تمثّل زيارة وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو إلى الرياض بالتزامن مع مرور مئة يوم على مقتل الصحفي جمال خاشقجي فرصةً لتقييم كيف أنّ الغضب الدولي بشأن عملية القتل قد بدّل المشهد الداخلي السعودي.
يُذكر أنه ما من أدلة كثيرة على مساءلة النخبة. فلم يتحمل ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في أي من الروايات السعودية المتجددة مسؤوليةَ موت خاشقجي. واستنادًا إلى تقرير النائب العام السعودي، تمّت تبرئة اثنين من كبار مساعدي ولي العهد كانا مشاركين في عملية إعادة خاشقجي إلى المملكة – لم تتم تسميتهما ولكن يبدو أنهما سعود القحطاني، وهو المستشار بالديوان الملكي للشؤون الإعلامية، واللواء أحمد العسيري، وهو نائب رئيس الاستخبارات العامة السعودية – من جرم التخطيط لعملية قتل خاشقجي، ويبدو أنهما أفلتا من الملاحقة القانونية.
ومن دون ضغوطات أكبر من إدارة الرئيس دونالد ترامب، من المستبعد أن يتغير هذا الواقع. فيُعتبر ضمّ القحطاني إلى لائحة الـ17 سعودي الخاضعين لعقوبات وزارة الخزانة الأمريكية نقطةَ خلاف بين البلدين ووسيلةً محتملة لرفض مجموعة من الإجراءات المرتبطة بالقحطاني باعتباره أحد أهم المؤتمنين على أسرار ولي العهد ومنفذي أوامره. ومن بين هذه الإجراءات كان اعتقال نقاد ورجال أعمال وأخصام ملكيين بارزين، وفي بعض الأحيان إساءة معاملتهم، إضافةً إلى إرغام رئيس الوزراء اللبناني على تقديم استقالته. وبالتالي، يُعتبر مصيره مقياسًا لتقييم الطلبات الدولية ومقاومة السعودية لها.
مع ذلك، وبعيدًا عن المسؤولية القانونية المحدودة، يقرّ البعض ضمن المؤسسات السعودية ثمن قضية خاشقجي على مكانة السعودية على الصعيد الدولي، كما يدركون على نحو متزايد المخاطر التي تستمر القيادة في مواجهتها في ظل تشكيلة السلطة الراهنة. ويتجلى ذلك في تقارير عن أفراد من العائلة المالكة السعودية يتشاورون مع الملك خلف الكواليس. ويمكن لمس آثار استجابة ما من خلال إشراك المخضرمين في الديوان في عملية التعديل الوزاري الأخيرة وفي مجموعة من المراسيم الملكية التي تعيد تنظيم الوكالات الاستخبارية والديوان الملكي نفسه. ويشير ذلك إلى مسعى، طارئ وموضع نزاع حتمًا، يرمي إلى مأسسة المشهد الوطني الجديد وإعادة توزيع الأدوار ضمن نظام ملكي أكثر مركزية. ولكن في نهاية المطاف، إن احتكار محمد بن سلمان الكامل للسلطة تقريبا يعيق أي جهود لاحتواء اندفاعه الأكثر إثارةً للقلق.
الاحتكار الملكي في عهد الملك سلمان
تركزت أول سنتين من حكم الملك سلمان بن عبدالعزيز على ضمان خط الخلافة لابنه. وبحلول عام 2017، كان فرع آل سلمان في العائلة المالكة قد همّش الأخصام الملكيين من خلال الترهيب وإعادة تنظيم الحكومة، مطيحًا بالمعايير القائمة للأقدمية وتشارك السلطة. وقد أقدم محمد بن سلمان، من خلال والده، على استبدال أفراد العائلة المالكة الكبار في السن بآخرين يافعين ممتنين له وعلى تعيين تكنوقراطيين وتمكين مجموعة صغيرة من المستشارين من خارج العائلة المالكة، والعديد من بينهم هم أصدقاء الطفولة، ليكونوا روادًا في هذا البرنامج القومي ومنفذين لحكمه. وتتبلور هذه العملية في إعادة هيكلة جهاز الاستخبارات السعودي والديوان الملكي نفسه.
وفي ظل حكم الملك عبدالله بن عبد العزيز، كانت سلطة الاستخبارات منوّطة بشكل رئيسي بأميرين. فانطلاقًا من وزارة الداخلية، أشرف محمد بن نايف على كل من الاستخبارات المحلية ومكافحة الإرهاب. أما جهاز الاستخبارات السعودي، المعروف رسميًا باسم “رئاسة الاستخبارات العامة”، فخضع ما بعد “الربيع العربي” لإمرة بندر بن سلطان. وفي السنة الأخيرة من حكم الملك عبدالله، تولى خالد بن بندر الإشراف على هذا الجهاز. كما شغل بندر بن سلطان لفترة طويلة منصب رئيس “مجلس الأمن الوطني” السعودي الذي أسسه الملك عبدالله عام 2005. وكان محمد بن نايف نائب رئيس هذه الهيئة النخبوية التي تهتم بصنع القرارات والموكلة بتنسيق الأمن الوطني والاستخبارات والسياسة الخارجية.
وعند استلامه العرش في كانون الثاني/يناير 2015، عمد الملك سلمان فورًا إلى حلّ “مجلس الأمن الوطني” السعودي مستبدلًا إياه بكيان جديد هو “مجلس الشؤون السياسية والأمنية”. وقد عكس ذلك إلغاء العديد من الكيانات التي تتولى اتخاذ القرارات السياسية والتي تمّ دمجها ضمن “مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية”، ما جعل الشؤون الأمنية والاقتصادية محصورةً بهذين المجلسين بالفعل. وكانت تركيبة الوزراء هي نفسها في المجلسين، باستثناء الأمير بندر، ربما بسبب فشله في تنظيم المتمردين السوريين. وفي الوقت نفسه، تمّ استبدال خلفه الذي كان يرأس “رئاسة الاستخبارات العامة” بضابط عسكري من خارج العائلة المالكة.
وفي حين تولى محمد بن نايف في البداية قيادة “مجلس الشؤون السياسية والأمنية”، خلفه لاحقًا محمد بن سلمان الذي حلّ محله كولي للعهد في حزيران/يونيو 2017، فأصبح بالتالي ولي العهد الشاب مسؤولًا عن المجلسين الاقتصادي والأمني. وفي العام نفسه، تمّ نقل صلاحيات مكافحة الإرهاب والاستخبارات المحلية الخاصة بوزارة الداخلية إلى “رئاسة أمن دولة” جديدة يقع مقرها ضمن الديوان الملكي وتخضع لإشراف الملك. وقد تولى رئاستها أحد عامة الشعب، وهو فريق أول وأحد أتباع محمد بن نايف السابقين يُعرف أنه مسؤول ارتباط موثوق في شؤون مكافحة الإرهاب بين السعودية والولايات المتحدة. وبعد فترة قصيرة، أوكل الملك سلمان المَحافِظ الاستخبارية إما إلى وريثه وإما إلى أفراد من خارج العائلة المالكة لا يطرحون أي تحدٍ سياسي.
وعلى نحو مماثل، أصبح تنظيم الديوان الملكي مركزيًا. وإذ أُنشئ في عهد الملك عبدالله، تم إلغاء ديوان مجلس الوزراء وضمّ صلاحيته إلى الديوان الملكي الذي كان يخضع في ذلك الوقت لقيادة مستشار الملك عبدالله النافذ خالد التويجري. وحين استلم الملك سلمان السلطة، ألغى كذلك ديوان ولي العهد، محجّمًا محمد بن نايف وتاركًا ديوانًا مركزيًا واحدًا خاضعًا لسلطة محمد بن سلمان. وتحت كنف الديوان الملكي برز العديد من مبادرات ولي العهد، على غرار وحدتيْ الإعلام والأمن السيبراني اللتين يشرف عليهما القحطاني، كما تمّت إدارة أجهزة الاستخبارات.
هل تتم مأسسة الأمن الوطني؟
أسفر توطيد السلطة ضمن العائلة المالكة من قبل فرع آل سلمان في الوقت نفسه عن مركزة الأمن والاستخبارات. وعلى الرغم من أن تيسير صنع القرارات هذا بدأ في عهد الملك عبدالله، تسارع بشكل كبير في عهد الملك سلمان إلى درجة أنه يمكن الآن وصف السعودية، وهي دولة لطالما تقاسمها أفراد نافذون من العائلة المالكة وسيطرتهم على أجهزة الأمن المنافسة، بأنها تشكّل وكالات أمن وطنية. لكن حتى الآن، افتقرت هذه الكيانات إلى المأسسة وتمّ دمجها بديوان ملكي بات أكثر نفوذًا.
وتتجلى نتائج هذا الواقع التي قد تكون سلبيةً، لا سيما في ظل حكم قائد يفتقر إلى الخبرة ويتوق إلى فرض سلطته محليًا كما في الخارج، في الأمثلة المتعددة التي يذكرها الحلفاء القلقون، ألا وهي: خطف رئيس الوزراء اللبناني واحتجاز أفراد منافسين من العائلة المالكة ورجال أعمال بارزين، وكذلك حبس ناشطات مدافعات عن حقوق المرأة وما يتردد عن تعرضهن للتعذيب إضافةً إلى عملية قتل خاشقجي الوحشية. ويبدو أن الحاجة إلى معالجة النقص في القيود المؤسسية وكذلك إلى إظهار درجة من المساءلة أمام الشركاء الدوليين، تؤدي إلى إدخال بعض التغييرات.
ومن بين أولى الاستجابات السعودية للضغوطات الدولية بشأن فضيحة خاشقجي كان تشكيل لجنة وزارية من أجل إعادة هيكلة وكالة الاستخبارات السعودية. ومثّل تعيين محمد بن سلمان لترؤّس هذه اللجنة مؤشًرا مبكرًا على أن السعودية لن تسمح لقضية خاشقجي أن تهدد سلطتها الفعلية. ولكن إلى جانب محمد بن سلمان، ضمّت اللجنة المؤلفة من خمسة أشخاص موظفين متمرسين مرتبطين بشكل وثيق بالديوان وبالملك شخصيًا. وفي وقت لاحق، تمّ منح اثنين منهم، وهما مساعد العيبان وابراهيم العساف، المنصبين الرئيسيين في مجاليْ الأمن والسياسة الخارجية في الحكومة الجديدة التي أُعلن عنها في أواخر كانون الأول/ديسمبر 2018.
وتم تعيين العيبان مستشارًا للأمن الوطني، وهو منصب كان مخصصًا في السابق لسفير السعودية الحالي في الولايات المتحدة والشقيق الأصغر لولي العهد، خالد بن سلمان. وشغل العيبان منصب وزير دولة منذ عام 1992، حيث كان وسيطًا رئيسيًا في أوساط صناع قرارات الأمن في الديوان الملكي ومع القوى الخارجية منذ عهد الملك فهد بن عبد العزيز. وحُكي عن تدخلاته في مسألة اليمن وفي المواجهة مع قطر عام 2014. وإن إعادة إحياء منصب مستشار الأمن الوطني مثيرة للفضول نظرًا إلى إلغاء “مجلس الأمن الوطني” السعودي في عام 2015 لصالح “مجلس الشؤون السياسية والأمنية”. فقد دعا مرسوم ملكي صدر في نيسان/أبريل 2017 إلى إنشاء “مركز الأمن الوطني” الذي يخضع لإمرة الملك وسوف يرأس العيبان الآن هذه المؤسسة الجديدة ويشرف على موظفيها. غير أن علاقته مع “مجلس الشؤون السياسية والأمنية” – ورئيسه محمد بن سلمان – تبقى غير واضحة.
أما العساف، فقد تمّ تعيينه وزيرًا للخارجية، في مهمة مفاجئة لمن شغل لفترة طويلة منصب وزير المال. لكنه على غرار العيبان، وزير دولة متمرس يُقال إنه يحظى بثقة الملك رغم احتجازه لفترة قصيرة خلال عملية التطهير لمكافحة الفساد التي تمّ اللجوء إليها من أجل تخويف رجال أعمال بارزين ووزراء ومنافسين من أفراد العائلة المالكة في تشرين الثاني/نوفمبر 2017. وتمامًا كما سيتمّ توكيل العيبان بإضفاء الطابع الاحترافي على جهازيْ الاستخبارات والأمن، سيركز العساف عمله على إعادة هيكلة وزارة الخارجية والدبلوماسية السعودية. وعلى نحو مماثل، من شأن منصبه كأبرز مبعوث أجنبي للمملكة أن يعزّز الثقة بالاقتصاد السعودي، إذ إن فترة الحماسة الأولى بشأن برنامج الإصلاح “الرؤية 2030” قد طغى عليها القلق المتزايد في مجتمع الأعمال السعودي والشكوك التي تعتري المستثمرين الدوليين. وتُبرز التدفقات الخارجة المتواصلة لرؤوس الأموال رغم انتعاش أسعار النفط هذا الخطر بوضوح، ويجسده شريط فيديو عالي الانتشار يحثّ فيه الأمير السعودي خالد بن فيصل رجال الأعمال السعوديين على استثمار أموالهم في البلاد.
وربما يكون مرسوم ملكي ترافق مع التعديل الوزاري قد عزّز مهمة بناء المؤسسات على يد العيبان والعساف. ويدعو المرسوم إلى إعادة إنشاء ديوان رئاسة مجلس الوزراء، ما يقيم أقلّه من حيث المفهوم مساحةً تنظيميةً بين عمل الحكومة والمداورات الداخلية لعائلة آل سعود الحاكمة. ونظرًا إلى منصب الأمير محمد بن سلمان كرئيس الديوان الملكي، قد يكون ذلك مؤشرًا إضافيًا على المساعي المبدئية للسماح ببعض عمليات المراقبة لحكمه.
هل يمكن “ترشيد” دولة سعودية في ظل حكم محمد بن سلمان؟
تُظهر الخطوات التي اتخذتها القيادة السعودية، المتجلية في التغيير الحكومي الأخير والمراسيم الملكية، وقفةً في مركزة الصلاحيات القائمة على توطيد السلطة الذي جعل محمد بن سلمان الحاكم الفعلي على رأس دولة أكثر قومية. وقد وفرت التعثرات في ظل سلطة هذا الحاكم الشاب، وأهمها مقتل خاشقجي، دوافع جديدة لإضفاء الطابع المؤسسي والاحترافي على هذه الكيانات الوطنية الجديدة.
مع ذلك، تبقى بعض علامات الاستفهام المهمة قائمة. فحتى هذه التغييرات المحدودة تشكل محطّ نزاع. فقد انضم تكنوقراطيون إلى مجلس وزراء زاخر بحلفاء شباب لمحمد بن سلمان كما يُقال، حتى إن القحطاني الخاضع لعقوبات دولية سيستمر في الحضور إلى الديوان الملكي. وفي حين تمّ استبدال وحدته الإعلامية على ما يبدو بمركز جديد للتواصل والدراسات الإعلامية، يتواصل إشراك وسائل الإعلام السعودية التي تمتلك حسًّا جامحًا بالقومية والهجمات على الأخصام المحليين والأجانب، بما في ذلك التشهير المتزايد بسمعة خاشقجي، على أشدّه. وربما يتمكن التكنوقراطيون من المساهمة في بناء مؤسسات أكثر احترافيةً، لكن كونهم من خارج العائلة المالكة، يبقى موقفهم وإصلاحاتهم رهن بنزوات الحاكم وتخضع لها. وفي ظل تقليص دور كبار أفراد العائلة المالكة واعتماد الولايات المتحدة المتزايد على المملكة في مجال السياسات الإقليمية – مع تركيز أكبر على تقاسم الأعباء وأقل على حقوق الإنسان – باتت عمليات المراقبة على حاكم سعودي جريء محدودة.