يعكس التقرير الخاص، الذي نشرته صحيفة ووال ستريت جورنال يوم أمس، حول توجيهات الرئيس بايدن لوزارة الدفاع بالبدء بتخفيضات هامة للقدرات والقوات العسكرية من منطقة الخليج – في سياق إعادة الانتشار العسكري الأميركي حول العالم بعيداً عن الشرق الأوسط، لمواجهة الاخطار المتنامية التي تمثلها دول مثل الصين وروسيا – الاتجاه العام للمخططين الاستراتيجيين، وميل الرؤساء باراك أوباما ودونالد ترامب وجوزيف بايدن لتخفيض الوجود العسكري في المنطقة بعد عقود من الحروب والنزاعات المرهقة والمكلفة والخاسرة. هذا الانكماش العسكري، سيجلب ورائه انحسار ملحوظ في الاستثمار السياسي والديبلوماسي الأمريكي في المنطقة.
وليس من المبالغة القول إن ما نشهده الآن هو بداية نهاية اللحظة الأميركية، الطويلة، في منطقة الشرق الأوسط، والتي بدأت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وتزامنت مع بداية نهاية الهيمنة البريطانية والفرنسية على المنطقة الممتدة من عمان إلى المغرب. الرئيس الأسبق باراك أوباما، سعى، ولكن بنجاح جزئي “للتحول” من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى، بعد الانسحاب العسكري من العراق، حين أدى بروز ظاهرة “داعش” الإرهابية، وما نتج عنها من “خلافة” إسلامية فوق أراضٍ سورية وعراقية إلى إرغامه على لعودة عسكرياً إلى المنطقة على رأس ائتلاف دولي لشن حرب جوية ضد الخطر الجديد.
ووفقا للصحيفة، سحبت الولايات المتحدة ثلاث بطاريات باتريوت المضادة للصواريخ، على الأقل، من منطقة الخليج، بما في ذلك واحدة من قاعدة الأمير سلطان الجوية في السعودية. وقال مسؤولون للصحيفة إن واشنطن قررت سحب حاملة طائرات وأنظمة مراقبة وغيرها من الأنظمة العسكرية، لنشرها في مناطق حول العالم لمواجهة الأخطار الجديدة. وهناك تخفيضات أخرى قيد الدراسة. وهذا يعني سحب آلاف العسكريين الأميركيين من المنطقة في الأشهر والسنوات المقبلة. وهذه هي المرة الأولى، منذ عقود، لن يكون فيها للولايات المتحدة حاملة طائرات في مياه الخليج أو بحر العرب بشكل دائم.
هذه التخفيضات العسكرية، التي لم يعلن عنها رسمياً، تتزامن مع تزايد الهجمات الصاروخية وعبر الطائرات المسيرة، التي تتعرض لها السعودية من قبل حلفاء إيران في اليمن (الحوثيون) وفي العراق (ما يسمى تنظيمات الحشد الشعبي)، وفي الوقت الذي لا تبدو فيه أي مؤشرات واعدة باقتراب استئناف المفاوضات النووية بين واشنطن وطهران، في سياق المفاوضات المتعددة الأطراف لإحياء وتطوير الاتفاق النووي، الذي وقعته إدارة الرئيس أوباما في 2015، والذي انسحب منه الرئيس ترامب في 2018.
المفارقة أن التصعيد العسكري الحوثي ضد السعودية يأتي في أعقاب قرار إدارة الرئيس بايدن إلغاء قرار سلفه ترامب تصنيف حركة الحوثيين كتنظيم إرهابي، وقراره وقف تزويد السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة بأنظمة عسكرية هجومية، في سياق سياسته الهادفة لوقف حرب اليمن، بعد تعيين الديبلوماسي تيم لينديركينغ مبعوثاً خاصاً لليمن. وأشارت الصحيفة إلى أن المسؤولين في واشنطن والمخططين العسكريين يريدون تعزيز تدريب العسكريين السعوديين وتزويد المملكة بالأنظمة العسكرية الدفاعية للتصدي للهجمات الصاروخية، وأن هذه الجهود تأتي في سياق نقل المزيد من عبء الدفاع عن الأراضي السعودية من واشنطن إلى الرياض.
في الأسابيع والأيام الأخيرة، وجدت إدارة الرئيس بايدن نفسها في وضع محرج، حين كانت تصدر الإدانات القوية للهجمات الحوثية في العمق السعودي، دون أن تأتي على ذكر النظام الإيراني، الذي يمثل المصّدر الأساسي للصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة في الترسانة الحوثية. والتقييم السائد في أوساط المحللين العسكريين والسياسيين في واشنطن، هو أن التصعيد الحوثي ضد السعودية، لم يكن ليحدث في هذا الوقت وبهذه النوعية، لو لم تكن طهران ورائه. وهذا بحد ذاته تطور نوعي جديد، حيث تلجأ إيران للتصعيد العسكري ضد السعودية، عبر الهجمات الحوثية، ليس فقط للحصول على تنازلات حول اليمن، بل أيضاً للضغط غير المباشر على الولايات المتحدة.
ويأتي الكشف عن هذه التخفيضات العسكرية الأميركية في منطقة الخليج، في أعقاب توقيع اتفاق “الشراكة الاستراتيجية الشاملة” بين الصين وإيران، وهو اتفاق اقتصادي وعسكري مدته 25 عاماً، وأول اتفاق طموح تعقده إيران مع الدولة المنافسة الأولى للولايات المتحدة في العالم. ويقضي الاتفاق بقيام بيكين باستثمار 400 مليار دولار في قطاعات النفط والتعدين والمواصلات في إيران، وتعزيز العلاقات العسكرية، بما في ذلك مساعدة إيران على صناعة الأسلحة، واجراء المناورات العسكرية المشتركة، وتعزيز التعاون الاستخباراتي بين البلدين، مقابل حصول الصين على امدادات الطاقة، التي تحتاجها، بأسعار مخفضة.
هذا الاتفاق الاستراتيجي، الذي لم يكشف عن نصه الرسمي حتى الآن، سوف يؤدي، في حال تطبيقه إلى تخفيف وطأة الخناق الاقتصادي، الذي فرضته إدارة الرئيس ترامب على إيران، وخاصة حرمانها من الأسواق لبيع نفطها، كما سيعزز من نفوذ الصين الاقتصادي والسياسي في المنطقة. الاتفاق، الذي وقعه في طهران الاسبوع الماضي وزير الخارجية الصيني وانغ يي مع نظيره الإيراني محمد جواد ظريف، جاء في سياق جولة إقليمية قام بها الوزير الصيني، شملت، إضافة إلى إيران، السعودية والإمارات والبحرين وتركيا، عكست رغبة الصين برفع مستوى حضورها السياسي والديبلوماسي في المنطقة.
الانسحاب العسكري الجزئي من منطقة الخليج، يتزامن مع بداية نهاية الوجود العسكري الأميركي في أفغانستان، بعد أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة، لم تحسم لصالحها. الرئيس ترامب خفض القوات في أفغانستان إلى 2500 عنصر، وتوصل إلى اتفاق أولي مع حركة طالبان، كان يقضي بسحب جميع القوات الأميركية مع بداية شهر مايو/أيار المقبل. ولكن نظراً لعدم توصل طالبان والحكومة الافغانية إلى اتفاق سلام نهائي، قرر الرئيس بايدن عدم سحب هذه القوات بسرعة، وإن أكد أنها لن تبقى هناك حتى السنة المقبلة. وكان الرئيس السابق قد أعلن، قبل نهاية ولايته، سحب القوات الأميركية الخاصة من الصومال. ويتوقع المحللون العسكريون أن يتم سحب القوات الأميركية من العراق وسوريا خلال هذه السنة أو السنة المقبلة. وباستثناء اليمن، التي حظيت بمبعوث أميركي، ورغبة إدارة بايدن باستئناف المفاوضات النووية مع إيران، لم يضع الرئيس الجديد قضايا الشرق الأوسط الأخرى مثل “عملية السلام” بين الفلسطينيين وإسرائيل، أو النزاعين السوري والليبي في طليعة أولوياته في المنطقة، في مؤشر واضح حول انحسار الاستثمار الديبلوماسي الأميركي بالمنطقة. إدارة بايدن، استأنفت الاتصالات الديبلوماسية مع الفلسطينيين وبعض المساعدات المالية، التي كان قد قطعها الرئيس السابق ترامب، ولكن لا توجد هناك أي مؤشرات حول جهود أميركية للوساطة بين الطرفين. وهناك ارهاق أميركي واضح من أعباء الالتزامات الأميركية السابقة، وغير الناجحة، في نزاعات العراق وسوريا وليبيا.
أعرب قادة بعض الدول الحليفة لواشنطن في المنطقة، بشكل مباشر وغير مباشر، عن قلقهم من الانسحاب الأميركي العسكري والسياسي البطيء من المنطقة، والذي بدأ قبل انتخاب الرئيس بايدن. وهذا يفسر، جزئياً على الأقل، البحث عن تكتلات وتحالفات إقليمية سياسية وعسكرية جديدة، لملء الفراغ الاستراتيجي، الذي سيخلقه الانسحاب الأميركي التدريجي من المنطقة. ويجب أن نضع في هذا السياق، الدور الروسي العسكري والسياسي المتنامي في سوريا وليبيا، والدور الصيني السياسي والاقتصادي في الخليج.
ما يمكن قوله، ببعض الثقة، هو أن هذه المنطقة التي كشفت محدودية القوة العسكرية الأميركية في أفغانستان والعراق، ومحدودية الديبلوماسية الأميركية الطموحة في حل نزاعات المنطقة، سوف تبقى عصية على طموحات وأطماع بعض القوى الإقليمية، التي تريد فرض سيطرتها بالقوة، كما ستحبط، في المدى البعيد، مخططات ومشاريع أي دولة كبيرة تريد أن ترث الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. الفراغ الذي سيعقب الانسحاب الأميركي البطيء والطويل من المنطقة، سيؤدي إلى توترات وخلق خطوط تماس ومحاور جديدة سوف تبقي المنطقة في حالة توتر مزمن. هذا هو مستقبل الشرق الأوسط بعد أفول اللحظة الأميركية التاريخية فيه.