ادعم منشورات معهد دول الخليج العربية في واشنطن باللغة العربية
تبرع اليوم لمساعدة المعهد في توسيع نطاق تحليلاته المنشورة باللغة العربية.
تبرع
ازداد المشهد الانتخابي تعقيدا وغرابة وضراوة في الأسبوع الذي تلى المناظرة الثانية بين المرشح الجمهوري دونالد ترامب والمرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون، ما يجعله ربما الأسبوع الأكثر محورية منذ بدء السباق. وفي سلسلة من التطورات المذهلة والمتلاحقة بسرعة انحدر السجال الانتخابي إلى مستويات مبتذلة غير معهودة – حتى بالمقاييس المتدنية لهذه الدورة الانتخابية- وفاحت منه رائحة الفضائح الجنسية المقيتة، فضلا عن الاتهامات والاهانات النافرة، وخاصة تلك التي وجهها ترامب إلى هيلاري كلينتون وزوجها الرئيس الأسبق بيل كلينتون خلال المناظرة وفي الأيام التي تلتها، مذكرا الأمريكيين بنزوات وغزوات بيل كلينتون الجنسية، لكي يخفي فضيحة الشريط المصور الذي تم الكشف عنه قبل يومين من المناظرة والذي احتفل فيه ترامب بذكوريته المفترسة حين تحدث باعتزاز عن تحرشاته الجنسية وكأنها شأن عادي وحق من حقوقه. وأدى رفض ترامب لنصائح بعض مستشاريه بأن يعتذر بجدية وصدق من الأمريكيين بهدف طلب الغفران، وأن يعيد السجال الانتخابي إلى القضايا السياسية والاقتصادية الشرعية ولجوئه إلى التراشق بالوحل مع منافسته كلينتون، وتصرفاته السوقية، إلى تخلي عشرات الشخصيات الجمهورية، داخل وخارج الكونغرس عنه ونبذه علنا أو سحب تأييدهم له. وقبل أكثر من ثلاثة أسابيع من موعد الانتخابات، بدأت شبكات التلفزيون ببث أشرطة قديمة بعض الشيء لترامب وهو يتحدث بغرور وغطرسة عن غزواته الجنسية وتحرشاته بمن وصفهم “الضحايا”، ووجد ترامب نفسه في مواجهة اتهامات جديدة من عدد من النسوة اتهمنه بالتحرش الجنسي على مدى السنين الماضية، كلها ساهمت في تحويل السجال الانتخابي إلى مسلسل طويل من الأشرطة الفضائحية، والأكاذيب والاتهامات الرخيصة.
حرب أهلية بين الجمهوريين
وفور أن وجه رئيس مجلس النواب الجمهوري بول رايان ضربة موجعة لترامب، عندما أعلم أعضاء حزبه في المجلس في اليوم التالي للمناظرة المحرجة، أنه سيعلق دعمه العلني والعملي لترامب، وسوف يركز جهوده على الحفاظ على الأكثرية الجمهورية في المجلس، جاء رد ترامب سريعا ومدويا، مدشنا فيه بداية ما وصفه أكثر من معلق “بحرب أهلية” بين الجمهوريين من المتوقع أن تخلق شروخات سياسية وايديولوجية عميقة قد تؤدي إلى تفكك وانقسام الحزب الذي انتمى اليه رؤساء تاريخيون بدءا من ابراهام لينكولن ومرورا بثيودور روزفلت ودوايت اينزنهاور وانتهاء برونالد ريغان. ويمكن اعتبار تخلي بول رايان، وشخصيات جمهورية بارزة مثل السيناتور جون ماكين عن ترامب، بمثابة اعتراف ضمني بأن الجمهوريين قد خسروا البيت الأبيض قبل موعد الانتخابات. وسارع ترامب بعد “خيانة” هذه القيادات له، إلى الإعلان بأنه قد عتق نفسه من “القيود” التي فرضتها القيادات التقليدية للحزب الجمهوري عليه، معتمدا ما يمكن وصفه باسلوب “الأرض المحروقة” ليس فقط في مواجهة هيلاري كلينتون (التي ادعى أن فوزها في الانتخابات سيؤدي إلى سيطرة داعش على الولايات المتحدة)، بل أيضا قيادات الحزب الجمهوري التي رفضت مبايعته دون تحفظ.
وبعد مرور أقل من أسبوع على المناظرة الثانية، وجد ترامب نفسه في حرب مفتوحة مع هيلاري كلينتون وحزبها، ومع قيادة الحزب الجمهوري، ومع وسائل الإعلام، ومع ما وصفها “بقوى عالمية” تتآمر سريا مع هيلاري كلينتون لسرقة ثروات الولايات المتحدة. وفي خطاب ألقاه يوم الخميس، ورّد فيه على اتهامات التحرش الجنسي، تحدث ترامب للمرة الأولى وبلغة ضمنية عكست العداء التقليدي في الغرب لليهود وتحدث عن مؤامرة تلعب فيها هيلاري كلينتون دورا محوريا. وقال ترامب أن هناك قوى نخبوية دولية، ووضع ما اسماه “ماكينة كلينتون” في وسط هذه القوى، واعتمد ترامب في اتهاماته هذه على ما وصفه بوثائق ويكيليكس حيث “تجتمع كلينتون سرا بالمصارف الدولية للتآمر على تدمير سيادة الولايات المتحدة من أجل إثراء هذه القوى الدولية المالية، والمصالح الخاصة لأصدقائها والمتبرعين لها”. وطبعا لم يقدم ترامب أي أدلة تثبت نظرية المؤامرة هذه، والمأخوذة من تقاليد العداء للسامية في الغرب والتي تتهم اليهود بالسيطرة على المصارف الدولية واستخدامها في مؤامرات خيالية.
ترامب، المرشح المستقل
ومع مرور كل يوم، ومع استمرار شعبيته بالانحسار وفقا لاستطلاعات الرأي، كانت نبرة ترامب في تصريحاته تزداد ضراوة. وبعد أن “عتق” ترامب نفسه من قيود النخبة الجمهورية التقليدية، بدأ يتصرف عمليا وبشكل أوضح من أي وقت سابق وكأنه مرشح مستقل تماما عن قيادة الحزب السياسية في الكونغرس وغير ملتزم “بارثوذوكسيتها” الايديولوجية حيث يستخدم المفاهيم الوطنية الضيقة، ويستغل مخاوف المواطنين من ذوي الدخل المحدود والخائفين من الآثار السلبية للعولمة على وظائفهم، إضافة إلى تأجيج مخاوف البيض من الأقليات الإثنية والمسلمين. ولكن طلاق ترامب من الجمهوريين لم يكتمل لأنه لا يزال يحافظ على علاقته مع رئيس الحزب راينس بريبوس الذي ينسق مع حملته النشاطات الانتخابية وإنفاق المال.
وأثار الخلاف المفتوح بين ترامب ورئيس مجلس النواب بول رايان وحلفائه سخط القاعدة الشعبية التي تدعم ترامب، والتي سارعت إلى توجيه اتهامات “الخيانة” لأعضاء مجلسي الشيوخ والنواب الذين تخلوا عن ترامب بعد الكشف عن أشرطته الجنسية واكاذيبه، والذي اضطر بعضهم لاحقا للعودة إلى معسكر ترامب بسبب ضغوط الناخبين، كل هذه العوامل أثارت التساؤلات من جديد حول مستقبل الحزب الجمهوري، لأنه بغض النظر عن من سيقوم بإدلاء قسم اليمين الرئاسي في العشرين من يناير/كانون الثاني 2017، فإن الحزب الجمهوري سوف يكون في أسوأ حالاته: منهكا ومنقسما ومجروحا ويعاني من أزمة هوية. وفي حال فوز ترامب فإنه سيعمل على تنفيذ تهديده العلني بالتخلي عن قيادات الكونغرس من الجمهوريين مثل بول رايان وغيره ، وهي مسألة لا يستطيع الرئيس تقريرها سياسيا وقانونيا. وفي حال فوز كلينتون فإن جناح ترامب سوف يحّمل مسؤولية الهزيمة على رايان وجون ماكين. ولكن، المعضلة الأكبر، هي كيفية تفسير ظاهرة مثل ظاهرة ترامب الذي حصل خلال الانتخابات الحزبية على تأييد أكثر من 13 مليون ناخب، والذي يجذب إلى حملته الراهنة حوالي 40 بالمئة من الأمريكيين. كتب الكثيرون عن أسباب وقوف هذه الشريحة الشعبية الكبيرة نسبيا وراء حملة ترامب، مثل تهميشها وظائفيا بسبب اتفاقات التجارة الدولية، أو خوفها على هوية أمريكا البيضاء والمسيحية من المهاجرين غير البيض وغير المسيحيين، وغيرها من النظريات والتفسيرات. ولكن الواقع هو أن وجود مثل هذه الشريحة الاجتماعية الغاضبة والمتقبلة لاجراءات جذرية ضد من تعتبرهم خصومها، يشكل نقطة ضعف مقلقة في الديموقراطية الأمريكية، ومعالجتها وإصلاحها لن يكون سريعا أو دون وجع.
كلينتون وويكيليكس
سعت مؤسسة ويكيليكس في الأسابيع القليلة قبل الانتخابات إلى إغراق الانترنت بآلاف الرسائل الإلكترونية التي حصلت عليها الاستخبارات الروسية، وفقا لاتهامات الحكومة الأمريكية بعد اختراق حساب جون بوديستا المدير العام لحملة هيلاري كلينتون. الرسائل تضمنت قضايا محرجة لكلينتون من بينها أن لديها علاقة أوثق مع المؤسسات المالية في وول ستريت مما تدعيه علنا وأنها تريد التعاون مع هذه المؤسسات لإصلاح قوانين الاستثمار والتصدي للفساد ومنع الممارسات التي ادت إلى الازمة المالية في 2008، وهي مواقف تتعارض مع ما كانت تقوله كلينتون علنا في الحملة الانتخابية الحزبية ضد منافسها الديموقراطي بيرني ساندرز. كما كشفت الوثائق وجود قلق في أوساط الحملة، لأن المرشحة كلينتون لا تحب الناس العاديين، ولا تريد الانفتاح والتحاور مع وسائل الإعلام، كما أنها تفتقر إلى رؤية جذابة أو شعارات تلخص بوضوح ما تريد أن تحققه. وتساءل أحد مساعديها في إحدى الرسائل عن أسباب إخفاق كلينتون في التفوق على مرشح مثل ترامب، مشيرا إلى أنها تعتمد على ضعف وتهور ترامب لحسم السباق لصالحها. وتتهم حملة كلينتون علنا روسيا الاتحادية بأنها وراء اختراق الرسائل الإلكترونية للمسؤولين في الحزب الديموقراطي وفي حملة كلينتون، مشيرين إلى أن الرئيس بوتين، الذي يتبادل الغزل العلني مع ترامب، يريد أن يساعده على الفوز بالانتخابات.
وأظهرت استطلاعات الرأي التي أجرتها شبكة التلفزيون أن بي سي وصحيفة وول ستريت جورنال بعد الكشف عن شريط ترامب الفضائحي أن كلينتون تقدمت على ترامب بنسبة 11 بالمئة، وانحسرت بعد المناظرة إلى 9 بالمئة. وفي الواقع فإن مختلف استطلاعات الرأي التي تجرى على المستوى الوطني تبين أن كلينتون متقدمة على ترامب بنسب تتراوح بين 9 و4 بالمئة. ولكن الصورة الأدق للخريطة الانتخابية، هي تلك التي توفرها بعض الولايات المحورية التي ستحسم السباق مثل بنسلفانيا وفلوريدا واوهايو وساوث كارولينا. وتبين استطلاعات الرأي أنه باستثناء أوهايو حيث يتقدم ترامب بنقطة واحدة، فإن كلينتون متفوقة عليه في معظمها. ومؤخرا، أوقفت حملة ترامب إنفاق الموارد المالية في ولاية فيرجينيا، وذلك في اعتراف ضمني بأن الولاية أصبحت في معسكر كلينتون. وفي تطور لافت، أظهرت استطلاعات الرأي التي تجريها المؤسسات الإعلامية، (والاهم الاستطلاعات الداخلية لكل حملة) أن بعض الولايات التي كانت محسومة تقليديا للجمهوريين مثل آيوا وجورجيا واريزونا، تقترب أكثر من المعسكر الديموقراطي، بسبب التحولات الديموغرافية والاقتصادية، الأمر الذي شجع حملة كلينتون على تخصيص الموارد المالية والبشرية للفوز في هذه الولايات. تعثر حملة ترامب وكبواته المكلفة، بدأ يشجع الديموقراطيين باحتمال فوزهم بأكثرية بسيطة في مجلس الشيوخ وربما باستعادة السيطرة على مجلس النواب، وإن كانت فرصهم بتحقيق مثل هذا الانتصار اصعب من مجلس الشيوخ.
ومع اتساع الهوة لصالح كلينتون في الولايات المحورية مثل بنسلفانيا، عاد ترامب للتركيز على مسألة مقلقة كان قد أثارها في السابق، وهي “سرقة الانتخابات” منه، مع أنه لا يوضح من هو “السارق” المحتمل . ويشكو ترامب دائما من أن النظام السياسي “مزور” لضمان خسارة مرشحين من أمثاله. وخلال نشاط انتخابي في بنسلفانيا، حذر ترامب من سرقة الانتخابات في الولاية وركز بالتحديد على أكبر مدنها، فيلادلفيا التي يسكنها عدد كبير من الأمريكيين من أصل إفريقي. ويستخدم ترامب “مفاتيح” لغوية تنضح بالعنصرية حين يقول لأنصاره على سبيل المثال “من الضروري أن نراقب جماعات أخرى لضمان عدم سرقة الانتخابات منا” ثم يضيف “الجميع يعلم ما اتحدث عنه”. ما يجعل هذه التحذيرات خطيرة هي أنها غير مسبوقة، لأن التشكيك بصدقية الانتخابات الرئاسية الأمريكية لم يحدث منذ القرن التاسع عشر. وحتى انتخابات سنة الفين، حيث فاز المرشح الديمقراطي آل غور بالتصويت الشعبي، ولكنه لم يحصل على الأكثرية المطلوبة في المجمع الانتخابي التي حصل عليها المرشح الجمهوري جورج بوش الابن، الأمر الذي أوصل الخلاف إلى المحكمة العليا، فإن المرشح غور بعد أن حسمت المحكمة النزاع لصالح بوش، قبل بالقرار ولم يشكك بشرعيته. تصريحات وتحذيرات ترامب في هذا المجال يمكن أن تؤدي، في حال انتخبت كلينتون بأكثرية بسيطة للغاية، إلى تظاهرات عارمة من انصار ترامب المتحمسين له، يمكن أن تفلت من السيطرة وتؤدي إلى احتجاجات قد تتضمن أعمال عنف.