في السابع عشر من يناير/كانون الثاني، اجتمع رئيسا إيران وروسيا في موسكو لتوقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية، والتي تهدف إلى تعميق العلاقات الثنائية على مدى العقدين المقبلين. تأتي هذه الاتفاقية لتعزيز التعاون التجاري والأمني، في أعقاب السقوط المفاجئ لحليفيهما المشترك، بشار الأسد في سوريا.
في حين أن توقيت الاتفاقية – قبل أيام من عودة الرئيس دونالد ترامب إلى منصبه – قد يكون بمثابة رسالة استراتيجية للجمهور الأمريكي، إلا أن تبعاتها تتجاوز تصور واشنطن لتحالف مناهض للغرب. ففي حين تسعى طهران للتعافي من الانتكاسات العسكرية التي منيت بها في عام 2024، فإن انخراط موسكو بشكل أكبر مع إيران يمكن أن يؤثر على هذه العملية بشكل كبير، مع ما يترتب على ذلك من تداعيات كبيرة على أمن منطقة الشرق الأوسط، ولا سيما في الخليج.
والأهم من ذلك، هو أن هذه الاتفاقية ترفع مستوى التعاون التكنولوجي في المجالات النووية والفضائية لمستويات غير مسبوقة. وعلى الرغم من صياغة هذا التعاون رسمياً باعتباره للأغراض المدنية، إلا أن الاتفاقية تثير المخاوف بشأن التطبيقات العسكرية المحتملة، لا سيما مع تقدم إيران في برنامجها للصواريخ الباليستية وطموحاتها في مجال الفضاء. كما تضفي الاتفاقية الطابع الرسمي على التعاون التكنولوجي، الذي تطور بشكل غير رسمي على مدى العقد الماضي، الأمر الذي يثير تساؤلات بين المسؤولين الخليجيين والغربيين حول التداعيات المحتملة لهذه الشراكة القوية.
تعاون نووي يتجاوز مجال الطاقة؟
على المستوى الرسمي، حافظت روسيا على موقف متذبذب فيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني وسط مخاوف دولية بشأن نوايا طهران. فمنذ تسعينيات القرن الماضي، ساعدت روسيا إيران في تطوير قطاعها النووي المدني، لا سيما من خلال إنشاء محطة بوشهر للطاقة النووية. بيد أن هذا التعاون كان دائماً خاضعاً للتحولات السياسية العالمية. فبينما كانت موسكو تساهم في المشاريع النووية المدنية الإيرانية، إلا أنها استخدمت مشاركتها أيضاً كوسيلة ضغط في علاقاتها مع الغرب، ما يعكس موقف موسكو الدبلوماسي على النطاق الأوسع بدلاً من الانحياز الاستراتيجي الثابت مع طهران.
في حين لا يوجد دليل واضح حالياً يشير إلى أن روسيا قدمت مساعدة نووية عسكرية مباشرة لإيران، إلا أن المناخ الجيوسياسي المتدهور، وتزايد اعتمادهما المتبادل على بعضهما البعض قد يغير حسابات موسكو. وأوضح حميد رضا عزيزي، الباحث الزائر في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، أن “ما تغير الآن هو أن القطيعة بين روسيا وأوروبا تبدو نهائية، بعكس ما كان عليه الحال في الماضي، ما من شأنه أن يقلل من ترددها السابق بشأن كيفية تأثير هذا التعاون على مكانتها بين القوى الغربية”.
ومع مواجهة كلا البلدين لعقوبات غربية مشددة -على الرغم من أن الولايات المتحدة أشارت مؤخراً إلى احتمال التحول نحو تخفيف القيود، إلا أن الإجراءات الأوروبية لا تزال صارمة– يبدو أن روسيا تميل بشكل متزايد لدعم البرنامج النووي الإيراني. تضفي معاهدة يناير مزيداً من الطابع المؤسساتي على هذا التعاون، وهو ما يثير التساؤل حول ما إذا كانت مشاركة موسكو ستظل محصورة في المشاريع المدنية أم أنها ستمتد إلى مجالات أكثر حساسية. أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال زيارة الرئيس الإيراني مسعود بيزشكيان إلى موسكو، عن اهتمام روسيا ببناء وحدات جديدة للطاقة النووية في إيران – وهي الخطوة التي أثارت المخاوف بشأن طموحات طهران النووية، ودور روسيا المحتمل للمساعدة في النهوض بهذه الطموحات.
تشير آخر التقارير إلى أن روسيا ربما تكون قد شاركت المعلومات الفنية المتعلقة بتقنية تصنيع الوقود النووي مع إيران، مقابل تسليمها شحنات الصواريخ لدعم مجهودها الحربي في أوكرانيا. وفي حين نفى كلا الطرفين هذه المزاعم، إلا أن التعتيم على تعاونهما في مجال الصناعات الدفاعية يزيد من المخاوف الغربية.
وفقًا لتقرير شركة الباشا الاستشارية للمخاطر، يقول محمد الباشا “تشعر دول الخليج بقلق متزايد بشأن تعميق التعاون بين روسيا وإيران، والذي يشمل تعاوناً واسعاً في مجالي الدفاع والطاقة النووية. ويُنظر لهذا التحالف على أنه نقطة تحول، ومن الممكن أن يشجع طموحات إيران، ويقوض التوازن الأمني الإقليمي”.
ومع تزايد الاعتماد العسكري والأمني المتبادل بين إيران وروسيا، تتراجع قدرة موسكو على الضغط على طهران للإبقاء على برنامج نووي للأغراض المدنية فقط. وقد يكون لدى روسيا في الواقع حافز للتغاضي عن هذه التطورات النووية – أو حتى تشجيعها بشكل غير مباشر – لمنع أي تقارب مستقبلي بين إيران والغرب من شأنه أن يهدد مصالح موسكو الاستراتيجية.
التعاون في مجال الفضاء: انطلاقة الإمكانيات والمخاوف
وعلى نحو مماثل، تعمل روسيا على تعميق تعاونها في مجال الفضاء مع إيران، حيث تسعى طهران لاستغلال عزلة موسكو عن الغرب لضمان الحصول على التكنولوجيا المتقدمة. وقد اكتسبت هذه الشراكة زخماً في عام 2022 عندما أطلقت روسيا القمر الصناعي الإيراني خيام من قاعدة بايكونور كوزمودروم في كازاخستان باستخدام صاروخ سويوز-2.1 بي (Soyuz-2.1b). أثار الإطلاق على الفور مخاوف في الغرب بشأن التطبيقات العسكرية والاستخباراتية المحتملة.
وقد مهدت اتفاقية ديسمبر/كانون الأول 2022 بين وكالة الفضاء الاتحادية الروسية (روسكوزموس) ووكالة الفضاء الإيرانية الطريق أكثر أمام المشاريع المشتركة والاختبارات وتطوير البنية التحتية. وقد أدت عمليات الإطلاق اللاحقة، التي شملت الأقمار الصناعية بارس-1 وكوثر وهدهد في عام 2024، إلى تحسين قدرات إيران على مراقبة منطقة الخليج وإسرائيل بشكل كبير. كما تزعم الاستخبارات الأمريكية أيضاً أن روسيا قدمت الدعم الفني لبرنامج مركبات الإطلاق الفضائية الإيرانية، التي تستخدم تقنيات بالغة الحساسية تدخل في أنظمة الصواريخ الباليستية العابرة للقارات.
تمتد الطموحات الإيرانية إلى ميناء تشابهار الفضائي، الذي من المقرر أن يصبح أكبر قاعدة لإطلاق الأقمار الصناعية في غرب آسيا بحلول عام 2028. كما أن قربه من خط الاستواء يحسن من كفاءة استخدام الوقود في إطلاق الأقمار الصناعية. ومع ذلك، فإن تقدم طهران يبقى معتمداً على الخبرة الروسية وإمكانية الوصول إلى مرافق الإطلاق الروسية والكازاخستانية. تنسجم تطلعات إيران الفضائية مع استراتيجيتها الأوسع لمواجهة الهيمنة التكنولوجية الغربية. وعلى وجه الخصوص، تهدف إيران لتطوير نظام مستقل للملاحة الفضائية على غرار نظام جلوناس الروسي لتقليل اعتمادها على خدمات نظام الجي بي إس (GPS) الذي تديره الولايات المتحدة، والذي تعتبره طهران بمثابة نقطة ضعف وطنية خطيرة.
تنطوي هذه التطورات على تداعيات جيوسياسية بالغة الأهمية. فمع أن إيران تسعى لتحقيق الاستقلالية في مجالي الاتصالات والملاحة الفضائية، إلا أنها تجازف في الوقت ذاته بترسيخ اعتمادها على الموارد الروسية. أما بالنسبة لموسكو، من جهة أخرى، فإن هذه الشراكة تعزز موطئ قدمها في الشرق الأوسط، وتظهر في الوقت ذاتها قدرتها على إنشاء تحالفات تكنولوجية خارج الإطار الغربي في خضم عزلتها الدبلوماسية.
استراتيجية الردع الإيرانية على مفترق طرق
على مدى عقود، تجنبت إيران المواجهة العسكرية المباشرة، معتمدة على عقيدة “الدفاع المتقدم” المرتكزة على الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة والقوات التابعة للوكلاء. إلا أن الانتكاسات الأخيرة – عمليات القتل الممنهجة التي نفذتها إسرائيل ضد القادة الرئيسيين في الحرس الثوري والوكلاء، وانهيار نظام الأسد في سوريا، والهجمات الدقيقة على منشآت إنتاج الصواريخ الإيرانية – قد أثارت نقاشات داخلية بشأن التحول نحو الردع القائم على السلاح النووي. ورغم أن الخطاب العلني يؤكد على التطبيقات المدنية، يعكس الخطاب الداخلي دعماً متزايداً للتسلح المحتمل. كتب محمد الزغول، رئيس وحدة الدراسات الإيرانية في مركز الإمارات للسياسات، “لقد أفضى انهيار نظام الردع الإيراني إلى زيادة المخاوف الإقليمية والدولية من أن طهران قد تتخذ خطوات جادة وغير مسبوقة لاستعادة نفوذها الاستراتيجي”.
على الرغم من أن أحدث المعلومات الاستخبارية الأمريكية تشير إلى أن إيران لا تقوم فعلياً بتصنيع سلاح نووي، إلا أنها لا تزال دولة على عتبة القدرة النووية. وحسب التقارير الفصلية الصادرة عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية لشهر فبراير/شباط 2025، فإن مخزون طهران من اليورانيوم المخصب بنسبة 60% قد تجاوز 275 كيلو جراماً- وهو ما يكفي لإنتاج العديد من الرؤوس النووية إذا تم تخصيبه إلى درجة الاستخدامات العسكرية.
كما شهد برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني تطوراً كبيراً على مدى العقد الماضي، مع توسع ترسانته لتشمل أنظمة قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى، والتي من المحتمل أن الكثير منها قادر على حمل رؤوس نووية. وأفادت التقارير بأن طهران تعمل على دمج آليات إعادة الدخول (الرؤوس المدمرة الموجهة) القادرة على المناورة من أجل تحسين دقة الصواريخ واختراق الدفاعات الجوية. في أكتوبر/تشرين الأول 2024، أفادت تقارير بأن إيران استخدمت اثنين من أكثر صواريخها الباليستية متوسطة المدى تطوراً والمصنّعة محلياً – “خيبر شكن” و”فتاح” – خلال أحدث قصف صاروخي لها على إسرائيل.
علاوة على ذلك، تشير تقارير استخباراتية أوروبية حديثة إلى أن إيران قد تلقت شحنات من مكونات الوقود الدافع للصواريخ من الصين، وهو ما من شأنه أن يمكّنها من إنتاج مئات الصواريخ الباليستية الإضافية متوسطة المدى على الرغم من الأضرار الكبيرة التي لحقت بمنشآت الإنتاج بسبب الضربات الإسرائيلية.
التداعيات على الفاعلين الإقليميين
بالنسبة لدول الخليج، تدق هذه التطورات التكنولوجية ناقوس الخطر بشأن التحول في الديناميكيات الإقليمية. حيث ينظرون لمكانة إيران باعتبارها دولة على أعتاب القدرة النووية، إلى جانب قدراتها المتطورة في مجال الصواريخ والفضاء، على أنها تحدٍ مباشر للبنية الأمنية في المنطقة. كما أن طموحات إيران النووية تعد كذلك أداة جيوسياسية للمساومة. فمع اقتراب إيران من الوصول إلى أعتاب الدولة النووية، من المرجح أن تُقدم كل من الإمارات والسعودية على تسريع وتيرة برنامجيهما النوويين. وقد سبق لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أن صرح بأن الرياض ستسعى لامتلاك القدرات النووية إذا قامت إيران بتطوير سلاح نووي. وعلى نحو مماثل، فإن الإمارات، التي تدير برنامجاً نووياً مدنياً منذ عام 2020، قد تعيد النظر في سياسة عدم التخصيب التي تتبعها.
إلى جانب المخاوف المتعلقة بالانتشار النووي، فإن انخراط روسيا في اليمن قد أدى إلى زيادة المخاوف الإقليمية. حيث تشير التقارير إلى أن موسكو لا تكتفي بتقديم الدعم الاستخباراتي والعسكري للحوثيين فحسب، بل تشارك أيضاً في تصدير الحبوب والوقود بصورة غير مشروعة من خلال أسطول سري، ما من شأنه أن يزيد من تعقيد الاستقرار الإقليمي. وأوضح الباشا أن “دور روسيا المزدوج كحليف لإيران، وداعم بشكل متزايد لفاعلين دون الدولة، مثل الحوثيين، يثير تساؤلات جوهرية حول حيادها كوسيط. وأضاف، “مع تعزيز دول الخليج لأنظمتها الدفاعية الصاروخية، وتعزيز تبادل المعلومات الاستخباراتية مع الحلفاء الغربيين، وتحديث قدراتها العسكرية، فإنها تقوم باتخاذ إجراءات احتياطية في مواجهة التحالفات العالمية المتغيرة والتزامات الولايات المتحدة غير المضمونة”.
أما السؤال الأوسع فهو ما إذا كانت دول الخليج ترى في روسيا وسيطاً محتملاً لكبح جماح طموحات إيران النووية أم أنهم يعتبرونها شريكاً متواطئاً مع التقدم النووي الذي أحرزته طهران. وإذا ما استمرت إيران في توسيع برنامجها النووي بدعم روسي، فإن البنية الأمنية الإقليمية سوف تواجه تحولات عميقة.