إن توقيع اتفاقية الخامس من يناير/كانون الثاني في العلا لإنهاء مقاطعة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر لقطر يعدّ خطوة هامة لاستعادة الوحدة في منطقة الخليج وفي مجلس التعاون الخليجي كمؤسسة. ومع ذلك، وكما يجادل العديد من الخبراء، فإن رفع المقاطعة واستعادة العلاقات الدبلوماسية لم يعالج المشاكل الجوهرية التي تقسم دول الخليج، خاصة المصالح المتضاربة في السياسة الخارجية، التي ينتهجها التحالف التركي-القطري من جهة، والمحور السعودي-الإماراتي من الجهة الأخرى. ولعبت الوساطة الكويتية والمشاركة الأمريكية واستعداد السعودية، للمضي قدماً دوراً، محورياً في حل النزاع في نهاية المطاف بعد عدة محاولات فاشلة على مدار السنوات الثلاث والنصف الماضية.
ونظراً لكون السعودية هي التي دفعت باتجاه هذه المبادرة في المقام الأول، فهناك العديد من الأسئلة حول ما إذا كان واضحاً أن الشركاء الأقل حماساً، مثل الإمارات، سيُعدلون سياستهم الخارجية وفقاً لذلك. وبالإضافة إلى ذلك، هل سيكون لهذا التخفيف من التوترات تأثير خارج منطقة الخليج؟ لقد أدت الخصومات الخليجية، لا سيما بين الإمارات وقطر، إلى زيادة حدة الصراع والتوترات في أماكن أخرى، مثل شمال أفريقيا ومنطقة البحر الأبيض المتوسط. فهل يمكن لرأب الصدع في الخليج أن يخفف من بعض هذه التوترات، ويفضي إلى تعديلات في السياسة الخارجية لدول الخليج في المناطق التي تدخلت فيها، وبالتحديد في ليبيا؟
الانقسامات الجوهرية باقية، ولكن هنالك مجال للتفاؤل
إن جزءاً كبيرا من التنافس الاستراتيجي بين القوى الإقليمية والعالمية على ليبيا وشرقي البحر الأبيض المتوسط يتعلق بالسيطرة على الموانئ الاستراتيجية والممرات المائية والموارد؛ وهناك تزاحم لبناء موانئ بحرية ومنشآت عسكرية لتأمين النفوذ على ممرات مائية وموانئ استراتيجية أخرى في أفريقيا، مثل البحر الأحمر وخليج عدن. والأهم من ذلك، هنالك أيضاً خلافات أيديولوجية بين التحالفين الإماراتي-السعودي والتركي-القطري حول دور الأحزاب الإسلامية وموروثات انتفاضات الربيع العربي عام 2011.
يذهب حسين إبيش، من معهد دول الخليج العربية في واشنطن، للقول بأنه “لو تُركت الإمارات وشأنها، ربما كانت ستواصل المقاطعة حتى توافق قطر على إعادة صياغة سياستها الخارجية بشكل حقيقي فيما يتعلق بالإسلاموية”. تعطي السياسة الإماراتية في شمال أفريقيا والبحر الأبيض المتوسط الأولوية لمواجهة انتشار الجماعات الإسلامية أو الجماعات المرتبطة بها وذلك من خلال الحوافز المالية والأعمال العسكرية. هذا جزء من سياسة أوسع لمواجهة الثورة، وتعزيز الوضع الإقليمي القائم لـ [الاستقرار الاستبدادي] في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في أعقاب انتفاضات الربيع العربي عام 2011. كما ركز الإماراتيون على مواجهة تحركات تركيا، الشريك الإقليمي الأهم لقطر في دعم الحركات الإسلامية.
تحولت السياسة الخارجية التركية تدريجياً إلى العسكرة وتجذرت في إظهار القوة الصارمة حيث تسعى لتوسيع مناطق نفوذها، كما هو الحال في شرق البحر المتوسط وليبيا. ولا تزال السياسة الخارجية القطرية تعمل بشكل أساسي من خلال آليات مثل الدبلوماسية العامة والبث الإعلامي والمساعدات الخارجية والاستثمار، والمزيد من العلاقات الدفاعية التقليدية، مثل التدريبات والدورات العسكرية المشتركة. توسع تحالف تركيا وقطر منذ بداية المقاطعة في عام 2017، وتوسعت بالمثل القاعدة العسكرية التركية خارج الدوحة، وليس من المرجح أن يلغي اتفاق العلا هذا الواقع.
كانت التوترات الخليجية بشأن إيران، ودعم قطر للجماعات الإسلامية، وغيرها من قضايا السياسة الخارجية راسخة بعمق قبل مقاطعة عام 2017، وقد تجلت سابقاً في أكثر أشكالها حِدة في الخلاف الدبلوماسي عام 2014. وما اتفاقية العلا إلا الخطوة الأولى في طريق المصالحة الطويل.
مهما كانت المصالحة واهية، إلا أن الاتفاقية مهمة من جوانب عديدة. إن رأب الصدع داخل مجلس التعاون الخليجي بشكل فعال إلى حد ما قبل أن تتولى إدارة الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن منصبها يعد إشارة إلى أن الجهات الفاعلة في منطقة الشرق الأوسط تعترف بالحاجة إلى تعديلات في السياسة الخارجية في الوقت الذي كانت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب تغادر خشبة المسرح. لقد وعدت إدارة بايدن بالمضي قدماً في سياسة خارجية تسترشد بحقوق الإنسان والقيم وأشار بايدن إلى أن إيجاد طريقة للعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني سيكون أولوية عليا. وخلال الحملة، وعد بايدن أيضاً بأنه سيراجع علاقات الولايات المتحدة مع الحلفاء الخليجيين مثل السعودية لضمان مزيد من المساءلة بشأن مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي والتوقف عن دعم الحرب في اليمن.
الحرب بالوكالة في ليبيا
ليبيا هي إحدى الساحات العديدة للحرب بالوكالة في الشرق الأوسط. تزايدت تدريجياً عولمة هذه الحرب، حيث تسعى القوى الإقليمية الصاعدة إلى توسيع مجالات نفوذها عبر البحر الأبيض المتوسط الاستراتيجي. وتقدم دول الخليج، وحلفاؤها الرئيسيون، الدعم للأطراف المتصارعة في الحرب الأهلية الليبية. كما تقدم تركيا وقطر الدعم لحكومة الوفاق الوطني، المدعومة من الأمم المتحدة، والتي تتخذ من طرابلس في غرب ليبيا مقراً لها، بينما تدعم الإمارات والسعودية ومصر مجلس النواب، الذي انتقل إلى طبرق شرقي ليبيا، والجيش الوطني الليبي بزعامة الجنرال خليفة حفتر.
أثار التخفيف من التوترات في الخليج تساؤلات حول ما إذا كانت الإمارات وقطر ستقللان من مشاركتهما في الحرب الليبية. ومع ذلك، فمن المرجح أن يبقوا متورطين في الصراع هناك لأن المصالح الأساسية التي دفعتهم للمشاركة في الأصل لم تتغير. وتعود جذور المشاركة الإماراتية والقطرية إلى احتجاجات الربيع العربي عام 2011، ودعمها للجماعات المسلحة للإطاحة بمعمر القذافي. لقد انقسمت هذه الجماعات في نهاية المطاف، وازداد دعم الخليج للفصائل السياسية والمسلحة المعارضة مع إجراء ليبيا للانتخابات ومواجهة بيئة عسكرية متزايدة. تركيا وقطر وإيطاليا إلى جانب حكومة الوفاق الوطني، والإمارات وفرنسا وروسيا إلى جانب حفتر، تقدم هذه الدول الدعم المالي، وفي كثير من الحالات ترسل مرتزقة أجانب وتمولهم وتزودهم بالسلاح. تنظر الجهات الفاعلة مثل السعودية والإمارات إلى الدعم التركي والقطري لحكومة الوفاق الوطني على أنه استراتيجية لتوسيع النفوذ الإقليمي للإسلاميين عبر الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
تضم حكومة الوفاق الوطني أعضاء في الأحزاب الإسلامية، وتقيم علاقات مهمة مع الأحزاب الإسلامية القوية في المنطقة، مثل حزب العدالة والتنمية في تركيا وحركة النهضة في تونس (الذي على الرغم من رفضه للتسمية الإسلامية، إلا أنه يفضل الديمقراطيين المسلمين) والإخوان المسلمون في مصر. كما أنها تتلقى مساعدات مالية وعسكرية من تركيا وقطر وإيطاليا. وتنظر السعودية والإمارات إلى الدعم التركي والقطري لهذه الجماعات على أنه تهديد للاستقرار الإقليمي وتهديد لبقاء الأنظمة الخليجية. وصنفت السعودية الإخوان المسلمين كجماعة إرهابية في عام 2014 وحظرت التنظيم. وحذت الإمارات ومصر حذوها بعد فترة وجيزة.
تنظر الإمارات، بشكل خاص، إلى النفوذ المتزايد لتركيا في المنطقة بالكثير من الريبة، وهو عامل آخر يحفز مشاركتها المالية والعسكرية الكبيرة لصالح الجيش الوطني الليبي بزعامة حفتر، ودعمها السياسي لمجلس النواب في طبرق. كما يرتبط حجم الاستثمار الإماراتي في الصراع الليبي بمجموعة المصالح المشتركة، الآخذة في الاتساع، مع الجهات الأوروبية الفاعلة مثل فرنسا واليونان، إلى جانب الشركاء الإقليميين مثل مصر، المستعدة أساساً للتحالف في مواجهة تركيا. ويشمل ذلك مواجهة التواجد الأمني المتزايد لتركيا والوصول إلى احتياطيات الغاز البحرية في البحر المتوسط، ودورها في الصراع القبرصي مع اليونان، ودعمها المالي والعسكري للإسلاميين في شمال أفريقيا.
الانقسامات المتجذرة
يشكل إنهاء المقاطعة لقطر انفراجاً مُرحب به لدى دول شمال أفريقيا، مثل المغرب والجزائر وتونس، التي التزمت الحياد رسمياً في النزاع الخليجي. ومن المرجح أن هذه الدول يحدوها الأمل في أن تفضي هذه الوحدة المتجددة إلى إعادة إحياء العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية الخليجية-المغاربية، التي عانت من المد والجزر، حيث كانت هذه القوى الإقليمية الصغيرة تقع من حين لآخر في مرمى نيران التوترات الخليجية بعد عام 2011، وبشكل خاص بعد عام 2017. سوف ينصب اهتمام هذه الدول في المقام الأول على المساعدات والاستثمارات الأجنبية في الوقت الذي تكافح فيه التداعيات الاقتصادية لجائحة فيروس كورونا.
ومع ذلك، ليس من المرجح أن يفضي رفع المقاطعة بشكل أساسي إلى إعادة تشكيل الانقسامات الجيوسياسية في البحر المتوسط أو الصراع الليبي. إن الانقسامات الأيديولوجية والاستراتيجية بشأن انتفاضات الربيع العربي، والديمقراطية والثورة، والأحزاب الإسلامية، والوضع الإقليمي الراهن متجذرة بعمق وواسعة الانتشار. تسللت مظاهر الصراع الخليجي إلى شمال أفريقيا على مر السنين، وتأججت بفعل حجم المساعدات والاستثمارات الأجنبية الكبير من الأطراف المتنافسة. وقد تفاقمت هذه الانقسامات في دول مختلفة في جميع أنحاء المنطقة نتيجة للديناميكيات السياسية والاجتماعية-الاقتصادية الداخلية لهذه البلدان.
ربما يكون الدافع المفاجئ لتسوية النزاع الخليجي ناجماً إلى حد كبير عن سعي المملكة العربية السعودية إلى تقديم بادرة حسن نية للإدارة الأمريكية الجديدة التي قد لا تكون ودية كسابقتها. ويشير هذا إلى أن هذه المصالحة التي تم التوصل إليها حديثاً يمكن أن تخفي مؤقتاً اختلافات أيديولوجية واستراتيجية أعمق. ولأن إتفاقية العلا لم تعالج جذور الصراع بين الدول الخليجية، فمن المحتمل ألا تؤثر بشكل كبير على المنافسة الخليجية في شمال أفريقيا.