تُعد المسلسلات التلفزيونية من العادات الرمضانية الترفيهية، ووسيلة لإثارة النقاشات العامة، نظراً للعدد الكبير من المشاهدين. لعبت المسلسلات التلفزيونية هذا العام دوراً أكثر أهمية من أي وقت مضى، بسبب الالتزام العام بإجراءات الحجر المنزلي نتيجة تفشي فيروس كورونا. تناول مسلسلان تلفزيونيان شهيران على شبكة أم بي سي السعودية، “أم هارون” و”مخرج 7″، قضايا مثيرة للجدل حول التعايش اليهودي والتطبيع الاجتماعي مع إسرائيل بشكل غير مسبوق، وحظيت بزخم إعلامي دولي كبير.
في الوقت نفسه، أثارت هذه الدراما التلفزيونية جدلاً داخليًا في دول الخليج حول سردهم التاريخي لليهود في منطقة الخليج، ودخلت في نقاشات صريحة عن العلاقات مع إسرائيل. يشكك الكثيرون في الخليج في الدوافع الاجتماعية والسياسية خلف المسلسلين، حيث يتزامن ذلك مع مؤشرات بناء العلاقات مع إسرائيل من قبل بعض الحكومات الخليجية.
الرأي العام حول التطبيع السياسي والاجتماعي تحت الاختبار
تراوحت الآراء من بلد إلى آخر، وهو ما يمكن تفسيره بالسرد الذي تحاول وسائل الإعلام أو الحكومات الترويج له. كانت الدول ذات الإرث العروبي والإسلامي القديم، أكثر تشككاً في هذه المسلسلات.
من ناحية أخرى، كانت المسلسلات أكثر تقبلاً في البلدان التي تبحث عن علاقات تعاون أكثر مع إسرائيل، وتروج لـ “التسامح الديني”، مثل البحرين والإمارات العربية المتحدة. جدير بالذكر، كانت البحرين أحد رعاة مسلسل “أم هارون”، من خلال مركز الملك حمد العالمي للتعايش السلمي. بالمقابل، انتقدت “الجزيرة” وغيرها من وسائل الإعلام القطرية هذه الأعمال التلفزيونية بشدة، واصفة إياها بـ “الدراما بنكهة التطبيع”، والتي أثرت على الرأي العام القطري.
يمكننا القول بأن هذا الجدل أظهر لنا معسكرين مهمين في المجتمعات الخليجية: النقاد الذين يؤمنون بأن المسلسل يهدف إلى التطبيع الاجتماعي، وقبول فكرة إسرائيل كدولة جارة، وأولئك الذين لا يرون دوافع التطبيع في المسلسلات. ومع ذلك، هناك الكثير من الفروق الدقيقة في الجدل الداخلي بين مواطني الخليج حول هذه البرامج، والتي تكشف الكثير عن شعور المجتمعات الخليجية تجاه كسر هذه “المحرمات” في مواضيع مثيرة للجدل كهذه.
هل المناقشة تعتبر تمهيداً للتطبيع السياسي؟
تطرق العملان التلفزيونيان للمواضيع الجدلية المتعلقة بالتطبيع في مستويات مختلفة من النقاش. تناول مسلسل “أم هارون” قضية التسامح الديني والتعايش، بينما تناولت الحلقة الثالثة من “مخرج 7” بشكل مباشر قضية الانفتاح الاجتماعي والعلاقات التجارية مع إسرائيل.
أثارت الحلقة الثالثة من “مخرج 7” جدلا واسعاً بعد نقاشٍ صريحِ عن العلاقات الخليجية-الإسرائيلية، وهو موضوع تجنبه الخليجيون طرحه في المجال العام لعقود من الزمن. لعب ناصر القصبي، أحد أشهر ممثلي الدراما السعودية، الدور الرئيسي في المسلسل، والذي صور الحياة اليومية لموظف حكومي، يكافح من أجل التكيف مع العادات والمعايير المجتمعية الجديدة. في الحلقة الثالثة، خاض القصبي نقاشاً حاداً مع شقيقه، الفنان راشد الشمراني، حول الفوائد المحتملة للعلاقات التجارية مع إسرائيل. وفي الوقت نفسه، شكي شقيقه من عدم تقدير الفلسطينيين لما قدمه لهم السعوديون، وهو خطاب منتشر اليوم يحاول الترويج له بعض مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي، المعروفين بتأييدهم التام لبعض حكومات الخليج. والجدير بالذكر هو أن النقاش أثير بعد اكتشاف القصبي أن ابنه أراد لعب لعبة عبر الإنترنت مع صديق إسرائيلي. ضحك الابن على ردة فعل والده الصادمة، مما يشير إلى تغير في المواقف بين الجيلين تجاه إسرائيل ومفهوم التطبيع لديهما.
ومع ذلك، يقول خلف الحربي، كاتب محتوى “مخرج 7”: يمكن لأي شخص شاهد الحلقة الثالثة كاملة أن “يفهم بسهولة أنها ضد التطبيع، وأن الفنان القدير راشد الشمراني كان يقوم بدور الانتهازي المحتال”. ولكن على أية حال، يمكن القول إن فتح النقاش بحد ذاته يدفع إلى مناقشة مسألة التطبيع الاجتماعي، والذي بدوره قد يمهد للنقاش حول التطبيع السياسي. يقول نبيل نويرة، محلل مستقل في الشؤون الخليجية بواشنطن دي سي: “مخرج 7″ قد لا يعطي ضوءً أخضراً للتطبيع مع إسرائيل، ولكن ربما ضوء أصفر وامض.”
دعت الحركات المقاومة للتطبيع، المرتبطة بحركة مقاطعة إسرائيل، في البحرين وعمان والكويت وقطر إلى مقاطعة مجموعة أم بي سي، متهمة القناة المملوكة للسعودية ب “التطبيع الإعلامي”. علاوة على ذلك، دفعت هذه البرامج التلفزيونية المثيرة للجدل الجمعية البحرينية لمقاومة التطبيع إلى الإعلان عن ورشة حوارية عبر الإنترنت، لمناقشة مسألة التطبيع في دول الخليج، ولكن تم إلغاؤها أثناء البث بأوامر عليا من الجهات الرسمية.
التسامح الديني يُنظر إليه على أنه تطبيع اجتماعي
اجتذب مسلسل “أم هارون”، الذي يروي قصة ممرضة يهودية اعتنقت الإسلام لاحقاً، تعيش في وئام مع جيرانها العرب في بلدة خليجية، نحو 113 مليون مشاهد من جميع أوساط العالم العربي. تم تصوير الإنتاج في الإمارات، وشاركت في إنتاجه شركات كويتية خاصة وإماراتية، وكتب المحتوى بحرينيان، وتم بثه على قناة أم بي سي المملوكة للسعودية. ومع ذلك، فقد أثار جدلاً ساخنًا قبل أن يتم بثه، على الرغم من طلب المؤلفين من الجمهور عدم القفز إلى الاستنتاجات والأحكام المسبقة حتى الانتهاء من مشاهدة الحلقة الأخيرة.
على عكس “مخرج 7″، لم يشر “أم هارون” بشكل مباشر إلى “التطبيع” مع إسرائيل. ومع ذلك، خلص المنتقدون أن البرنامج يدفع بشكل غير مباشر إلى التطبيع الثقافي مع إسرائيل، بسبب التصوير الإيجابي للشخصيات اليهودية والتعاطف معهم، والذي يعتبر، بالنسبة للعديد من العرب، صورة مواتية لإسرائيل نفسها.
يقول عضو البرلمان الكويتي، أسامة الشاهين، أن وزير الاعلام قرر عدم ترخيص هذا العمل الفني “الذي يروج للتطبيع”. وأضاف شاهين “إن الكويت ضد أي تطبيع ثقافي أو سياسي أو اجتماعي مع الكيان الصهيوني”. وفي الجانب الآخر، تقبل البعض فكرة المسلسل مع التحفظ على مضمونه. يقول د. يوسف المطيري، مؤرخ في تاريخ اليهود في الخليج، “يهود الخليج جزء من تاريخنا، ولن نحكم على ما إذا كان البرنامج يشجع التطبيع أم لا، ما لم نشاهد المسلسل بأكمله”.
ووصف الدكتور عبد الله الشايجي، أستاذ العلوم السياسية في الكويت، شبكة أم بي سي على أنها ” تسعى بقوة ناعمة مفضوحة لاختراق قلاعنا بمسلسل أم هارون، وبممثلين خليجيين، وبطولة كويتية، لبرمجة الفكر العربي بسردية التسامح، وللترويج للتعايش والتطبيع.” وقد ابتز المنتقدين بشكل خاص مشهد من الحلقة الأولى عندما أعلن مذيع عربي إقامة دولة إسرائيل، وإنهاء الانتداب البريطاني على “إسرائيل” وليس “فلسطين”، وهو ما يعتبره العرب ناكراً لوجود دولة فلسطينية. نفى الكاتبان البحرينيان محمد وعلي شمس أن يكون هذا هو القصد، موضحين أن الإذاعة كانت تبث من لندن، وبالتالي تبنت الرواية البريطانية الداعمة لإسرائيل.
وقد أبدى البعض معارضتهم بدوافع دينية. اشتكى الحاخام داود في أحد المشاهد من الظلم والإذلال الذي واجه اليهود منذ أيام خيبر، وهي معركة دارت في زمن الرسول (صلى الله عليه وسلم). حيث وصف الرئيس السابق للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة في المملكة العربية السعودية، الدكتور عبد العزيز التويجري، هذا المشهد على أنه “كفرٌ بواح”. إن تصوير مظلومية اليهود تحت العرب يعزز الرواية الإسرائيلية، بحسب بعض النقاد.
ومع ذلك، هناك معسكر كبير يعتقد أن “أم هارون” مجرد عمل درامي مثير، تم تسيسه من قبل مختلف الأطراف. قال كاتبا “أم هارون”: “هذه قصة إنسانية عن أشخاص من طوائف وأديان مختلفة يتعايشون بسلام”. وأضاف المؤلفان بأن فلسطين هي قضيتهم وستظل قضيتهم، وليس لديهم أية دوافع سياسية من هذا العمل. وقال الصحفي السعودي ورئيس تحرير صحيفة “إندبندنت أرابيا”، عضوان الأحمري، “اتهام المسلسل بالتطبيع أمر مضحك”. وأضاف عضوان: “العقل العربي لديه أزمة في التفريق بين الديانة السماوية والدولة المحتلة”.
اٌعجب بعض الشباب في الخليج بقصة أم هارون، والتفاصيل الدقيقة في البرنامج. قدم مسلسل “أم هارون” يهود الخليج على أنهم أناس يعيشون بسلام، ولا يحتاجون إلى بلد خاص بهم، وبالتالي يعد هذا معارضاً لجوهر الفكر للصهيوني. قالت تغريد السابح، طالبة دكتوراه سعودية بجامعة لويولا في شيكاغو، إنني معجبة بالتنوع الفكري في المسلسل، في الطوائف نفسها، في القرية، حيث نرى وجهات نظر متعددة داخل نفس العائلة. وأشارت كذلك إلى أن الصهاينة، الذين اختاروا إسرائيل على بلدانهم الخليجية، نُظر إليهم نظرة سلبية في السلسلة، بما في ذلك الحاخام الرئيسي (داوود).
كما أثار مسلسل “أم هارون” بعض الردود المعادية للسامية، وهي حقيقة أشار إليها الكاتب السعودي عبد الرحمن الراشد مدير قناة العربية السابق: “مسلسل “أم هارون” اختبار للعنصرية عند المشاهد ضد اليهود العرب. تحديداً عند الجيل القديم الذي فطم على الكراهية العمياء من وراء الاستخدام السياسي”. انتشر مقطع فيديو على تويتر وواتساب، يصور يهود الخليج على أنهم كانوا تجاراُ فاسدين، ومحتالين في أعمالهم، ومثيرين للفتن في المجتمع. عموماُ، يظل الراشد من المنحازين لموقف عربي أكثر ودية تجاه إسرائيل، نكاية في إيران.
لم يتجاهل الشباب الخليجيون الآخرون السياق السياسي المحيط بهذه البرامج الداعية إلى التطبيع بنظرهم، وهو السياق الذي شهد سعي السعودية نحو مزيد من التسامح مع اليهود وقبولاً لإسرائيل. في يناير/كانون الثاني، زار رئيس رابطة العالم الإسلامي – ومقرها السعودية، محمد العيسى، معسكر اعتقال أوشفيتز، على رأس وفد مشترك من علماء دين مسلمين واللجنة اليهودية الأمريكية، التي تعرف نفسها بأنها “منظمة عالمية رائدة في مناصرة اليهود وإسرائيل”. بالإضافة لذلك، استضاف الملك سلمان بن عبد العزيز في فبراير/شباط حاخاماً إسرائيلياً في مقر إقامته الرسمي في الرياض. يقول مشعل طارق، طالب دراسات عليا كويتي في الجامعة الأمريكية في واشنطن: “تسطيح مسلسل على أنه مسلسل يحكي وقائع تاريخية عاشتها المنطقة يعتبر “سذاجة”. مضيفاً “لا يمكن الحكم على المسلسل بعيداً عن السياق السياسي، وموجة التطبيع التي تعيشها المنطقة، ولا عن القناة الناقلة، ورسائل التطبيع التي تبث فيها على مدار السنة.”
معسكر مكافحة التطبيع لا يزال قاسياً بين مواطني الخليج
في الغالب، ارتكز النقاش حول المسلسلات الرمضانية المثيرة للجدل هذا العام على ما إذا كانت البرامج التلفزيونية تعزز التطبيع الاجتماعي، وليس على مسألة التطبيع نفسها، حيث طغت السردية المعادية للتطبيع بين الأوساط الخليجية. معظم مؤيدي المسلسلات التلفزيونية لم يدافعوا عن التطبيع الاجتماعي والسياسي مع إسرائيل، ولكنهم لم يروا عنصر التطبيع في هذه البرامج. لذلك، يبدو أن المعارضة الشعبية للتطبيع الاجتماعي والسياسي مع إسرائيل متمسكة بقوة، رغم سماح بعض الحكومات الخليجية بمزيد من المساحة لمناصري العلاقات الخليجية الإسرائيلية للحديث عن قضيتهم.