منذ اتفاق المصالحة الذي وقعته مع جيرانها الخليجيين في يناير/كانون الثاني، أصبح لدى قطر إدراك أنها اكتسبت قوة جديدة في المنطقة. مع رفع المقاطعة، التي كانت قد فرضتها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر في عام 2017، تهدف قطر إلى تحقيق تعاون أكبر مع جيرانها ودعم مجلس التعاون لدول الخليج العربية. ولتوسيع نفوذها الإقليمي والعالمي، تخطط قطر للظهور كلاعب إقليمي مسؤول وذي طابع دولي، وكوسيط محايد في النزاعات الإقليمية، ومركز شرق أوسطي للتمويل والرياضات العالمية والإعلام والسياحة، على غرار دولة الإمارات. تمتاز العلاقات الإقليمية والسياسات الخارجية لقطر بالاستراتيجيات الاحترازية للدولة الصغيرة والتوازن، وبناء التحالفات بين القوى الإقليمية والقوى العظمى. أقامت هذه الدولة العربية الخليجية علاقات مع دول مثل إيران وتركيا، ولا سيما إبّان مقاطعة 2017، وهي السياسة التي خيبت آمال جيرانها الخليجيين مثل السعودية والإمارات والبحرين. وفي حين تمضي قطر قدماً في هذه الاستراتيجيات، إلا أنها ستسعى أيضاً للتخفيف من بعض مشاعر الإحباط لدى جيرانها الخليجيين.
بعد ثلاثة أشهر من توقيع اتفاق المصالحة في العُلا، هناك أدلة على حدوث تغييرات واستمرارية في علاقات قطر الإقليمية وسياستها الخارجية. إجمالاً، يبدو أن الاتفاق قد ساهم بالفعل في تخفيف بعض التوترات الإقليمية، وعمل على توسيع الحوار داخل دول مجلس التعاون الخليجي. ويبدو أن روح التعاون في الاتفاق تتسرب تدريجيًا عبر نقاط الاحتكاك العرضية بين أعضاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية، مثل التوترات بين تركيا وكل من السعودية والإمارات، ولكن من المرجح أن تبقى قطر حذرة في المضي قدماً لأن نقاط الخلاف الرئيسية ما تزال قائمة بين أعضاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية.
سياق إقليمي جديد
يمثل تغيير الإدارة في الولايات المتحدة جزءاً من الدافع وراء التعاون والالتزام، المتزايد في الآونة الأخيرة، بالتخفيف من حدة النزاعات الإقليمية في الشرق الأوسط. ونظراً لعدم معالجة العديد من مصادر التوتر، يشعر بعض الخبراء بالقلق من أن الدعوات للتضامن بين أعضاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية، المنصوص عليها في اتفاق العُلا ستحجب، مؤقتاً فقط، التنافس والصراع الإقليميين الأكثر بروزاً. منذ توقيع الاتفاق، وبشكل أكثر تحديداً، منذ أداء إدارة الرئيس جوزيف بايدن اليمين الدستورية في 20 يناير/كانون الثاني، يبدو أن دول الخليج، وغيرها من الأطراف الإقليمية الفاعلة، بما في ذلك تركيا، قد فتحت الأبواب لمزيد من الحوار لإيجاد حلول لمجموعة من النزاعات الإقليمية.
قد يكون بعض من هذا التطور مجرد خطابي أكثر من كونه فعل حقيقي، ولكن هناك تحول ملحوظ في الديناميكيات الإقليمية مختلفة عن تلك في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي اتسمت سياسته الخارجية بالتركيز على المعاملات المالية والمناورات العدوانية. منذ ذلك الحين، جرى تقدم في عملية رأب الصدع بين أعضاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية، تمثل هذا التقدم في صورة اجتماعات رفيعة المستوى بين قطر والسعودية، وقطر والإمارات، وقطر ومصر. بالإضافة إلى ذلك، فقد حازت حكومة الوحدة على المصادقة في ليبيا– حيث لم يكن هذا الإنجاز سهلاً في ظل صراع، أهم ملامحه التدخلات الأجنبية والحرب بالوكالة، التي تشارك فيها تركيا وقطر والإمارات ومصر وروسيا. وقد اجتمعت تركيا واليونان لإجراء محادثات بشأن النزاعات البحرية في منطقة شرق البحر المتوسط. ويبدو أن هناك علامات أولية بشأن الالتزام بتعزيز التعاون بين تركيا ومنافسيها الاستراتيجيين مثل السعودية، والإمارات. تبذل القوى الإقليمية والعالمية مزيداً من الجهود لحل النزاع في اليمن. ويبدو أن السياق الإقليمي الراهن يركز كثيراً على حل النزاعات، ومع ذلك فإن الوقت وحده هو الذي سيقرر إلى أي مدى ستدوم روح التعاون هذه.
تعزيز الروابط مع تركيا وإيران
طوال مقاطعة قطر من قبل دول الجوار، التي دامت ما يقارب أربع سنوات، أقامت الدوحة روابط أقوى مع طهران وأنقرة، ومن المرجح أن تبقى هذه العلاقات عنصراً أساسياً في السياسة الخارجية لقطر. تهدف قطر من إقامة الروابط مع هاتين القوتين الإقليميتين، جزئياً، أن تكون بمثابة خطوة احترازية لقطر بين بعض الدول الخليجية المجاورة ومنافسيها. بل وأكثر من ذلك، فإن قطر بحاجة إلى دعم إقليمي في حالة تكرار حادثة أخرى على غرار مقاطعة 2017، وهذا احتمال وارد دائماً إذا ما نظرنا إلى تاريخ الانقسامات الخليجية.
ازداد حجم التجارة والتعاون الدفاعي مع تركيا بشكل كبير منذ المقاطعة. ولا تزال قطر مستفيدة من تواجد الولايات المتحدة في قاعدة العُديد الجوية، التي تعد أكبر قاعدة عسكرية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ومع ذلك، فقد تم الانتهاء من إنشاء قاعدة جوية تركية في قطر عام 2019، يُذكر أن هذه القاعدة يمكن أن تستوعب ما يصل إلى خمسة آلاف جندي. وفي حين تستفيد قطر من الدعم الأمني التركي، تستفيد تركيا من الدعم المالي القطري. ففي خضم المحنة المالية التي ألمّت بتركيا في عام 2018، وعدت قطر بحزمة استثمارية بقيمة 15 مليار دولار لدعم البنوك التركية وأسواقها المالية. في عام 2020، حصل جهاز قطر للاستثمار على 10٪ من الأسهم في بورصة إسطنبول، وساهم بنسبة 42٪ في أحد مراكز التسوق في إسطنبول. وتعد قطر الآن أحد أكبر المستثمرين الأجانب في تركيا. وعدا عن ذلك، فإن قيمة التجارة الثنائية بين قطر وتركيا قد ارتفعت بنسبة 85٪ من 1.3 مليار دولار في عام 2017 إلى 2.4 مليار دولار في عام 2018.
بالنسبة لقطر، تعد هذه الشراكة الثنائية بالغة الأهمية، وتتجذر أكثر في ظل المصالح الأمنية والاقتصادية المشتركة. وعلاوة على ذلك، فقد تناغمت مصالح البلدين لبعض الوقت تجاه الخصوم المشتركين، وأبرزهم السعودية والإمارات، بالإضافة إلى بعض المصالح الأيديولوجية المشتركة، المتمثلة في دعم الفاعلين والحكومات المحسوبة على الإسلاميين، بدرجات متفاوتة، منذ احتجاجات الربيع العربي عام 2011.
في حين أن المقاطعة في عام 2017 كانت تهدف، جزئياً، للتعبير عن عدم الرضا عن قطر بسبب علاقاتها مع إيران، إلا أنها بدلاً من ذلك قد دفعت الدوحة وطهران إلى مزيداً من التقارب. فقد أرسلت إيران شحنات غذائية إلى قطر بعد فرض المقاطعة، وأعادت قطر علاقاتها الرسمية مع إيران بعد فترة وجيزة من بدء المقاطعة. وكانت الدوحة قد استدعت سفيرها من إيران عام 2016، رداً على الهجمات على السفارة السعودية في طهران. وارتفعت صادرات إيران لقطر من 60 مليون دولار في السنة المالية (2016-2017) إلى 250 مليون دولار في (2017-2018). واستخدمت الخطوط الجوية القطرية المجال الجوي الإيراني لمواصلة رحلاتها. عدا عن ذلك، فإن قطر وإيران تشتركان في أكبر حقل غاز في العالم، حيث وعدت قطر بزيادة إنتاجها من الغاز الطبيعي المسال بنسبة 40٪ في عام حتى عام 2026. وعلى الرغم من مرور العلاقات الإيرانية القطرية بفترات من المد والجزر على مدى عقود، إلا أن هذه العلاقات من المرجح أن تستمر في كونها عنصراً أساسياً في سياسة قطر الخارجية المتمثلة في المحافظة على توازن بين الفاعلين الإقليميين والدوليين الرئيسيين.
الاتصالات الدبلوماسية الأخيرة
على الرغم من اهتمام قطر بالحفاظ على علاقات وثيقة مع إيران وتركيا، إلا أن هناك إشارات على تحسن العلاقات بين قطر وجيرانها الخليجيين بالإضافة لمصر. فبعد أن كشفت الولايات المتحدة في تقريرٍ استخباراتي عن مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، سارعت كلٌ من الإمارات والبحرين وقطر إلى الإعراب عن دعمهما لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان المتورط في مقتل الصحفي السعودي. في أعقاب مكالمة هاتفية في أواخر فبراير/شباط بين محمد بن سلمان وأمير قطر تميم بن حمد آل ثاني، أعلن مكتب الأمير “أن الأمير أكد مجدداً على دعم بلاده الثابت لحكومة السعودية وشعبها وكل ما من شأنه تعزيز الأمن والاستقرار والسيادة للمملكة، ويعتبر استقرارها جزءا لا يتجزأ من استقرار دولة قطر ونظام مجلس التعاون لدول الخليج العربية “.
قام وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان بزيارة للدوحة في مارس/آذار، واجتمع مع أمير قطر لبحث تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين. وبعد أسبوعين من هذا الاجتماع، أجرى تميم ومحمد بن سلمان محادثة هاتفية تطرقت إلى التغيرات المناخية وزيادة التعاون في مجال البيئة. ووفقًا للتقارير الإخبارية، فقد ناقشا مبادرتي “السعودية الخضراء” و”الشرق الأوسط الأخضر”.
كما أن الاتصالات رفيعة المستوى بين قطر ومصر آخذة في التصاعد. بعد فترة وجيزة من توقيع اتفاق العُلا، حضر وزير المالية القطري علي شريف العمادي افتتاح فندق سانت ريجيس في القاهرة، وهو مشروع تموله شركة الديار القطرية للاستثمار العقاري. وكان قد تم تأجيل الافتتاح أثناء المقاطعة، على الرغم من أن الاستثمارات القطرية الأخرى في مصر ظلت على حالها دون أن تتأثر. كان هذا الافتتاح البارز للفندق، بحضور وزير المالية القطري، بمثابة إشارة مهمة لإمكانية تعزيز العلاقات الاقتصادية بين قطر ومصر.
تم عقد أول اجتماع رسمي بين الوفدين القطري والمصري في فبراير/شباط، بالإضافة لإجراء محادثات ثنائية منفصلة بين قطر والإمارات في الكويت. وتركزت الاجتماعات حول إجراءات بناء الثقة وسبل تحسين العلاقات الثنائية. في مارس/آذار، التقى وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني مع وزير الخارجية المصري سامح شكري في القاهرة أثناء اجتماع لجامعة الدول العربية. تم الإفصاح عن القليل من التفاصيل في البيانات الرسمية والمؤتمرات الصحفية، لكن وزير الخارجية القطري قال، “ننظر إلى الموضوع بإيجابية ونسعى لأن تعود العلاقات إلى دفئها وأن تكون طيبة ومتينة”. وفي الآونة الأخيرة، اتصل أمير قطر بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ليهنئه بحلول شهر رمضان– وهو الاتصال الأول بين الزعيمين منذ توقيع اتفاق العُلا في كانون الثاني/ يناير.
نقاط الخلاف البارزة
لم يتم عقد أي اجتماعات رفيعة المستوى بين قطر والبحرين حتى الآن. تفيد التقارير أن وفداً من وزارة خارجية البحرين قام بزيارة للدوحة في فبراير/شباط حاملاً رسالة حول البدء في محادثات رسمية. وبالرغم من ذلك، يبدو أن هناك توترات مستمرة بين الدوحة والمنامة، أبرزها التغطية الإعلامية لقناة الجزيرة. وقد وصف تقرير أراب ويكلي (Arab Weekly) النهج التحريري المتعلق بتغطية قناة الجزيرة بأنه أصبح أقل انتقاداً للسعودية منذ يناير/كانون الثاني، لكن التقرير أشار أيضاً إلى أن الكثير من التغطية الأخرى لدول الخليج لم تتغير، وأن هناك حرباً إعلامية جديدة تتكشف حالياً بين قطر والبحرين.
لا يزال الخلاف حول المعارك الإعلامية الإقليمية يمثل نقطة شائكة في طريق إقامة روابط قوية بين أعضاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية . فقد انتقد وزير الإعلام البحريني علي بن محمد الرميحي مؤخراً تقريراً بثته شبكة الجزيرة الإعلامية القطرية. وقال أن “البرنامج التلفزيوني الذي بثته قناة الجزيرة القطرية يتناقض مع جميع المبادئ التي نص عليها اتفاق العُلا، والتي صرح بها وزير الخارجية القطري بنفسه بعد قمة مجلس التعاون”. ولطالما كانت الروايات الإعلامية لشبكة الجزيرة القطرية وقناة العربية السعودية وقناة سكاي نيوز العربية التي تمولها الإمارات، وعدة شبكات وطنية أخرى تابعة لدول الخليج نقطة احتكاك في العلاقات الخليجية، وهو أمرٌ من المرجح أن يستمر وبدرجات متفاوتة. وبالرغم من كل شيء، كان أحد المطالب الأولية لدول المقاطِعة هو أن تقوم قطر بإغلاق قناة الجزيرة. ومن المرجح أن تبقى هذه الحرب والمعارك الإعلامية حول تغطية الجزيرة ونفوذها بمثابة مانعة صواعق في المستقبل المنظور على الرغم من هذه الفترة من التعاون الكبير بين أعضاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية.
يدعو اتفاق العُلا إلى تكامل اقتصادي أوسع بين أعضاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وتنسيق أفضل بخصوص السياسات الأمنية والخارجية بين الدول الأعضاء. وحسب إعلان العُلا، يلتزم الموقعون بـ “استكمال التكامل الاقتصادي، والقيام بتنفيذ أنظمة دفاع وأمن مشتركة، وسياسة خارجية موحدة للدول الأعضاء”. قد تواجه الدول الأعضاء الأكثر استقلالية في التفكير مثل قطر وعُمان والكويت أوقاتاً صعبةً في مواءمة سياساتها الخارجية مع السعودية، نظراً لخلافاتها التاريخية حول قضايا رئيسية مثل طبيعة علاقاتها مع إيران. هناك مجال كبير لتحسين التكامل الاقتصادي وتنسيق أولويات السياسة الخارجية، لكن يبدو أن رؤية الاتفاق تعكس الأولويات التي تتمحور حول السعودية، والتي من المرجح أن تتسبب في مشاكل للدول الأعضاء الأخرى. على سبيل المثال، يدعو الاتفاق إلى “التنفيذ الكامل للرؤية التي طرحتها” السعودية التي استضافت قمة مجلس التعاون لدول الخليج العربية في ديسمبر/كانون الأول 2015، بما في ذلك “سياسة خارجية موحدة للدول الأعضاء”. إن التعاون المتجدد بين قطر والسعودية، على سبيل المثال، لا يشكل سبباً كافياً لدى قطر لكي تقوم بتنفيذ كافة التطلعات المرجوة من مواءمة سياستها الخارجية مع جميع أعضاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية أو تبني السياسات السعودية في مواجهة إيران وعزلها، كما أنه من غير المرجح أن تقوم قطر بتحديد علاقاتها مع تركيا. قد تبقى التوترات قائمة بين قطر والإمارات بسبب علاقات الدوحة مع جماعة الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية الفاعلة الأخرى في جميع أنحاء المنطقة، وكذلك بسبب التنافس بالوكالة في ساحات الصراع مثل ليبيا والصومال، إلى جانب المناطق الأخرى مثل القرن الأفريقي وشمال أفريقيا على نطاق أوسع. ومن المرجح أن يبقى التنافس بين الإمارات وتركيا يشكل نقطة خلاف بين الإمارات وقطر بصفتها حليفاً إقليمياً مهماً لتركيا.
عامةً، قد لا يكون لاتفاق العُلا أثر كبير في تغيير العلاقات الإقليمية لقطر وسياستها الخارجية. ومن المرجح أن تستمر الدوحة في سعيها للحفاظ على سياسة خارجية مستقلة، والمشاركة في توازن إقليمي لتأمين أولوياتها الاستراتيجية، وستسعى جاهدة في الوقت نفسه كذلك لتنفيذ الاتفاق، كوسيلة لتخفيف الخلاف مع الدول المجاورة. يبدو أن الاتفاق قد خفف من حدة التوترات، ولكنه ترك العديد من الأسئلة دون إجابة، كما ترك العديد من نقاط الخلاف بين دول الخليج دون حل.