزيران 2017. كما لعبت قطر دورًا رئيسيًا في مؤازرة الاقتصاد التركي المتعثر. على سبيل المثال، في ديسمبر/كانون الأول 2021، وأثناء زيارة أردوغان للدوحة، وافقت قطر على تمديد صفقة تبادل للعملات بقيمة 15 مليار دولار للمساعدة في استقرار الليرة، التي كانت قيمتها في تراجع، وزيادة احتياطي تركيا من العملات الأجنبية. وشدد أردوغان على أهمية العلاقة الأمنية والاقتصادية، بقوله “لا فرق لدينا بين أمن قطر واستقرارها وبين أمن واستقرار بلادنا”، وأضاف بأن قطر تدعم “الاستثمار والتوظيف والإنتاج النمو القائم على التصدير في تركيا”. وأثناء زيارة تميم الأخيرة لتركيا، أشارت وسائل إعلام تركية لوجود رغبة لدى المسؤولين الأتراك في زيادة التجارة الثنائية إلى 5 مليارات دولار وتوسيع التعاون الدفاعي.
تسير الجهود التركية للتقارب مع السعودية والإمارات على قدم وساق مع زيارات أردوغان الأخيرة إلى كلتا الدولتين الخليجيتين. ففي حين أن هذه الزيارات تفتقر للأهمية الرمزية في هذه المرحلة، إلا أنها تمثل تحولًا كبيرًا في علاقات تركيا مع بلدان مجلس التعاون الخليجي. ولكون أردوغان يواجه أزمة اقتصادية وانتخابات رئاسية مقبلة، فهو يتطلع لتأمين المزيد من الاستثمار والدعم المالي من السعودية والإمارات. وتتوافق هنا الاستراتيجيتان الإقليميتان لتركيا وقطر في كونهما تسعيان لتحسين علاقاتهما الثنائية مع السعودية والإمارات، وإن كان ذلك لأسباب مختلفة إلى حد ما.
وفي الوقت الذي تساعد فيه العلاقات القطرية-التركية كلا الطرفين على معالجة القضايا الثنائية، إلا أن العلاقة مهمة أيضًا من حيث التنسيق في عدد من قضايا الأمن الإقليمي. فقطر وتركيا تنسقان بشكل وثيق بشأن القضية الفلسطينية والقرن الأفريقي وليبيا وسوريا وأفغانستان، خاصة فيما يتعلق بإعادة فتح مطار كابول الدولي.
العلاقات القطرية-الإماراتية والتداعيات على التعاون بين بلدان مجلس التعاون الخليجي
بعد انتهاء المقاطعة القطرية في يناير/كانون الثاني 2021، تطورت العلاقات القطرية-الإماراتية ببطء شديد. فقامت السعودية ومصر بتعيين سفيريهما وأعادتا فتح سفارتيهما في الدوحة في عام 2021، وتسعيان لتوطيد العلاقات الاقتصادية والسياسية. على سبيل المثال، أنشأت السعودية وقطر مجلس أعمال مشترك لتسهيل الاستثمارات، وتعهدت قطر باستثمار 5 مليارات دولار في مصر، وفي الوقت ذاته عرضت السعودية والإمارات دعمًا ماليًا مماثلًا.
لا تزال سفارة الإمارات مغلقة، ولا يوجد سفير إماراتي في الدوحة. ولا تزال قناة الجزيرة محظورة في الإمارات، في حين سُمح لها بالبث مرة أخرى في السعودية ومصر. كما رفعت السعودية الحظر المفروض على شبكة بي إن سبورتس القطرية. وفي حين أن الرحلات الجوية قد استؤنفت بين الإمارات وقطر في أوائل عام 2021، إلا أن عدد الرحلات لم يقترب بأي حال من الأحوال من مستويات ما قبل المقاطعة. ويعكس هذا المسار البطيء في علاقات قطر مع الإمارات (وكذلك الحال مع البحرين) نهجًا ما يزال يعطي الأولوية حتى الآن لتحسين العلاقات مع الرياض والقاهرة.
إلا أن زيارة تميم لأبوظبي تشير لزيادة الاتصالات الجارية بالفعل بين البلدين. وقد تمت بالفعل خلال العام الماضي زيارات دبلوماسية رفيعة المستوى بين قطر والإمارات. حيث التقى مستشار الأمن القومي الإماراتي طحنون بن زايد آل نهيان مع تميم في أغسطس/آب 2021 في الدوحة. وقام وزير الخارجية القطري بزيارة لأبوظبي التقى فيها مع ولي العهد آنذاك محمد بن زايد آل نهيان في أكتوبر/تشرين الأول 2021. وجرى لقاء مختصر بين تميم ومحمد بن زايد في أولمبياد بكين في شهر فبراير/شباط.
الاختبار الكبير للعلاقات القطرية-الإماراتية سيكون في مدى التنسيق والتعاون بين البلدين لاستضافة 1.5 مليون سائح من المقرر وصولهم إلى الخليج أثناء استضافة قطر لبطولة كأس العالم لكرة القدم 2022. هناك الكثير من إمكانات التعاون في مجال السياحة ولوجستيات السفر ومجالات أخرى لدول الخليج، خاصة أن الكثير من هؤلاء الحضور سيكونون متلهفين لزيارة دبي التي تعد المركز السياحي الأكبر في الخليج.
التعاون القطري-الأوروبي في مجال الطاقة في ظل الأزمة الأوكرانية
يلقي تأثير الغزو الروسي لأوكرانيا على أسواق الطاقة بظلاله بشكل كبير على التطورات الإقليمية والدولية. فالدول الغربية تسعى لتقليص اعتمادها على الغاز الروسي. حيث إن دول الاتحاد الأوروبي، التي اعتمدت على روسيا في 45٪ من وارداتها من الغاز في عام 2021، تبحث بشكل جاد عن مصدر بديل للغاز. وفي حين تبحث الدول الأوروبية عن الغاز في أماكن أخرى، يبدو أن استثمار قطر الضخم في توسيع الغاز الطبيعي المسال لديها قد بدأ يؤتي ثماره.
ركز الأمير في جولته الأوروبية بشكل كبير على تطوير العلاقات الثنائية والاستثمار في البنية التحتية اللازمة للغاز الطبيعي المسال. حتى هذه اللحظة، قام الأمير بزيارة سويسرا لحضور المنتدى الاقتصادي العالمي، بالإضافة إلى سلوفينيا وإسبانيا وألمانيا. وهناك زيارات أخرى مجدولة ينوي القيام بها لفرنسا والمملكة المتحدة. ستساهم هذه الزيارات على المدى الطويل في دخول قطر إلى الأسواق الأوروبية. وقام وزير الاقتصاد الألماني، روبرت هابيك، بزيارة إلى الدوحة في مارس/آذار وبرفقته وفد من رجال الأعمال لاستكشاف إمدادات بديلة من الغاز الطبيعي المسال في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، وتجميد معظم العلاقات الاقتصادية الروسية-الألمانية، وإلغاء الموافقة على خط أنابيب نورد ستريم 2. ومع ذلك، فقد أفادت التقارير بوجود بعض التعقيدات في المباحثات بين قطر وألمانيا، ولا سيما فيما يتعلق بإنشاء عقود قصيرة الأجل مقابل عقود طويلة الأجل. كانت هذه نقطة الخلاف الرئيسية لدى قطر فيما يتعلق بتوريد الغاز الطبيعي المسال للدول الأوروبية التي تعمل وفق بيئات تنظيمية مختلفة وتفضل العقود قصيرة الأجل (في حين أن عملاء قطر في آسيا، التي تستقبل حاليًا معظم الإمدادات القطرية، يقبلون بالعقود الآجلة). وبالرغم من هذه التعقيدات، لم تتوقف المباحثات القطرية مع الدول الأوروبية بشأن إمدادات الغاز الطبيعي المسال منذ أن شنت روسيا هجومها على أوكرانيا. وتشير بعض التقارير إلى أنه بحلول عام 2024، يمكن لقطر أن تصدر الغاز الطبيعي المسال إلى عملاء أوروبيين جدد ومن ضمنهم ألمانيا. وبالإضافة إلى الغاز الطبيعي المسال ودبلوماسية الطاقة، أعلن تميم أيضًا عن وجود خطط لصندوق الثروة السيادية القطرية لاستثمار 5 مليارات دولار في الشركات الإسبانية.
مع ابتعاد الغرب عن الغاز الروسي، سوف تجني قطر أرباحًا مالية ضخمة. حتى قبل الغزو الروسي والارتفاع المفاجئ في أسعار الطاقة العالمية، أعلنت قطر في فبراير/شباط 2021 عن أحد أكبر المشاريع الاستثمارية المشتركة على الإطلاق للغاز الطبيعي المسال، وهو مشروع القطاع الشرقي من حقل الشمال، والذي تقدر قيمته بنحو 28.7 مليار دولار، ويتوقع أن يزيد إنتاج قطر من الغاز الطبيعي المسال بنسبة 40٪ سنويًا. في هذا المشروع، عرضت شركة قطر للبترول (التي تسمى الآن قطر للطاقة) عقدًا للأعمال البرية في “الهندسة والمشتريات والبناء والتشغيل” لشركة الهندسة اليابانية تشيودا آند تك نيب إف إم سي (Chiyoda and TechnipFMC) (التي لها مقرات لها في تكساس ولندن وباريس). وتعد شركات الطاقة العالمية العملاقة، مثل شركات إكسون موبيل (ExxonMobil) ورويال داتش شيل (Royal Dutch Shell) وتوتال (Total) وكونوكو فيليبس (ConocoPhillips)، من ضمن بعض الشركات التقليدية التي تستثمر في مشاريع الغاز الطبيعي المسال في قطر. في اجتماع منتدى الدول المصدرة للغاز في الدوحة، أعلن تميم أن الطاقة الإنتاجية لقطر من الغاز الطبيعي المسال سوف ترتفع من 77 مليون طن سنويًا إلى 126 مليون طن سنويًا بحلول عام 2027. وتفيد بعض التقارير بأن قطر تبحث عن المزيد من المستثمرين الدوليين لتوسيع المشروع بشكل أكبر في خضم هذا التزايد في الطلب العالمي على الغاز.
الأولويات التقليدية والمستجدة
إن علاقات قطر مع مختلف الفاعلين، بما في ذلك طالبان والولايات المتحدة وإيران وتركيا والسعودية، قد جعلت منها قناة ووسيطًا بالغ الأهمية. تكشف هذه الجولة الأميرية عن الأولويات التقليدية والمستجدة في سياسة قطر الخارجية. وفي حين تسعى قطر لتحقيق أولويات مثل توسيع الحوار والعلاقات مع إيران، وتعزيز علاقاتها مع الدول الخليجية المجاورة، وترسيخ وجودها في سوق الغاز الأوروبية، إلا أنها تحافظ في الوقت ذاته على توطيد شراكاتها طويلة الأمد مع تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وتلجأ العديد من دول الخليج العربية لاتباع هذه الاستراتيجيات بطرق مختلفة لتظهر دورها المتنامي في المشهد الأمني العالمي.