اُختتمت في جدة بالمملكة العربية السعودية قمة بشأن أوكرانيا في السادس من أغسطس/آب، وكما هو متوقع، دون تحقيق إنجازات دبلوماسية ذات مغزى. حضرت أكثر من 40 دولة، من أبرزها الصين، بالإضافة إلى الهند وجنوب أفريقيا والبرازيل – وجميعها أعضاء في مجموعة البريكس (BRICS) ذات النفوذ. ولم تتم دعوة روسيا التي هي أيضًا عضو في البريكس. أرسلت الولايات المتحدة وفدًا رفيع المستوى برئاسة مستشار الأمن القومي جيك سوليفان (Jake Sullivan). ويذكر أن أوكرانيا، التي أصدرت دعوات القمة بالاشتراك مع السعودية، قد ركزت على الحصول على تمثيل قوي من دول الجنوب، أو الدول النامية، التي احتفظ الكثير منها بموقف الحياد تجاه الصراع. ويأتي اجتماع جدة عقب المحادثات التي نظمتها أوكرانيا في كوبنهاجن في يونيو/حزيران والتي لم تحضرها الصين.
في الفترة التي سبقت اجتماع جدة، أعلنت أوكرانيا أن القمة ستركز على صيغة كييف للتسوية ذات العشر نقاط، والتي اقترحها في الأصل الرئيس فولوديمير زيلينسكي (Volodymyr Zelensky) في ديسمبر/كانون الأول عام 2022. وتتضمن هذه المبادئ احترام وحدة الأراضي، وانسحاب القوات الروسية من الأراضي الأوكرانية التي ضمتها أو احتلها. كما تتضمن المبادئ ضمانات بشأن الأمن الغذائي وأمن الطاقة بالإضافة إلى السلامة النووية.
تم اختتام القمة دون بيان ختامي. وذكرت تقارير إخبارية، نقلاً عن مصادر مطلعة على المداولات، أن هناك اتفاقًا على إنشاء مجموعات عمل للاتفاق على تفاصيل الموضوعات الرئيسية (والأقل إثارة للجدل) في خطة العشر نقاط، بما في ذلك الأمن الغذائي والسلامة النووية. ينظر الأوكرانيون لاجتماع جدة على أنه خطوة أساسية في عملية ستستغرق الشهور القادمة لعزل روسيا وإضعافها دبلوماسيًا. الخطوة التالية ستكون جولات الاجتماعات الدبلوماسية ف الدورة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول، ويليها لقاء قمة تخطط أوكرانيا لعقدها في وقت لاحق في الخريف. هذه ليست المرة الأولى التي تخطف فيها السعودية الأضواء في الصراع الروسي-الأوكراني؛ فقد توسطت مع شريكها الإقليمي تركيا في عملية تبادل للأسرى في عام 2022.
ردود فعل الصين وروسيا على القمة
في تصريحاتها وأفعالها التي أعقبت القمة، حاولت الصين اتباع نهج متوازن، أعربت بكين عن دعم حذر لمحادثات جدة الهادفة للمساعدة في “تعزيز الإجماع الدولي” لإيجاد حل سلمي للصراع. لكن وزير الخارجية الصيني هاتف نظيره الروسي بعد ذلك مباشرة كاشفًا بذلك عن استمرار حالة التشاور ووحدة النهج مع حليفها الرئيسي. ومع ذلك، أشار الدبلوماسيون الغربيون إلى أن الصين كانت مشاركًا نشطًا في القمة، وأعربت عن دعمها لعقد قمة للمتابعة لاحقًا في الخريف. ورفض المحللون الصينيون المتشككون أي فكرة بأن حضور الصين يشير إلى تحول في موقفها بشأن قضية أوكرانيا، مشيرين إلى أن الصين كانت على الأرجح تستخدم حضورها للقمة وبياناتها الداعمة نسبيًا لتعزيز نفوذها بين دول الجنوب.
على الرغم من المكالمة الهاتفية مع الصينيين، أصدرت روسيا سلسلة من التصريحات أعربت فيها عن درجات متفاوتة من الانزعاج بسبب القمة. أعرب نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي ريابكوف (Sergei Ryabkov) عن رفضه للاجتماع باعتباره جزءًا من “جهود الغرب الفاشلة حتمًا” لإقناع دول الجنوب بدعم موقف أوكرانيا.
السعودية تُظهر توازن دقيق في علاقاتها مع الشركاء الرئيسيين
أصدرت السعودية بيانًا رسميًا متواضعًا إلى حد ما، يشير إلى اتفاق المشاركين على ضرورة استمرار المشاورات “لتمهيد الطريق للسلام،” وهو ما يفند الدور البارز الذي اضطلعت به كمضيف لهذه القمة. يبدو أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان استخدم القمة للمساعدة في إبراز نفسه كقائد عالمي جدير بالثقة يتجاوز تأثيره حدود السعودية، وكوسيط يقيم علاقات مثمرة ومستقلة مع البلدان، التي عادة ما تتجاوز الانقسامات والتكتلات المعتادة، التي يمكن أن تحد من الجهود المبذولة في إدارة الصراع في أوكرانيا وتسويته. كما أظهر الاجتماع قدرة السعودية جمع قادة العالم، حتى في سياق قضية أدت إلى انقسام المجتمع الدولي بشكل صارخ. بالإضافة إلى ذلك، فإن استضافة السعودية للقمة يلقي الضوء على سياسة خارجية سعودية براجماتية، والحسابات المتأنية والتوازن الدقيق بين التحالفات والعلاقات مع الشركاء الرئيسيين. ورأى بعض المحللين أن حرص الرياض على أن تكون الدول، التي هي ليست قوى عالمية مثل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، على توافق تام معها يعد مؤشرًا على أن السعودية اقتنعت بدورها كقوة متوسطة تريد العمل في انسجام مع الآخرين. ويرى المحلل السعودي علي الشهابي المحادثات من منظور السعودية التي تتبع بنجاح “استراتيجية متعددة الأقطاب”.
ذكر السفير الأمريكي السابق في مصر وإسرائيل دانيال كيرتزر (Daniel Kurtzer) في مقابلة، أنه كان من المفيد أيضًا النظر إلى القمة، التي ترمز إلى سياسة سعودية خارجية أخذت تنشط حديثًا، باعتبارها امتدادًا للأجندة المحلية التي تسعى البلاد حثيثًا لتنفيذها كجزء من رؤية 2030، ولسلسلة إصلاحات “تخفيف” القيود الاجتماعية في السنوات العديدة الماضية. لاحظ كيرتزر وآخرون أن الذكاء في إدارة الحكم في السعودية قد وضع البلاد في موقع يمكنها من المشاركة في استضافة مثل هذه القمة مع الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع روسيا.
إن وفد الحكومة الأمريكية البارز مع وجود سوليفان، ووكيلة وزارة الخارجية للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند (Victoria Nuland)، ومنسق مجلس الأمن القومي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا بريت ماك جورك (Brett McGurk)، وبالتزامن مع تصريحات الحكومة الأمريكية الداعمة لدور القيادة السعودية النشط في القمة، تعد جميعًا بمثابة مؤشرات قوية للجهود التي تبذلها إدارة الرئيس جوزيف بايدن من أجل علاقة متطورة مع محمد بن سلمان ودور سعودي نشط مؤخرًا. أصبحت العلاقة الوثيقة واضحة لأول مرة في الفترة التي سبقت الزيارة التي قام بها بايدن في يوليو/تموز 2022 إلى السعودية، واستمرت في اكتساب الزخم بين مدٍ وجزر، منذ ذلك الحين. في حين يُستشف من بعض التعليقات في القمة أن لدى محمد بن سلمان والسعودية طموحات في لعب دور أكبر “على المسرح العالمي” خارج “الإطار القديم لعلاقتها مع الولايات المتحدة”، إلا أن ما كان مرئيًا (جلوس سوليفان اللافت للنظر بجوار مضيفيه السعوديين)، ويشير التنسيق الذي سبق القمة بين السعودية والولايات المتحدة إلى أن العلاقات الثنائية لا تزال وثيقة، حتى وإن تم التقليل من أهميتها بشكل متعمد في بعض الأحيان.
القمة كشفت تطور العلاقات وتحسّنها مع الولايات المتحدة
ردًا على القمة التي استضافتها السعودية والرد الأمريكي الداعم، أبدى سي. ديفيد ويلش (C. David Welch) سفير الولايات المتحدة السابق في مصر ومساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى وعضو مجلس إدارة معهد دول الخليج العربية في واشنطن، ملاحظةً بأن الإدارة الأمريكية “قد تعلمت الدرس واتبعت نهج أكثر واقعيةً وتوازنًا” في علاقاتها مع السعودية، وهو نهج، في رأيه، يقر بأن محمد بن سلمان من المرجح أن يقود السعودية النشطة والمؤثرة لعقود قادمة. ووصف بـ “الذكاء” تقبل الولايات المتحدة بدرجة من الرصانة مبادرات الصين الدبلوماسية في الخليج في الأشهر الأخيرة، في إشارة ليس فقط إلى حضورها للقمة، وإنما إلى وساطة الصين في مساعدة السعودية وإيران على استعادة العلاقات الدبلوماسية فيما بينهما. وكما هو الحال لدى بعض المحللين الآخرين، تكهن ويلش بفتور العلاقات السعودية-الروسية، وتراجعت لتكون مجرد “تعاون بخصوص أسعار النفط”.
كما نظر كلاً من كيرتزر وويلش قد إلى القمة في سياق إمكانية تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل. وفي حين أنه لم يكن هناك اتصال مباشر، فقد أظهرت القمة أن محمد بن سلمان يعمل على إيجاد ظروف للتأثير والنفوذ. كما وجد كيرتزر في موافقة السعودية على استضافة هذه القمة مثالاً آخر على المنافسة الدائمة بين دول الخليج على جبهات مختلفة.
ربما تكون قمة أوكرانيا أكثر من مجرد تجميع لأجزائها. ففي حين أن هذا الحدث لم يكن سوى جهد دبلوماسي متواضع النجاح – جزء من الصراع المكثف والأوسع نطاقًا بين روسيا وأوكرانيا وحلفائهما – إلا أنه يسلط الضوء على الثقة وحنكة إدارة الحكم والدبلوماسية السعودية. كما أن هذه القمة تعد تذكيرًا بالنفوذ الهائل للسعودية الذي توفره الثروة النفطية وقيادتها للعالمين العربي والإسلامي، وهى لمحة خاطفة للعلاقات المتطورة والمُحسنة والمعقدة مع الولايات المتحدة.