ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
عكس التعديل الوزاري المفاجئ الذي أجراه الأمير تميم بن حمد آل ثاني في 27 كانون الأول/يناير التقاء ثلاث اتجاهاتٍ يعزّزها هذا التعديل وتغيّر بدورها صناعة السياسات واتخاذ القرارات في قطر. ويدلّ تدفّق الوزراء الجدد هذا على التصفية المتواصلة للأعضاء “القدماء” كجزءٍ من تثبيت الأمير تميم لمركزه بعد تسلّمه الحكم عن والده في حزيران/يونيو 2013. ويعكس تخفيض عدد الوزراء الضغوطات المالية التي تعيشها دولة قطر ، إذ تراجعت مصاريف الحكومة بشكلٍ ملحوظ ودخلت البلاد في فترةٍ من التقشف نسبةً للنمو الثنائي الرقم الذي كانت تشهده في السنوات الماضية. ويُظهر التغيير في حقيبتَي الخارجية والدفاع مدى مركزية صناعة السياسات في هاتين الوزارتين الأساسيتين في وقتٍ يشارك فيه الجيش القطري في عملياتٍ ميدانية (في اليمن) للمرة الأولى في تاريخ قطر القصير نسبيًا كدولةٍ مستقلّة.
ومن أبرز أخبار التعديل الوزاري القطري كان تعيين الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني وزيرًا للخارجية، وهو فردٌ بعيدٌ عن الأضواء من العائلة المالكة وابن عمٍّ بعيدٍ للأمير تميم. ويبلغ الشيخ محمد بن عبد الرحمن 35 عامًا، تمامًا كالأمير تميم، وبالتالي من المساهمين في انتقال قطر إلى جيلٍ حاكمٍ أكثر شبابًا. وشغل الشيخ محمد بن عبد الرحمن في السابق مساعد الوزير لشؤون التعاون الدولي بوزارة الخارجية ونال التقدير على تولّيه عددًا من الحقائب الحساسة داخل وزارة الخارجية، ومنها علاقة قطر المتقلّبة مع مصر ما بعد العام 2013. ومن المرجح أن يستمرّ وزير الخارجية الجديد بمقاربةٍ بعيدة عن الأضواء في الشؤون الإقليمية كالتي اتسمت بها السياسة الخارجية القطرية خلال حكم الأمير تميم. ويُتوقّع أيضًا أن يستمرّ وزير الخارجية السابق خالد بن محمد العطية في المقاربة القطرية نفسها في مجلس التعاون لدول الخليج العربية كوزيرٍ الدولة لشؤون الدفاع. وكان قد سلّم الأمير تميم خالد بن محمد العطية مهمّة إصلاح العلاقة المتصدعة مع المملكة العربية السعودية في العام 2013 ، فنسّق العطية مطوّلًا مع المملكة في السياسات السورية. ومن المرجح أن يعيد الكرّة في منصبه الجديد في ما يخصّ الائتلاف الذي تترأسه السعودية في اليمن، والذي وضعت فيه اليمن قوّاتٍ ميدانية في أيلول/سبتمبر 2015.
وتكمن أهمية خبر تعيين الشيخ محمد بن عبد الرحمن وزيرًا للخارجية في أنه واحدٌ من بين أربعة أشخاصٍ من العائلة المالكة ممن يستلمون زمام الحكم في الحكزمة المؤلفة من 18 عضوًا، وهي الحكومة الأصغر بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية الستّة. ولا تزال عائلة آل ثاني تحتفظ بـ”الوزارات المستقلة”، إذ لا يزال الشيخ عبد الله بن ناصر آل ثاني يشغل منصبًا مزدوجًا كأميرٍ ووزيرٍ للدفاع في آن. وقد عادت وزارة الخارجية أيضّا إلى العائلة المالكة بعد أن كانت في يد آل عطية لمدة 30 شهرًا، ولا يزال المدير العام السابق لقناة الجزيرة الشيخ أحمد بن جاسم آل ثاني وزيرًا للاقتصاد والتجارة منذ حزيران/يونيو 2013.
وتُعتبر عائلة آل ثاني من أكثر العائلات مشاكسةً عبر التاريخ. وبحسب النشرة الصناعية “غالف ستيت نيوز” Gulf States News، انخفض عدد المناصب الوزارية لعائلة آل ثاني من 14 منصبًا في العام 1997، إلى 7 مناصب في حكومة الأمير حمد بن خليفة الأخيرة في العام 2013، ليصل إلى 4 مناصب فحسب في حكزمة ابنه الأمير تميم. ولعلّ فهم الشيخ تميم للصعوبات التي كانت تقع على كتفَي الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني نتيجة تحميله عددًا كبيرًا من مسؤوليات الحكم، هو الذي دفع الأمير تميم إلى إعفاء الشيخ حمد بن جاسم من مناصبه المتعددة التي كانت تشمل رئاسة الحكومة ووزارة الخارجية فضلًا عن كونه نائب الرئيس والرئيس النتفيذي لجهاز قطر للاستثمار. وقام الأمير تميم أيضًا بتقليص عدد “حلفاء” الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني الذين يشغلون مناصب رئيسية، خصوصًا في وزارة الخارجية التي أدارها هذا الأخير على مدى 21عامًا، بهدف وضع حدٍّ للتوترات المتصاعدة مع دول الخليج أخرى اعتبارًا منها أنّ قطر تدعم الإسلاميين في المنطقة. وفي العامين 2013 و2014، غيّر الأميم تميم قيادات أهمّ المؤسسات التابعة للدولة القطرية ليعيّن رؤساء جدد على جهاز قطر للاستثمار وقطر للبترول ومؤسسة قطر. وقد شكّلت هذه الإجراءات محاولةً مشتركة لتشكيل فريقه الخاص وتوسيع نطاق اتخاذ القرارات الذي كان يقتصر على مجموعةٍ صغيرة للغاية في طريقة والده وطريقة الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني في الحكم.
ويظهر هذا الفصل مع الماضي في تقاعُد عددٍ من الوزراء القدماء أيضًا، وتعود خدمتهم العامة في إحدى الحالات إلى عهد جَدّ الأمير تميم الأمير خليفة بن حمد آل ثاني الذي حكم البلاد من سنة 1972 حتى 1995. وعيّن الأمير تميم مكانهم جيلًا جديدًا من التكنوقراطيين سوف يخدموا البلاد في ولايةٍ تتّسم بإجراءاتٍ تقشفيةٍ تعود إلى ما قبل هبوط سعر النفط، لكن باتت اليوم أكثر إلحاحًا وتأثير. ويشكّل ذلك خطوةً مهمة للأمير تميم الذي لطالما عبّر عن ضرورة الانضباط المالي منذ أوّل كلمةٍ له كأمير. وكان هدفه الأساسي الاعتراف بأنّه لا يمكن الحفاظ على عصر النمو الاقتصادي الحرّ والإنفاق غير المحدد الذي سبق العام 2013 إلى أجلٍ غير محدّد، فتمّ اتخاذ إجراءاتٍ سريعد من أجل تحديد مناطق الإنفاق المفرط أو الهدر. وقج تحوّل ذاك السعي إلى الدقّة إلى برنامج تقشّفٍ أوسع تحت الضغط الذي يمارسه الانخفاض الهائل في سعر النفط (والغاز) منذ منتصف العام 2014. وتتنبّأ ميزانية قطر للعام 2016 بعجزٍ يصل إلى 12،8 مليار دولار أمريكي، وهو الأول من نوعه من 15 عامًا.
ومن “ضحايا” النظام المالي الصارم، مشروعان بيتروكيميائيان كبيران مشتركان تمّ التخطيط لهما بين قطر للبيترول و” رويال داتش شل Royal Dutch Shell” وشركة قطر للبيتروكيماويات (Qapco)، لكن أُلغيا في خريف 2014 تخوّفًا من تكاليفهما. وقد صرفت قطر للبيترول أيضًا حوالى ألف موظفٍ في العام 2015 وضمّت فرع الاستثمار الدولي الخاص بها المعروف شركة قطر الدولية للبيترول إلى المنظمة الرئيسية. وفي تلك الفترة، تمّ تقليص ميزانية مؤسسة قطر بنسبة 40% وواجهت كافة الجامعات الغربية (الأمريكية بشكلٍ أساسي) الموجودة في المدينة التعليمية اقتطاعاتٍ ماليةٍ ملحوظة . أمّا في قطاع الصحة، فقد تمّ تأجيل مشروعٍ لوضع نظامٍ صحي على مستوى البلاد إلى أجلٍ غير محدّد في كانون الأول/ديسمبر 2015، تزامنًا مع إعلان الدوحة صرف مئات الموظفين من مؤسسة حمد الطبية ومركز السدرة للطب والبحوث.
وفي ظل أسعار النفط تحت 30 دولار أمريكي للبرميل واستبعاد التعافي الملحوظ من هذه الأزمة في المستقبل القريب، تقلّص الحكومة القطرية نفقاتها من خلال إجراءاتٍ ترفع مردودها. وفي أقلّ من يومٍ واحدٍ، أعلنت الحكومة القطرية ارتفاعًا بنسبة 30% لأسعار النفط في منتصف شهر كانون الثاني/يناير ومن المتوقّع أن تعيد الدعم الكهربائي. وتقع الاقتطاعات والرسوم الجديدة على كاهل السكان الأجانب أكثر من المواطنين القطريين، ما يفسّر الحساسيات السياسية الناجمة عن إجراءات التقشف هذه، أقلّه في البداية. ولسخرية القدر، بات “الخلل الديموغرافي” الذي كان يشتكي منه القطريون يعطي المؤسسات مجالًا لتقليص الميزانيات بشكلٍ كبير قبل التأثير على حياة المواطنين. ويبقى التركيز الأكب اليوم على التحضيرات لبطولة كأس العالم التي تصل تكاليفها إلى 200 مليار دولار أمريكي للبنى التحتية حتى إلى العام 2022، ما قد يتطلّب إعادة تقييم هذه الـتكاليف أو تقليصها. وجاء إغلاق قناة الجزيرة الأمريكية المشؤومة والخاسرة ليؤكّد استعداد قطر للتضحية بكل شيء. ومن المحتمل أن يؤدّي الاضطراب المستمر الناجم التحضيرات لبطولة كأس العالم إلى انسحاب قطر من هذا الالتزام الذي تزداد تكلفته من شهرٍ إلى آخر.
وتتأقلم الحكومات الخليجية اليوم مع أسعار الطاقة المنخفضة. وفي حالة قطر، ما زال الأمير تميم ملتزمًا بتثبيت حكمه والابتعاد عن سياسة الماضي. ويبدو أنّ هذه الاتجاهات المترابطة سوف تسيطر على القرارات القطرية في المستقبل القريب وستدفع الحكومة إلى معالجة الأرباح المستحقة التي تراكمت خلال سنوات الرخاء. ويدلّ التعديل الأخير على أنّ الفريق الجديد فى موضعه الصحيح، إذ يكلّفه الأمير تميم اليوم بمهمّةٍ صعبةٍ وهي التأقلم مع عهدٍ مختلفٍ جدًا عن ذلك الذي لفت الأنظار الدولية والإقليمية نحو قطر في الأساس.