ينخرط الزعماء السياسيين ومحللون السياسة ووسائل الإعلام والجمهور في نقاش شديد الحيوية بشأن مستقبل تواجد القوات العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط، والمتمركزة في دول الخليج العربية. يعتزم معهد دول الخليج العربية في واشنطن، ضمن سلسلة تطوير الوجود العسكري الأمريكي في الخليج، المساعدة في تأطير نقاش أكبر، واستكشاف خيارات إعادة هيكلة أهداف سياسة الولايات المتحدة والوجود العسكري في المنطقة. من خلال التحليلات المكتوبة والنقاشات مع الباحثين والخبراء والمهنيين، سوف تستكشف السلسلة أطرًا مفاهيمية جديدة، وتبحث عن أفكار بناءة لمقاربة عملية، أكثر واقعية وفاعلية، لإعادة تشكيل وجود القوات الأمريكية في المنطقة.
ينضم معهد دول الخليج العربية في واشنطن إلى هذا النقاش المتعدد الأوجه لهدف واضح يتمثل في تعزيز الأمن القومي للولايات المتحدة وخدمة مصالح كل من الولايات المتحدة وشركائها الإقليميين. إن التواجد الدبلوماسي والاقتصادي والعسكري القوي المستمر للولايات المتحدة في الخليج والشرق الأوسط، بالإضافة إلى التركيز مجددًا على علاقات الولايات المتحدة مع شركائها الرئيسيين، يعدان أمرين أساسيين لتعزيز الاستقرار في المنطقة وتأمين المصالح الوطنية للولايات المتحدة.
لقد آن الأوان لتجاوز الفرضية التي تفيد بأن الاستجابة الحقيقية أو الفعالة، الوحيدة، من جانب الولايات المتحدة لأي تحدٍ كبير هو استخدام القوة العسكرية. لقد حان الوقت لإيجاد طرق لتحقيق الإرادة السياسية والدبلوماسية بشكل فعال، بالتنسيق مع حلفاء الولايات المتحدة، ومدعومة بقدرات وخيارات عسكرية قوية. إن الوضع الحالي في أفغانستان يثبت أنه لا جدوى من محاولة رسم مستقبل المجتمعات الأخرى، حتى لو صاحب ذلك انتشار عسكري طويل الأمد، كما أنه لا جدوى من التوهم بأن غياب القوات الأمريكية سيجلب الاستقرار أو الازدهار. لقد أصبح من الواضح أن الحل الوسط ينبع من الدروس التي يجب أن نتعلمها حقًا في نهاية المطاف.
أدعوكم للانضمام، في الأشهر المقبلة، إلى معهد دول الخليج العربية في واشنطن وآخرين في هذا الحوار المهم، بدءًا من هذا التحليل من قبل حسين إبيش، وهو كبير باحثين مقيم في معهد دول الخليج العربية في واشنطن.
السفير دوجلاس سيليمان
رئيس معهد دول الخليج العربية في واشنطن
يجري الآن سِجال، طال انتظاره، حول مجال وفائدة الإبقاء على وجود القوات العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط، لا سيما في منطقة الخليج. يجري تضخيم هذا السجال بالاستشهاد بالانسحاب الأمريكي، المثير للجدل، من أفغانستان، هذا الانسحاب الذي تعتبره جميع الأطراف مسوغًا لوجهات نظرها الحالية. في جانب من جوانب هذا السجال، يدفع البعض نحو استمرار أو توسيع التواجد الحالي. ويطالب الطرف الآخر بإزالة جميع المنشآت العسكرية الأمريكية الثابتة في المنطقة، بشكل كامل أو شبه كامل. يجادل كلا الطرفين بحماس وصخب، ومع ذلك فقد بدأ يظهر إجماع جديد وقوي بين هذين الموقفين. لقد حان الوقت للولايات المتحدة أن تعيد النظر في إعادة توزيع وجودها لجعله أكثر فاعلية، وإذا اقتضت الضرورة، أقل عددًا وأصغر حجمًا وأكثر مرونة، مع الاعتراف في الوقت نفسه بأن انتشار القوات الأمريكية الطويل الأجل في منطقة الخليج يظل أمرًا أساسيًا لمصالح الولايات المتحدة، ومصالح شركائها الإقليميين والعالميين، وفي مصلحة الاستقرار والأمن الإقليمي.
ينتج هذا السجال من الشعور المتزايد لدى العديد من الأمريكيين بالتعب من الحرب والرغبة في التركيز على المشاريع المحلية في الولايات المتحدة. بالنسبة لليمين الجمهوري، فأجندتهم هي “أمريكا أولاً”، في حين أن الديمقراطيين يؤمنون بمبادرة “إعادة البناء بشكل أفضل”. كما أن هنالك تركيزًا متزايدًا على تنافس القوى العظمى مع روسيا والصين – الأمر الذي يطرح السؤال حول كيفية مساهمة الوجود الأمريكي في الخليج في تلك الأهداف السياسية المعقدة والمتداخلة.
على الرغم من الدعوات المتواصلة لعدم استمرار اعتبار الشرق الأوسط كأولوية بالنسبة للولايات المتحدة – ذلك الاتجاه الذي يعود تاريخه، حتى داخل الإدارات الأمريكية المتعاقبة، إلى الولاية الثانية للرئيس جورج دبليو بوش، ورددت صداه جميع الإدارات اللاحقة – إلا أن العواقب السلبية المتوقعة من أي تحول جذري قد حالت دون ذلك. من الواضح أن هناك أهمية استراتيجية واقتصادية كبيرة لمنطقة الخليج ومواردها الحيوية من الطاقة، ولا سيما لاقتصادات جنوب وشرق آسيا. وهناك العديد من الأسباب الأخرى التي تحول دون تراجع الولايات المتحدة بشكل سريع أو جذري. ومع ذلك، فقد خلص معظم الجمهور الأمريكي والقادة السياسيين والمحللين السياسيين إلى أن تواجد القوات العسكرية الموروث، إلى حد كبير، منذ عملية عاصفة الصحراء عام 1991 في الكويت وغزو العراق عام 2003، لم يعد مناسبًا للمصالح الأمريكية المتطورة في المنطقة.
تتعرض البنية الأمنية الراسخة في الخليج منذ فترة طويلة – مثل الوجود البحري الأمريكي في المنامة، والذي يعود تاريخه إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرةً – لضغوط على الرغم من أنها أثبتت مرارًا وتكرارًا أهميتها في المساعدة على ضمان التدفق الحر للنفط والتجارة في الممرات البحرية الحيوية، مثل مضيق هرمز. ويعمل الأسطول الخامس للولايات المتحدة أيضًا كمقر متقدم ومركزًا للقوات البحرية المشتركة، وهو تحالف من 34 عضوًا يعمل على مكافحة القرصنة والتهريب وتعزيز الأمن البحري في أهم خطوط الشحن الدولية بما في ذلك المحيط الهندي والممرات المائية المجاورة.
إن الدافع لتقليص تواجد القوات الأمريكية في الخليج يتوافق مع الانتقال بعيدًا عن تعقيدات ما بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول في أفغانستان، وبدرجة أقل في العراق، ناهيك عن الوجود الأصغر، ولكن الفعال، في سوريا. ثمة اختلافات كبيرة بين عمليات الانتشار الثلاثة هذه، ولكن إنهاء الانخراط الأمريكي في الحرب الأفغانية، وإعادة هيكلة القوات الأمريكية في العراق من خلال عدم القيام بمهمات قتالية، واستمرار التواجد المحدود على الحدود السورية-العراقية لمواصلة قتال تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وللحيلولة دون سيطرة إيران على المعابر الحدودية العراقية-السورية، توضح جميعها الحاجة إلى تعديل محتمل للوجود الأمريكي في المنطقة.
السجال
يستند هذا السجال إلى المواقف المتعارضة للمتشددين من الصقور والانعزاليين. ظهرت الانعزالية واستفحلت مجددًا بين القوميين اليمينيين والليبراليين إضافة إلى التقدميين الليبراليين. لطالما كانت مثل هذه الميول حاضرة في الولايات المتحدة، ولكنها كانت موجودة، فعليًا، على الهامش بعد الحرب العالمية الثانية، على امتداد الحرب الباردة، وصولاً إلى العقود اللاحقة التي تصرفت فيها الولايات المتحدة كقوة عالمية وحيدة. في ظل غياب إجماع، على غرار الحال أثناء الحرب الباردة، حول تهديد وجودي محدد، ربما كانت عودة الانعزالية حتمية. أصبحت العلاقات الدولية متعددة القطبية، بشكل متزايد، مع عودة روسيا إلى المسرح العالمي، والنمو الصيني، على نحو خاص، لتصبح قوة عالمية صاعدة تنافس الولايات المتحدة. بالإضافة إلى هؤلاء المنافسين من القوى العظمى، تؤكد القوى الإقليمية، بما في ذلك الموجودة في الشرق الأوسط، بشكل متزايد، على استقلاليتها الاستراتيجية، وتحاول تنويع شراكاتها وخياراتها.
ولعل أكثر ما يثير الدهشة هو التقارب بين المحافظين من الجمهوريين والديمقراطيين الليبراليين لإعادة احياء التوجه الانعزالي. كلاهما يؤيد وجوب إنهاء الولايات المتحدة لمعظم أو، حتى لكامل، تواجدها العسكري من الشرق الأوسط (إضافة إلى بقية العالم، مثل كوريا على سبيل المثال). تستند هذه النقاشات عادةً إلى التقليل من أهمية التهديدات من الخصوم مثل روسيا والصين وإيران والرفض الشامل للقيادة الدولية للولايات المتحدة باعتبارها مضيعة واستفزازية وتؤدي إلى نتائج عكسية.
على النقيض الآخر، فإن بعض الكتل المتشددة من الصقور، التي انبثق الكثير منها من منظور المحافظين الجدد، لا تدافع فقط عن الموقف العسكري الحالي، ولكنها تطالب في كثير من الأحيان بتواجد عسكري أمريكي مكثف في الشرق الأوسط. ويرتبط هذا الموقف عادة بالمطالبة بزيادة التعاون العسكري مع إسرائيل ودعمها والدفاع بقوة عن السياسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. يتخذ البعض الآخر موقفًا تقليديًا أكثر تشددًا يعارض ببساطة كل عمليات تقليص القوات في جميع أنحاء العالم.
على الرغم من الترويج لهذين الموقفين المتطرفين بقوة من قبل مؤسسات ممولة تمويلًا جيدًا وبارزة للعيان، إلا أنهما يبقيان مغالين في التطرف. في المقابل، هناك إجماع متزايد على أنه بينما لا ينبغي للولايات المتحدة أن تسحب وجودها العسكري بالكامل من الخليج والشرق الأوسط الكبير، إلا أنها يجب ألا تحافظ على الموقف الحالي كردة فعل، ناهيك عن تضخيمه. ربما يرحب بعض حلفاء الولايات المتحدة، بما في ذلك إسرائيل وبعض الدول العربية، بتوسيع نطاق الدور العسكري الأمريكي، لكن العديد من المحللين الأمريكيين يعتقدون أن الموقف الحالي، الذي تشكل في حقبة مختلفة، ليس مناسبًا تمامًا لتحقيق المصالح القومية الأمريكية في المنطقة في الوقت الراهن.
تحديد مصالح الولايات المتحدة
تتمثل إحدى أهم المهام في سياق عملية صياغة إطار جديد للدور العسكري الأمريكي في الخليج والشرق الأوسط الكبير في تحديد فهم واضح للمصالح الأساسية للأمن القومي للولايات المتحدة، وتنعقد الآمال على إيجاد إجماع حوله.
يتفق معظم المحللين على أن للولايات المتحدة مصلحة حيوية في الحفاظ على الأمن البحري في مياه الخليج والوصول العالمي للتجارة وموارد الطاقة عبر قناة السويس ومضيق باب المندب ومضيق هرمز، وإلى ما هو أبعد من ذلك، شرقي البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي. يعد التواجد العسكري الأمريكي حول العالم شبكة متداخلة ومترابطة من الأصول التي تدعم وتعزز بعضها البعض، بطرق معقدة، وغالبًا ما تكون معتمدة اعتمادًا متبادل فيما بينها، لا غنى لأيٍ منها عن الأخرى. سيكون من الصعب على الولايات المتحدة الاستمرار في لعب دورٍ رئيسيٍ عالمي دون أن يكون لها زمام المبادرة في تأمين الوصول إلى شريان الحياة المتبقي لطاقة الاقتصاد العالمي. إن التنازل عن هذا الدور لمصالح القوى الإقليمية المتنافسة أو هيمنة قوة دولية منافسة من شأنه أن يشير، بشكل فعال، إلى عودة السياسة الخارجية الانعزالية.
النقطة الثانية التي تحظى بما يشبه الإجماع هي المصلحة الحيوية في مكافحة وردع الإرهاب الذي يستهدف الولايات المتحدة والمصالح الأمريكية في الخارج. تعد مكافحة الإرهاب من أهم ركائز القيادة والنفوذ الأمريكيين وأكثرها فاعلية، لا سيما في الشرق الأوسط، وهي ضرورية لتعزيز شبكة تحالفات واشنطن، وعلى رأسها حلف الناتو. منذ هجمات 11 سبتمبر/أيلول، وسياسة الولايات المتحدة الخارجية تتمحور حول جهود مكافحة الإرهاب، سواء كانت فعّالة أو غير موفقة. على الرغم من العديد من العيوب، فقد كانت السياسة فعالة، إلى حد كبير: لم يكن هناك تكرار لهجمات 11 سبتمبر/أيلول، وانتقلت العمليات القتالية ضد الجماعات المتطرفة العنيفة، إلى حد كبير، إلى أماكن نشأتها بدلاً من الولايات المتحدة.
ومع ذلك، فقد انتهى الأمر بالعديد من سياسات ما بعد 11 سبتمبر/أيلول، ولا سيما غزو العراق عام 2003، إلى تعزيز الراديكاليين في العراق وسوريا، ما أدى في نهاية المطاف إلى تشكيل تنظيم داعش وتمكين إيران. تواصل الجماعات المتطرفة الموالية لإيران استهداف القوات والمصالح الأمريكية في العراق وأماكن أخرى. ولا يزال التهديد من تنظيمي القاعدة وداعش، حتى ضد الأهداف الأمريكية الداخلية، مستمرًا – لا سيما بعد سيطرة طالبان على معظم أفغانستان، والهجوم الانتحاري، الفتاك، الذي نفذته إحدى الجماعات التابعة لداعش على مطار كابول، وإطلاق سراح أعداد كبيرة من عناصر القاعدة الذين كانوا في السجون الأفغانية.
هناك قضية أخرى غالبًا ما يُشار إليها على أنها من مصالح الولايات المتحدة الحيوية في الشرق الأوسط وهي أمن إسرائيل، لكن هذا أصبح مرتبطًا بشكل متزايد بأمن شركاء الولايات المتحدة الإقليميين الآخرين. تتفق إسرائيل والعديد من دول الخليج العربية الرئيسية على أن إيران وشبكة الميليشيات التابعة لها تشكل أكبر تهديد لأمنها القومي واستقرارها الإقليمي. قاد هذا التصور المشترك للتهديدات والتقارب الاستراتيجي الإمارات العربية المتحدة والبحرين للبدء في تطبيع العلاقات مع إسرائيل في عام 2020، الأمر الذي قرّب ثلاثة من شركاء الولايات المتحدة الرئيسيين بعضهم من بعض أكثر. لا تزال المملكة العربية السعودية لم تحسم أمرها، لكن من الواضح أنها تُبقي خياراتها مفتوحة. إن أمن إسرائيل ودول الخليج العربية الآن متداخل بطرق من المرجح أن توفر فرصًا جديدة ومهمة لحلفاء الولايات المتحدة للتعاون مع واشنطن، ومع بعضهم البعض، بطرق تعزز أيضًا الأهداف الاستراتيجية والسياسات الإقليمية للولايات المتحدة.
ومن الهواجس الرئيسية الأخرى: مكافحة انتشار أسلحة الدمار الشامل، والمساعدة في تفادي حروب إقليمية مدمرة جديدة، والحد من النزوح البشري، واحتواء أزمات اللاجئين، وتعزيز القيم الأمريكية حيثما أمكن ذلك، ومعالجة قضايا التغير المناخي والأمن البشري. تحتاج الولايات المتحدة إلى صياغة إجماع حول المتطلبات الأساسية لتأمين هذه المصالح، وما هو مطلوب للحفاظ على الدعم لمجموعة من الضرورات العالمية.
يجادل العديد من المحللين بأن الولايات المتحدة لا بد من أن تتحول من مساعي ما بعد الحرب الباردة المتمثلة في تأمين السلم الأمريكي والدفاع عنه في الشرق الأوسط إلى دور أكثر تقليدية في تحقيق التوازن الإقليمي. قد يكون هذا منطقيًا من منظور الولايات المتحدة والمنظور الإقليمي، ولكن لا يوجد فهم مشترك، على نطاق واسع، لما سيفضي إليه مثل هذا الدور الموازن. يجادل البعض بأن الولايات المتحدة يجب أن تسعى بشكل فعال لتعزيز توازن القوى الإقليمي بين إيران أو تركيا وخصومهم العرب. ومع ذلك، فإن هذا التوازن لا يمكن أن يعني قبول سياسات جميع الأطراف الفاعلة القائمة على أنها متساوية في الشرعية، ولا سيما ترويج إيران للميليشيات الطائفية المسلحة في الدول العربية المجاورة، الأمر الذي ساهم بقوة في تفكيك هذه الدول، وهو العقبة الرئيسية أمام عودة التكامل الوطني والنظام والاستقرار الإقليميين.
خيارات إعادة هيكلة تواجد القوات الأمريكية
لضبط وضع القوات العسكرية، بشكل فعال، قد يكون من الضروري تعديل التوقعات داخل الولايات المتحدة وبين شركائها أيضا. يَفترض العديد من الأمريكيين أن أي عمل غير حركي، أو على الأقل غير عسكري بطبيعته الجوهرية، لا يمكن اعتباره فعالًا. ويفترض العديد من شركاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط والخليج أن الالتزام الحقيقي لا يتم التعبير عنه بصدق وتنفيذه إلا من خلال الحضور العسكري والإجراءات العسكرية. لا بد لمثل هذه المواقف أن تتطور نظرًا لمدى فاعلية الأدوات غير العسكرية عندما تكون مدعومة بخيار القوة ذو المصداقية.
يحتاج التشكيل الحالي للوجود العسكري الأمريكي الرئيسي في المنطقة، والمركز بشكل كبير في دول الخليج العربية، إلى تقييم دقيق: ما هي الأصول التي ما تزال مفيدة؟ وما هي الأصول الفعالة من حيث التكلفة؟ وأي الأصول يمكن التوسع فيها؟ وأيها يمكن تحويلها إلى أُطر أخف وأكثر مرونة وتجاوبًا؟ تتضمن النتيجة التلقائية المهمة الأخذ بعين الاعتبار الشكل الذي قد يبدو عليه المشهد السياسي والاستراتيجي بعد أي تعديلات محتملة. الفراغ – مع تواجد الولايات المتحدة في الأفق والاحتفاظ بقدرتها على تحقيق أهداف مهمة – هو أحد هذه النتائج. إن الوضع الطبيعي الجديد الذي تتم فيه دعوة روسيا، أو غيرها من المنافسين العالميين أو الإقليميين للولايات المتحدة، لملء هذا الفراغ بشكل فعال، سواء استطاعوا فعل ذلك أم لا، سيكون مصدر قلق كبيرًا.
لقد تم بالفعل إنجاز قدر كبير من العمل الهام، وإن كان في بعض الأحيان مجرد تكهنات، حول هذا الموضوع من قبل مجموعة من الخبراء العسكريين والأمنيين، وكثير منهم من ذوي الخبرة المباشرة في الشرق الأوسط. ترتبط القضية المعقدة الخاصة بتقاسم الأعباء ارتباطًا مباشرًا بإعادة الهيكلة، والتي قد تشمل ربما نقل المقر الرئيسي للقوات الأمريكية في المنطقة إلى الولايات المتحدة. يعتمد هذا، جزئيًا، على تعزيز قدرات شركاء الولايات المتحدة الإقليميين بنجاح، وهي بحد ذاتها مهمة معقدة ومثيرة للجدل، بما تحويه من أنظمة دفاع صاروخي قوية ومتكاملة وقدرات أمنية بحرية محلية مُحَسّنة، بما في ذلك كاسحات الألغام.
إن هذا الأمر يتطلب مناقشة أعمق لمبيعات الأسلحة للشركاء في الوقت الذي تعيد فيه الولايات المتحدة ضبط قواتها. ومع ذلك، حتى في أكثر حالاتها نجاحًا، فإن تقاسم الأعباء، المستند إلى تقوية الشركاء المحليين، ينطوي حتمًا على تقليل التأثير المباشر. يُعد استياء الولايات المتحدة من عواقب التدخل الذي تقوده السعودية في اليمن مثالًا جيدًا على الجانب السلبي المحتمل لتقاسم الأعباء. سيتعين على الولايات المتحدة وشركائها أيضًا إيجاد طرق فعالة لمواجهة التهديد الرئيسي الذي يمثله ظهور طائرات دون طيار رخيصة وخطيرة، خاصة عندما تقترن بأنظمة توجيه دقيقة أو حتى فائقة الدقة. في الشرق الأوسط، كانت إيران وتركيا رائدتين في تصنيع الطائرات دون طيار وأنظمة التوجيه الدقيقة، وأظهرتا إلى أي مدى أدت هذه التقنيات الجديدة إلى تغيير المعادلة الاستراتيجية بشكل جذري. إن الاستخدام الفعلي والمحتمل لمثل هذه الأسلحة من قبل المتطرفين العنيفين والميليشيات غير الحكومية يضيف عنصرًا مزعجًا إضافيًا للمشكلة.
لقد طرح العديد من الخبراء بالفعل خيارات لتصحيح وضع القوات الأمريكية، ولكن بطريقة جزئية، إلى حد كبير. وقد أشار البعض إلى زيادة التركيز على الدبلوماسية كعنصر ضروري في عملية التصحيح هذه. ومع ذلك، فإن القدرات الدبلوماسية، وبالرغم من كونها لا تزال جوهرية، تعاني، لعقود من الزمن، من نقص التمويل، الأمر الذي يثير تساؤلات حول ما يمكن أن يقوم به المزيد من الدبلوماسيين، خاصة أن المساندة العسكرية القوية، غالبًا، ما تكون مفيدة لفاعلية الدبلوماسية. كما أن هناك أيضًا أبعادًا اقتصادية وتجارية أساسية، وأبعادًا أمنية بشرية لتسهيل الانتقال إلى تحقيق المزيد بموارد أقل، ولا بد من الاستفادة من كل ذلك على أكمل وجه.
كقوة عالمية، تبقى الولايات المتحدة متميزة عن غيرها، ويحصل الشعب الأمريكي على فوائد جمة من هذا الدور القيادي العالمي. العلاقات الدولية ليست لعبة صفرية، فمن المؤكد أن اللاعبين العالميين والإقليميين يحققون أهدافًا، وسيسعى المنافسون لملء المناطق التي تنسحب منها الولايات المتحدة أو مواقع النفوذ التي تتنازل عنها.
لذلك، يبقى التواجد الأمريكي في الخليج حاسمًا لكل من واشنطن وشركائها. لكن من أجل جعله أكثر فاعلية واستدامة، فإن الأمر يتطلب مقاربة جديدة للأمن الإقليمي. هناك حاجة إلى توازن أكثر دقة بين المبادرات الدبلوماسية – أو حتى التجارية أو القطاع الخاص- والقوة التقليدية الصارمة، مع الاحتفاظ بخيار عسكري قوي لتوطيد النفوذ، والملاذ الأخير إذا لزم الأمر.
إن التمييز الدقيق بين الأنواع المختلفة من الوجود العسكري الأمريكي – الوجود البحري مقابل القواعد الجوية مقابل المعسكرات على الأرض والبعثات التدريبية المكثفة، وانتشار قوات العمليات الخاصة الصغيرة المؤقتة، أو مهمات المساعدات العسكرية في السفارات – سوف يساعد في إيجاد الأساس المنطقي المقنع اللازم لتبرير القوة الفعالة والمستدامة. المطلوب هو تواجد يتم تصميمه لخدمة تحالفات مرنة مع الشركاء لمواجهة التحديات دون توقع أو مطالبة جميع الشركاء بالمساهمة في كل مهمة.
تحتاج الولايات المتحدة إلى فهم أوضح بكثير للتحديد الدقيق للتحديات التي يتطلبها تواجد القوات المسلحة لفترة طويلة، والاستخدام المحتمل للقوة، وفي ظل أي ظروف. من دون ذلك، سوف تستمر السياسة في الانجراف دون هدف واضح. لهذا السبب من الضروري إيجاد إجماع جديد حول أهداف الأمن القومي في الخليج والشرق الأوسط على نطاق أوسع. يجب أن يكون الهدف النهائي هو تعزيز نموذج أمني إقليمي جديد يشمل جميع اللاعبين الرئيسيين، ويتم توجيهه للبحث عن حلول مربحة للجانبين بدلاً من المواجهات الصفرية. ليس من الممكن تحديد ما إذا كان هذا الأمر قابلاً للتحقيق إلا من خلال جهود مستفيضة لتعزيزه والسعي نحوه.
المطلوب إجراء حوار واسع النطاق حول كيفية وأسباب إعادة هيكلة وجود القوات الأمريكية في الخليج، وما هي المصالح والمهام الحيوية للأمن القومي التي يجب أن تخدمها هذه الأصول، وما هي الأدوات الأخرى التي من شأنها أن تعزز هذه الأهداف. لقد تطور دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط منذ إنشاء قواعد رئيسية، مثل القيادة المركزية للقوات البحرية الأمريكية في البحرين والمقرات المتقدمة للقيادة المركزية الأمريكية في قاعدة العُديد الجوية في قطر. نظرًا للتطورات التكنولوجية والاستراتيجية في السنوات الأخيرة، والدروس المستفادة من حقبة ما بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول، ينبغي على الولايات المتحدة أن تكون الآن قادرة بالتأكيد على فعل الكثير – أو على الأقل ما يكفي – بتكلفة أقل.