ادعم منشورات معهد دول الخليج العربية في واشنطن باللغة العربية
تبرع اليوم لمساعدة المعهد في توسيع نطاق تحليلاته المنشورة باللغة العربية.
تبرع
يمكن وصف عمليات اعتقال أحد عشر أميرًا وعدد كبير من رجال الأعمال والشخصيات السياسية البارزة في المملكة العربية السعودية هذا الأسبوع بالهجوم المباشر على نظام العمل القائم بين النخب السعودية. فقد تم اتهام الأمراء والسياسيين والتجار الذين علقوا في الشباك بالفساد. وبالطبع، إن اتهامات الفساد ليست بأخبارٍ جديدة على السعوديين، إذ يبدو أن كل من في المملكة يعرف أنه في بعض القطاعات المهمة، مثل الشؤون الأمنية والعسكرية، كان يعتبر تحويل عقود العمل إلى الشركات التي يسيطر عليها بشكل مباشر أو غير مباشر أعضاء من العائلة الملكية الذين يجنون منها أرباحًا طائلة، ممارسةً تجاريةً عادية. وقد استندت إقامة التوافق الشهيرة بين كبار الأمراء، التي عُرف بها الكثير من الملوك السابقين وكانوا موضع إعجابًا غالبًا بسببها، على أساس أنه يمكن مشاركة أرباح النفط بين العشائر الملكية المختلفة مقابل ولائهم للقائد.
وقد حقق هذا النظام نجاحًا كبيرًا على مدى سنوات طويلة، ما حقق استقرارًا في المستويات العليا من القيادة. إلا أن جيلًا جديدًا وأصغر سنًا قد تولى مقاليد السلطة في المملكة العربية السعودية. فيحظى ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي يبلغ من العمر 32 عامًا، بدعم كبير من الشباب السعوديين، وهم كتلة كبيرة في بلد يكون فيه 70 في المئة من السكان ما دون سن الثلاثين. وعلى ضوء غياب فرص العمل المهمة للجيل الناشئ السعودي وتراجع احتياطيات المملكة العربية السعودية النقدية بشكل سريع، لم يعد من المقبول أن يقود عدد قليل من الأشخاص الذين يتمتعون بامتيازات والذين يرون أنفسهم فوق القانون الأعمال كالعادة. ولذلك، أشعل الأمير محمد بن سلمان في الواقع ثورةً ثقافيةً لتركيز السلطة بين يديه وذلك من خلال الدعم الكبير الذي يحظى به بين الشباب، فضلًا عن دعم والده الملك سلمان بن عبد العزيز. ويبدو ذلك وكأنه عودة إلى عهد الملك عبد العزيز آل سعود، عندما كان يسيطر على البلاد زعيم واحد غير متنازع عليه. وفي ذلك الوقت أيضًا، كان الاقتصاد يزدهر بسبب الدخل الكبير الذي يولده إنتاج النفط، ولكن لم يكن هناك هيكل تجاري وبيروقراطي راسخ. كما كان الاقتصاد متاحا إلى الموهوبين والمثقفين الذين يمكنهم أن يحققوا نجاحًا بصرف النظر عن أصلهم أو لقبهم.
ومنذ وفاة الملك عبد العزيز، تم اختيار خليفته بالإجماع بين العشائر الملكية الكبرى. وقد تم بناء هذا الإجماع والحفاظ عليه عبر تسويات تبادل المنفعة. فباختصار، كانت تلك العشائر على استعداد للقبول بمكانها في الخلافة شرط أن تكون مسؤولة عن واحدة من أصل ثلاث قوات عسكرية تتمتع بالقدر نفسه من القوة، ألا وهي “حرس الحدود” و”الحرس الوطني السعودي”، وقوات وزارة الدفاع (الجيش والقوات الجوية والقوات البحرية). وقد تم عزل العشائر الرئيسية الثلاث، وهي كل من عشيرة نايف وعبد الله وسلطان على التوالي التي كانت تسيطر على تلك المجموعات، من مواقع القيادة. والأهم من ذلك أنها مُنعت من الحصول على التدفقات النقدية التي مثلتها تلك المؤسسات. كما جنت عشائر ملكية أخرى أموالًا طائلة من الصفقات التجارية محليًا وعالميًا باستخدام رأس المال الذي لا يمكن أن يأتي مصدره من رواتبهم كوزراء أو موظفين حكوميين، بل على الأرجح من صفقات عقارية مشكوك بها أو من عقود عسكرية مضخمة. ويبدو أنه تم عزل تلك العشائر أيضًا، ولا سيما عشيرة فهد مع اعتقال المستثمر العالمي الأمير الوليد بن طلال وعبد العزيز بن فهد ووليد آل إبراهيم. ويبدو من التقارير المختلفة التي صدرت عن المملكة أن تحركاتها لمكافحة الفساد قد حظيت بدعم واسع من الشعب.
ويأتي الهجوم على سير الأمور على النحو المعتاد في إطار حملة الأمير محمد بن سلمان وأتباعه لإعادة تشكيل المجتمع السعودي بالكامل. وقد تم تصميم “الرؤية 2030″، و”برنامج التحول الوطني”، و”مبادرة مستقبل الاستثمار” التي أُطلقت حديثًا للحد من اعتماد المملكة على النفط كمصدر رئيسي للدخل، ولخلق اقتصاد ومجتمع ديناميكيين ومتنوعين. ويعني هذا التغيير أنه مع انخفاض معدل الدخل الناتج عن النفط، سيتعين إعادة تعبئة خزائن الدولة عبر الضرائب أو الرسوم أو الأرباح الناتجة عن أنشطة المملكة الجديدة. وبعبارة أخرى، بدلًا من أن يعتمد الناس على الدولة لتؤمن لهم الوظائف وجميع أشكال الدعم، ستعتمد الدولة الآن على الشعب. لذلك، ينبغي أن يثبت الأمير محمد بن سلمان أنه لن يتسامح مع المجموعات الداخلية المستفيدة التي تتمتع بامتيازات في حين أن غالبية السعوديين يدفعون الفواتير، كما يجب أن يظهر أن الأسرة الملكية بأكملها تعمل بجهد، وأن لا أحد فوق القانون، وأن الفساد واستغلال النفوذ وصفقات المحاباة لم تعد مقبولة.
وقد منعت الطريقة القديمة للقيام بالأعمال رواد الأعمال الأصغر سنًا من المال والفرص. وبالتالي، قد يفسح الهجوم الحالي الهائل على النظام الاجتماعي والاقتصادي المجال أمام الجيل الأصغر سنًا.
وإنّ هذه “الثورة الثقافية” ما هي إلا البداية، إذ ستطرأ المزيد من التغييرات الأخرى. فقد تحصل اعتقالات عديدة أخرى، وهناك جهود تبذلها لجنة الفساد الجديدة لحث هؤلاء الذين ألقي القبض عليهم على التخلي عن بعض الأرباح التي حققوها في السابق. غير أن التغييرات قد تصل إلى أبعد من ذلك بكثير، وذلك كجزء من محاولة جعل النموذج الاجتماعي والاقتصادي في المملكة أكثر ديناميكية.
فمن ناحية العمل، إن المصدر الرئيسي لبطالة الشباب والإحباط في المملكة هو قدرة القطاع الخاص على استيراد عمالة منخفضة التكلفة وكفؤة ومتطورة. وبالفعل، لِمَ يتنافس الشباب السعوديون على وظائف برواتب تساوي خُمس المبلغ الذي يحتاجونه لتأسيس عائلة؟ وسيحدث تغيير هيكلي كبير في الاقتصاد إذا وعندما يتم إلغاء أنواعًا كثيرة من تأشيرات العمل في قطاعات مختلفة في الاقتصاد. وفي ظل غياب اليد العاملة الرخيصة، ستؤدي المنافسة للرجال والنساء السعوديين إلى رفع الرواتب إلى مستويات تتناسب مع النفقات المعيشية في المملكة. ومن شأن مراجعة ممارسة الأعمال التقليدية هذه أن تحدث تغييرًا في المجتمع. ومع ذلك، وبالرغم من أن الشباب سينعمون بفوائد بما في ذلك رفع الأجور ربما، لن يوافق الجميع على هذا التغيير، إذ سيؤدي الاعتماد الأقل على العمال الأجانب إلى زيادات هائلة في تكاليف الخدمات والسلع المنتجة محليًا فضلًا عن الانخفاض في جودة الخدمات العالية الحالية، وذلك إلى حين تدريب السعوديين بشكل كامل واكتسابهم الخبرة الكافية.
ومن الناحية العسكرية، من المحتمل أن تتم إعادة هيكلة هيكل القيادة في قوات الأمن الداخلية والخارجية، بحيث سيتم تعيين قائد واحد على جميع القوات مع التركيز على الكفاءة عوضًا عن اختياره بالإجماع. وهناك بالفعل بعض الأمثلة على إضفاء هذا الطابع المهني على المجال العسكري: فلم يعد رئيس قوات وزارة الدفاع أميرًا بل أصبح غير ملكي. بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن الوفود العسكرية إلى الولايات المتحدة تتضمن عدد هائل من غير الملكيين بين الضباط برتبة فريق أول. كما قد يخسر عدد كبير من الأمراء مراكزهم أو قد لا يحصلون على الترقية لكي يتم ترقية غير ملكيين يؤدون الوظائف بمستوى أعلى. ومن المحتمل أن تتم إعادة هيكلة سياسات الشراء لجعل العقود أكثر تنافسيةً وشفافيةً وأقل عرضةً للفساد.
ومن الناحية الملكية والمؤسسة الدينية، لا يزال الأمير محمد بن سلمان والملك يستمدان شرعيتهما من العائلة الملكية وحلفائها الدينيين، على الرغم من حملتهما ضد عدد كبير من العشائر الملكية. ويمكن أن ينشأ الملك مجلسًا سعوديا مماثلًا لـ”مجلس اللوردات البريطاني” مع مجلس الشورى القائم بغية منح الصوت والشفافية لمصالح العائلة. فيمكن استخدام هيئة مماثلة لتعميم حكمة العائلة الملكية وحلفائها حول شؤون المملكة، ولكن بانفتاح وشفافية.
وإن التحديات، التي يواجهها الأمير محمد بن سلمان وجيل القادة الناشئ في المملكة فيما يحاولون إدارة تطلعات الشباب الطموح والكبير هائلةً، ولا سيما في سياق التوترات المتزايدة مع إيران، خصم المملكة الإقليمي، ووكلائها. وبالتالي، يتعين على محمد بن سلمان العمل بجد لمواجهة هذه التحديات. ولكن إذا لم تواجهها المملكة الآن، قد تؤدي إلى عدم استقرار يصعب السيطرة عليه في المستقبل غير البعيد.
جان فرانسوا سيزنيك أستاذ مساعد في كلية الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جونز هوبكينز.