يندرج هذا المقال ضمن سلسلة من المقالات الصادرة عن معهد دول الخليج العربية في واشنطن حول رؤية السعودية 2030، وهي مجموعة شاملة من البرامج والإصلاحات التي اعتمدتها الحكومة السعودية بنيّة تنفيذها بحلول العام 2030.
صادف في 25 نيسان/أبريل مرور سنة كاملة على إطلاق الحكومة السعودية برنامج اصلاحاتها الحكومية الطموح، أي “رؤية السعودية 2030”. وكان الملك سلمان بن عبد العزيز قد عرض قبل أيام قليلة نوعًا من التصحيح لمسار المملكة تضمّن عددا كبيرا من القرارات المنذرة بتحوّل في السياسات وبموجة تغييرات في التعيينات الحكومية. والواقع أن هذه التغيرات ترسم خارطة المسار الشاق الذي تسلكه القيادة السعودية في زمنٍ تراجعت فيه أسعار النفط وطالت فيه الحملة العسكرية في اليمن وفي خلال مرحلة مصيرية تنتقل فيها السلطة من جيل إلى آخر. وإن كان هذا التغيير في الأفراد يجسد إدراكًا صريحًا للحاجة إلى قيادات جديدة في الملف اليمني، فهو يشكل كذلك بادرةً على قيام قاعدة جديدة من الدعم السياسي في صفوف العائلة الملكية من الشباب، وذلك فيما تعكس التغيرات في السياسات تنبّهًا مفاجئًا إلى الرأي العام السعودي الذي بات صوته مسموعًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
العودة عن سياسة التقشف
لم تُطلق رؤية السعودية 2030 خلال نيسان/أبريل 2016 بشكلٍ تقليدي، بل جاءت بهيئة مقابلة جلس فيها ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان قبالة محاوره التلفزيوني وشجّعه هو والجمهور السعودي المشكك على تقبّل فكرة أن عصر الاتكال على النفط قد ولّى. فالشعب لم يدرك حقيقةً الواقع التقشفي الجديد إلا في أيلول/سبتمبر 2016 حين أعلنت الحكومة إلغاء بدلات ومكافآت القطاع العام بالكامل. ويشار هنا إلى أن بدل العمل الإضافي والسفر وغيرها من المخصصات تشكل جزءًا كبيرًا من إجمالي رواتب موظفي القطاع العام السعودي في بعض القطاعات المهنية على غرار التعليم. وجاءت تخفيضات الأجور هذه في أعقاب تخفيضات في إعانات الطاقة والمياه خلال شهر كانون الثاني/يناير 2016، الأمر الذي أسفر عن ارتفاع أسعار الغاز والخدمات.
فأثارت هذه التدابير التقشفية رد فعلٍ فوري من الرأي العام السعودي الذي لم يتوانَ عن التعبير عن استيائه عبر وسائل التواصل الاجتماعي وخصوصًا تطبيقات المراسلة كخدمة “واتساب”. وإذ صادف وجودي في زيارةٍ إلى المملكة حينذاك، لاحظت تبدلاً في غاية السلبية في المواقف، ذلك أن الكثير من السعوديين وقعوا في ضائقة مادية، فتضاءلت بوضوح الحماسة إزاء برنامج رؤية السعودية 2030 الذي أطلقه ولي ولي العهد. ولم يمضِ شهرٌ حتى أخرجت الحكومة ثلاثةً من وزرائها للدفاع عن إجراءاتها التقشفية عبر منبر أحد البرامج الحوارية الشعبية في المملكة. بيد أنّ مداخلاتهم هذه التي اشتملت من جملة ما اشتملته على التحقير والاستهزاء بالأخلاقيات المهنية لموظفي الدولة، شوهدت من قبل جمهور كبير من المواطنين، نتج عنها إقالة وزير المالية المتمرس إبراهيم عساف بنهاية تشرين الأول/أكتوبر 2016. ومنذ فترة وجيزة هدد السعوديون عبر وسائل التواصل الاجتماعي بالخروج إلى الشارع في أربع مدن رئيسية.
بيد أنّ الملك سلمان أعاد بدلات ومكافآت موظفي الدولة في 22 نيسان/أبريل. ومع أنّ الحكومة صرّحت أنّ ارتفاع الإيرادات هو ما سمح بهذه الخطوة، يبقى من الواضح أنها مجرد مجهود جلي لمنع الاستياء الشعبي من بلوغ درجة الغليان وللتخلص من مصدر الخيبة المتنامي في عهد الملك سلمان وتولي نجله دفة قيادة الاقتصاد. علاوةً على ذلك، قوبلت العودة عن إلغاء بدلات القطاع العام بإقالة وزير الخدمة المدنية خالد العرج ومقاضاته بعد استهدافه بحملة إعلامية على وسائل التواصل الاجتماعي عقب تعيين ابنه غير المؤهل في وظيفة رفيعة المستوى داخل وزارة الشؤون البلدية والقروية. والجدير بالذكر أنّ كلتا الخطوتين تنمّان عن اهتمام صادق بالرأي العام الذي بات على ما يبدو يضع حدودًا للتدابير الحكومية الرامية إلى الحد من التكاليف، كما وعن جهد جديد – وإن كان ناقصًا ومتفرقًا – لضبط أي أعمال حكومية محظورة.
قيادات جديدة للحملة في اليمن
لم تفتأ البيئة الإقليمية المضطربة تصعّب درب الإصلاحات الحكومية الجوهرية التي نصت عليها “الرؤية 2030″، شأنها شأن قرار السعودية بالتدخل في نزاعات إقليمية ولا سيما اليمن. بيد أنّ التدخل في اليمن لقي ترحيبًا شعبيًا في البداية حيث كان الشعب مستاءً من وقوف الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز مكتوف الأيدي إزاء ما اعتُبر نزعةً تدخلية من إيران وخصوصًا في سوريا. وأبدى الشعب، ولا سيما الشريحة المرتبطة بالتيارات الدينية، شيئًا من الحماسة تجاه “حزم” “عملية عاصفة الحزم” ليصبح في ما بعد رمزًا وشعارًا لحكم الملك سلمان الجديد.
إلّا أنّ هذا الدعم الشعبي ازداد ترددًا مع استمرار الحرب وارتفاع تكلفتها، حتى شملت دلالات الاستياء الشعبي تسليط الضوء على محنة الجنود من ذوي الرتب الدنيا المنتشرين على جبهات القتال الأمامية بعد توثيقها على وسائل التواصل الاجتماعي. فاستُثنى الجنود الذين يحاربون في اليمن من التخفيضات التي لحقت بمخصصات القطاع الخاص عام 2016، لا بل مُنحوا مكافأة تعادل راتب شهرين بموجب الأوامر الملكية الأخيرة.
بالإضافة إلى ذلك، تضمّن تصحيح المسار السعودي تغيرًا ملحوظًا في الطاقم المكلف بملف اليمن، إذ تم استبدال قائد الجيش الفريق الركن عيد الشلوي بأحد أفراد العائلة الملكية وهو القائد السابق للقوات الخاصة الأمير فهد بن تركي. وباعتباره القائد الجديد للقوات البرية الملكية السعودية، سيتولى الأمير تركي المهام الرئيسية في الدفاع عن حدود السعودية الجنوبية وحمايتها من توغل المقاتلين اليمنيين.
تسارع انتقال السلطة إلى الجيل الجديد
لا تنحصر الغاية من تغيير أصحاب المناصب بحشد الدعم الشعبي “لرؤية السعودية “2030 وحربها في اليمن، بل تتخطاها لتشمل اعتبارًا دائم الأهمية، وهو الدعم الملكي للتحالف الحاكم. وإنّ الملفت في هذا السياق هو تعيين مجموعة كبيرة من الأمراء الشباب الجدد نوابًا لأمراء المناطق، وبالفعل يعتبر هذا المنحى من الأوامر الملكية أحد أكثر النقاط التي تداولها المعلّقون السعوديون، حيث هلّل هؤلاء لهذا التجديد في القيادة الشابة في المناطق السعودية باعتباره التغيير الأبرز.
وعلى اعتبار أن المعلومات المسرّبة عن استياء أمراء الجيل الثالث من احتكار محمد بن سلمان للسلطة صحيحة، يفترض بهذا الأمر أن يسهم نوعًا ما في توسيع قاعدة الدعم هذه. فهو يسرّع في الوقت نفسه إسناد مسؤوليات أكبر لمجموعة أكثر تنوعًا من الأمراء الشباب.
وفي الوقت عينه، تشير التغيرات الأخرى إلى ارتفاع درجة المركزية في المناصب القيادية والهيئات الرئيسية لصنع القرار لتنحصر في يد الملك سلمان ونسله المباشر. وأبرز أمر ملحوظ هنا هو تشكيل مكتب جديد للأمن القومي يخضع لأمرة أحد أفراد البلاط الملكي. ومع أنّ هيكلية هذه الجهة الجديدة ومسؤولياتها لم تتضح بعد، يبدو أنها مخولة التعدي على صلاحيات مجلس الشؤون السياسية والأمنية الذي يرأسه ولي العهد ووزير الداخلية الأمر محمد بن نايف، مع العلم أنّ الأمير محمد بن سلمان يرأس كلاً من مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية والمجلس الأعلى لأرامكو السعودية.
وتجدر الإشارة إلى تعيين اثنين من أبناء الملك سلمان في منصبين أساسيين هما وزير الدولة لشؤون الطاقة وسفير المملكة إلى الولايات المتحدة في استكمالٍ لحملة تمكين شبّان العائلة الملكية، مع العلم أنّ السفير السعودي الجديد إلى واشنطن الأمير خالد بن سلمان هو طيار مقاتلات سابق وهو الأخ الشقيق لولي ولي العهد.
تعزيزات سياسية وغموض اقتصادي؟
إذا نظرنا إلى مجمل الأوامر الصادرة عن الملك سلمان، يبدو لنا أنها تمثل مساعٍ لحشد الدعم الشعبي والسياسي لحكمه حتى على حساب التدابير التقشفية الموهنة، كما أنها تمثل استكمالاً للانتقال الملحوظ للمسؤولية إلى التكنوقراطيين الشباب والجيل الثالث من الأمراء السعوديين ولو كانت السلطة العليا محصورةً في يد الملك سلمان ونسله المباشر. إلّا أنّ السؤال الأكبر يبقى بلا جواب: هل ستتمكّن الإصلاحات المدرجة في “الرؤية 2030” من ضمان مستقبل اقتصادي صالح للجيل المقبل؟ وهل يشكل هذا التصحيح في المسار تعديلاً فطنًا هدفه كسب الدعم خلال الدرب الوعر الذي ينتظر المملكة أم أنه ينمّ عن شعور بالخوف في حملة قاسية من التقشف الضروري؟ سوف تجد المملكة صعوبة – وهي في طور العملية الانتقالية – في إرساء التوازن ما بين واقعين مزدوجين يتراوحان ما بين رأي عام سعودي أكثر انخراطًا وسوق نفط أقل مرونة.
كريستين سميث ديوان هي باحثة مقيمة أولى في معهد دول الخليج العربية في واشنطن.