في 15 يوليو/تموز، أعلن رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر – الذي يعد من المؤثرين الكبار في السياسة العراقية على مدى عقود، وأتباعه يقدّرون بالملايين – أنه سيقاطع الانتخابات البرلمانية العراقية المقرر إجراؤها في أكتوبر/تشرين الأول. وتسبب قراره هذا بمشاكل كبيرة لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي وحكومته من خلال إثارة الجدل حول ما إذا كان يمكن إجراء الانتخابات من دون الصدر وتحالفه.
الصدر، الذي عُرف في الخارج باستخدام ميليشياته (جيش المهدي) لمحاربة القوات الأمريكية وقوات التحالف في العراق بعد سقوط صدام حسين، كان قد انسحب من المشاركة في الانتخابات عدة مرات في الماضي، عندما كان يعتقد أنه من الممكن أن يحقق مكاسب سياسية. وفي تقييم أكثر تساهلًا، إلى حد ما، والذي تطور مع مرور الوقت، يُنظر إلى الصدر الداهية والمتقلب بصورة كبيرة، كقوة متفردة في السياسة العراقية، قادر على تحمل المخاطر السياسية، بل والتعامل مع الحسابات العرضية الخاطئة، التي عادة ما تكون مهلكة لشخصيات أقل أهمية، ومن دون تأثير يُذكر على منصبه السياسي نظرًا للسيطرة التي يمارسها على مجموعة هائلة من أتباعه. إن إعلانه الأخير الذي قال فيه إن العراق يتعرض لـ “مخطط شيطاني دولي لإذلال الشعب وتركيعه” ما هو إلا حيلة لتأجيل الانتخابات.
بدا توقيت إعلان الصدر انتهازيًّا، حيث جاء في الوقت الذي نعى فيه العراق ما لا يقل عن 92 شخصًا لقوا حتفهم في حريق شبَّ في جناح فيروس كورونا بمستشفى في مدينة الناصرية جنوبي العراق. وألقى الرئيس العراقي برهم صالح ومسؤولون حكوميون آخرون باللائمة على الفساد الحكومي المتفشي، وسوء الإدارة والإهمال، وهو ما حاول الصدر الاستفادة منه. كتب في تغريدةٍ له قبل يومين من إعلانه الانسحاب من الانتخابات، “من الضروري أن تسعى الحكومة بشكل جاد وحازم لمعاقبة المقصرين بمسألة حرق المستشفيات سواء في الناصرية أو في غيرها من المحافظات أيًّا كان انتماؤهم”.
لا يشغل الصدر منصبًا منتخبًا بشكل رسمي، ما يتيح له فرصة العمل كشخصية معارضة بارعة. ومن خلال لعبه لهذا الدور، غالبًا ما يصرح بمعارضته للحكومة الحالية وحركة الاحتجاج المستمرة منذ أكتوبر/تشرين الأول من عام 2019، والتي يدعمها رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية. واستغل الصدر حادثة حريق المستشفى في محاولة للقول إن حركته تقدم بديلًا أفضل للحكومة، على الرغم من أن حلفاءه في كتلة “سائرون” يحتلون 54 مقعدًا من أصل 329 مقعدًا في البرلمان – وهي الكتلة الأكبر. علاوة على ذلك، فإن الموالين للصدر يحافظون على نفوذهم في عدة وزارات، وهم أقوياء، بشكل خاص في وزارتي الصحة والكهرباء. وهاتان هما المؤسستان ذاتهما اللتان يلقي العراقيون اللوم عليهما ليس فقط على حريق المستشفى فحسب، بل على انتشار جائحة فيروس كورونا الذي لا يمكن السيطرة عليه، بالإضافة إلى النقص الحاد في التيار الكهربائي خلال حرارة الصيف الشديدة.
وفقًا لتقرير صدر، مؤخرًا، عن وكالة رويترز، فإن أعضاء من تحالف “سائرون” شغلوا على مدى العامين الماضيين مناصب رفيعة المستوى، جلبت للصدريين قوة مالية ملحوظة، فالوزارات التي يتولى فيها الصدريون أو حلفاؤهم السلطة تستأثر بما يتراوح ما بين ثلث إلى نصف مشروع الموازنة العراقية البالغة 90 مليار دولار لعام 2021.
يرى العديد من الناشطين السياسيين أن أحد أهداف الصدر، بإعلانه الأخير هو صرف الغضب الشعبي، وإبعاد اللوم عن الموالين له في الوزارات المسؤولة عن الحريق، ونقص الكهرباء، وإعادة توجيه الاهتمام العام إلى الانتخابات. وهم يعتقدون أن الصدر فَقَد الدعم، بينما يعتقد هو أنه قادر على استعادة شعبيته مع مرور الوقت، إذا تم تأجيل الانتخابات. “على المدى البعيد، يمكن للحركة الصدرية أن تستفيد من تأجيل الانتخابات، وقد يكون هذا الإعلان وسيلة ضغط لتأجيلها، فالقاعدة الشعبية للصدر أصبحت أقل مما كانت عليه في الماضي، كما أن حلفاءه السنّة، وكذلك الأكراد، ليسوا في وضع جيد لو أجريت الانتخابات اليوم”، على حد قول الفضل أحمد، مدون ومحلل سياسي عراقي.
وكما أشار الفضل، قد يكون الصدر في وضع أضعف مما كان عليه قبل انتخابات 2018. في الماضي، برز كوسيط رئيسي للسلطة، لقد اعتُبِر المنتصر الأول في انتخابات 2018 بسبب فوز حلفائه في حركة “سائرون” بأكبر عدد من المقاعد البرلمانية، كما كان لاعبًا رئيسيًا في المناورات السياسية لاختيار رئيس الوزراء الجديد والمناصب الوزارية بعد إجراء الانتخابات.
ولكن في الانتخابات المقبلة، قد يقلل معارضو الصدر من قدرته على الهيمنة الكاملة على صناديق الاقتراع. أما منافساه الرئيسيان، المرشحان الميدانيان، في الانتخابات فهما الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران وحركة الاحتجاج، التي تنصل الصدر منها عام 2020، وأمر قواته بضرب بعض المتظاهرين. وعلى الرغم أنه من غير المرجح أن تحصل الأحزاب السياسية التي شكلتها القيادات الشبابية لحركة الاحتجاجات على أكثر من بضعة مقاعد في البرلمان، إلا أن معارضة الصدر للحركة أفقدته مصداقيته أمام الشارع العراقي. والقضية بالنسبة للصدر لا تكمن فقط فيما إذا كان حلفاؤه سيسيطرون على صناديق الاقتراع فحسب، بل تتعلق أيضًا بدرجة سيطرته شخصيًا على تشكيل الحكومة المقبلة، التي ستتشكل بعد الانتخابات.
قال علي البصيصي، وهو ناشط و اكاديمي صدري، إن الصدر يتعرض للهجوم من قبل أحزاب سياسية أخرى، وكان هذا أحد أسباب انسحابه من الانتخابات. وقال في مقابلة له، “كانت الضغوط الهائلة التي مارستها بعض الأحزاب في الأيام الأخيرة، وبطريقة ممنهجة، لإثارة خطاب الكراهية ضد الحركة الصدرية بمثابة سببٍ مبرر لخروج الصدر من المنافسة”.
يعتقد بعض الناشطين السياسيين أن هذا الإعلان يشكل تهديدًا قبل الانتخابات، وهو تهديد يمكن أن يصدره الصدر لتعزيز موقفه التفاوضي، في الوقت الذي يحاول فيه عقد صفقات مع الأحزاب، التي تمثل الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، والنخب السياسية الشيعية القوية التي تخوض الميدان السياسي منذ سنوات. أما التهديد الضمني فهو أنه سيلعب دور المخرب إذا تم إجراء الانتخابات من دونه. وقال زيد عبد الهادي – ناشط من حزب البيت الوطني – وهو حزب جديد شكله أعضاء حركة الاحتجاج، “قد تكون الكتل السياسية الشيعية المنافسة للصدر حريصة على تراجعه عن قراره بعدم المشاركة في الانتخابات، والسبب هو أنه لن يتم تشكيل حكومة دون الصدر. وإذا تم تشكيل حكومة، فإنه سيسقطها من خلال الاحتجاجات وأدواته السياسية التي يحميها بقوة السلاح”.
قبل عدة أشهر، ووفقًا لمصادر عراقية في بغداد، فقد ضغط الصدر على الكاظمي من أجل حل حزب سياسي شيعي علماني، كان يتألف من بعض المتظاهرين الشباب، لمنع الحزب من المنافسة في الانتخابات لاعتقاد الصدر بأنه سوف ينتقص من أهدافه.
بصفته صاحب سطوة ونفوذ منذ سنوات في العراق، من غير الواضح ما إذا كان الصدر سيمضي في تهديده بمقاطعة الانتخابات. وثمة أحزاب سياسية شيعية كبرى أخرى، بما في ذلك حزب بقيادة رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، تحثه على عدم المقاطعة. وليس من الواضح أيضًا في الوقت الحالي ما إذا كان الموالون له سيقاطعون الانتخابات بالفعل إذا ما نفذ الصدر تهديده.
أما في الوقت الراهن، فقد وضع الصدر العملية الانتخابية في حالة من الفوضى في وقت يعتمد فيه الاستقرار المستقبلي للعراق على انتخابات شرعية وشفافة. العراقيون معتادون على مناورات الصدر ويستهزئون بكل تحركاته. وقد عكس الناشط علي السنبلي هذه السخرية قائلًا، “لا نعرف ما يريده هذا الرجل، لكن ما نعرفه جيدًا هو أن لديه عشرات الآلاف من المؤيدين، ويمكنه تحريكهم كما يشاء بتغريدة واحدة لا تستغرق أكثر من 10 دقائق لكتابتها”.
ولعل الهدف الوحيد بالنسبة للصدر هو الحصول على قدر أكبر من النفوذ، أكبر من ذاك الذي يتمتع به حاليًا على الساحة السياسية، وقد يتحقق له ذلك بوضع العملية الانتخابية في حالة من الفوضى لفترة من الزمن.