الحملة العسكرية المفاجئة التي قامت بها هيئة تحرير الشام – (التي كانت تعرف في السابق باسم جبهة النصرة، وكانت مرتبطة بتنظيم القاعدة)، والتي تصنفها الولايات المتحدة تنظيماً إرهابياً – وأدت خلال أسبوع إلى سقوط مدينة حلب ثاني أكبر مدينة سورية في أيدي هذا التنظيم الاسلامي المتشدد، كشفت من جملة ما كشفته هشاشة التوازن العسكري الذي كان قائماً منذ سنوات في شمال سوريا بين مختلف القوات المحلية والدولية: في شمال غرب سوريا بين روسيا وتركيا وإيران، وفي شمال شرق سوريا بين القوات الأميركية وحلفائها الأكراد والقوى التي تدعمها إيران في منطقة حوض الفرات.
ما كشفه الانهيار السريع للقوات الأمنية السورية التابعة لنظام بشار الأسد في حلب ومحيطها، واحتلال القوات الإسلامية – ولاحقاً القوات الكردية المتحالفة مع تركيا لعشرات القرى، هو العلاقة العضوية والمعقدة لحربين تبعدان مئات الأميال عن بعضهما البعض، وتشارك فيهما بعض القوى المتورطة أيضاً في القتال في سوريا: حرب أوكرانيا الناجمة عن الغزو الروسي في بداية سنة 2022، والتي كشفت بشكل محرج محدودية القوة العسكرية الروسية. والحرب التي شنتها إسرائيل ضد قطاع غزة، رداً على هجوم حركة حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وأدت لاحتلال وتدمير القطاع، ولاحقاً اجتياح إسرائيل لجنوب لبنان، والدخول في حرب أوسع ضد حزب الله.
وللمرة الأولى خلال “حروب الظل” التي استعرت بين إسرائيل وإيران على مدى العقود الماضية، دخلت إيران وإسرائيل في مواجهات ومعارك جوية مباشرة، لم تؤد إلى خسائر بشرية هامة، ولكن خسائرها المادية والعسكرية والنووية، وخاصة في إيران كانت كبيرة ومؤلمة. الهجمات الإسرائيلية كشفت للمرة الأولى وبشكل سافر هشاشة القوة الذاتية العسكرية لإيران، وكذلك ضعف “الحزام الناري” الذي أقامته إيران حول إسرائيل، والمتمثل بحزب الله والميليشيات والتنظيمات العسكرية التي تدور في فلك إيران في سوريا والعراق واليمن.
المشاركة العسكرية الأميركية في الدفاع عن إسرائيل ضد الهجمات الصاروخية الإيرانية، وهي عملية شاركت فيها مباشرة دول عربية، ساهمت كثيراً ونوعياً في إضعاف إيران وحزب الله والقوات الحوثية في اليمن.
هناك ارتباط عضوي بين حربي أوكرانيا وحرب إسرائيل على جبهتي غزة ولبنان. ولا يمكن فهم توقيت وأهداف حملة هيئة تحرير الشام، واحتلالها لمدينة حلب، وتقدمها باتجاه مدينة حماه، والتي أعلنوا سيطرتهم عليها بالفعل، دون فهم ديناميكيات حربي أوكرانيا وغزة، خاصة وأن إيران هي لاعب أساسي ليس فقط في حرب إسرائيل ضد غزة ولبنان، ولكن أيضا في حرب أوكرانيا، وهي التي زودت روسيا بمئات، وربما آلاف، المسيرات التي استخدمتها القوات الروسية ضد الأهداف العسكرية والمدنية في أوكرانيا.
احتلال القوات السورية لمدينة حلب في 2016 لم يكن ممكنا دون الدور الروسي العسكري البارز، وخاصة القصف الجوي الروسي العشوائي للأهداف المدنية وأهداف القوات الإسلامية المعارضة لنظام الأسد، التي كانت تحتل المدينة. كما لعبت قوات حزب الله اللبنانية بسبب خبراتها القتالية في حرب المدن دوراً محورياً في بقاء بشار الأسد في السلطة.
ولهذه الأسباب، لم يكن سقوط حلب في أيدي مقاتلي هيئة تحرير الشام مفاجئاً، بسبب انشغال القوات الروسية في حرب أوكرانيا، وبعد أن سحبت روسيا جزءاً من قواتها الجوية من سوريا، وبعد انسحاب قوات حزب الله من سوريا إلى لبنان للمشاركة في القتال ضد إسرائيل، وبعد النكسة العسكرية الهامة التي تعرضت لها إيران خلال مواجهاتها مع إسرائيل. النكسة العسكرية التي تعرضت لها إيران تفسر، جزئياً على الأقل، النبرة التوافقية الإيرانية الواضحة تجاه دول الخليج العربية وخاصة السعودية. ولكن هذا النهج الإيراني “المعتدل” تجاه جيرانها العرب في الخليج، لن يخف حقيقة أن إيران كانت عاجزة عن الدفاع الفعّال عن حزب الله ضد الهجمات الإسرائيلية المكلفة، التي كبدت الحزب، الذي يفترض أن يكون جزءاً من المنظومة العسكرية الإيرانية، خسائر فادحة. وسوف يكون لهذا العجز الإيراني العسكري ترددات كبيرة تتخطى لبنان إلى سوريا والعراق، ويمكن القول إن هذا العجز الإيراني كان من بين حسابات قادة هيئة تحرير الشام قبل اجتياحهم لمدينة حلب ومحيطها.
احتلال هيئة تحرير الشام لمدينة حلب، كشف أيضاً مدى “العجز” الروسي العسكري في سوريا، حيث لعبت موسكو خلال سنوات الحرب الطويلة في سوريا دوراً عسكرياً وسياسياً محورياً في لعبة التوازنات العسكرية والميدانية بين تركيا ونظام الأسد، ومختلف فصائل المعارضة السورية المختلفة كردية وعربية، وكذلك خلال لعبة التوازنات العسكرية في جنوب سوريا بين نظام الأسد وإيران وإسرائيل، بما في ذلك منع انتشار القوات الإيرانية أو المتحالفة معها في جنوب سوريا، والمستوى المتقدم للتنسيق العسكري بين روسيا وإسرائيل لتحقيق أكثر من هدف، أبرزها تفادي وقوع حوادث أمنية وعسكرية بين القوات الجوية الإسرائيلية والروسية في الأجواء السورية. انحسار “البروفيل” العسكري الروسي في سوريا سوف يكون تطوراً ميدانياً هاماً سوف تدرسه بدقة كل من إسرائيل وتركيا، وبالتأكيد الولايات المتحدة، في المستقبل المنظور، لأن عودة روسيا العسكرية إلى سوريا لن تكون ممكنة في المدى القصير.
عندما غزت القوات الروسية أوكرانيا في 2022، اعتقد الرئيس الروسي فلاديمير بيوتين أن قواته سوف تصل إلى قلب العاصمة كييف خلال أيام. ولكن المقاومة الأوكرانية القوية، والنجاح النسبي للرئيس الأميركي جوزيف بايدن في تشكيل ائتلاف دولي لمساعدة أوكرانيا عسكرياً وسياسياً، أحبط أحلام بوتين التوسعية. كما أن استمرار الحرب لسنة ثالثة، والخسائر البشرية والعسكرية الجسيمة التي تكبدتها روسيا أظهرت إلى أي مدى ضعف قوة روسيا الاتحادية، حتى وإن كانت تملك ترسانة نووية وصواريخ عابرة للقارات. بلا شك، إن القيادة الروسية تشعر بالإحباط والإحراج عندما تجد نفسها تعتمد على استيراد المسيرات والصواريخ من دولة مثل إيران، واللجوء إلى كوريا الشمالية للحصول على آلاف القذائف المدفعية في البداية، ولاحقاً الطلب من كوريا الشمالية إرسال عشرة آلاف جندي للمشاركة في القتال ضد القوات الأوكرانية، لأن بوتين لا يجرؤ على الدعوة إلى تعبئة عسكرية عامة، لأنه يريد تفادي رد فعل سلبي من المجتمع الروسي.
خلال الأشهر الماضية، حققت إسرائيل نجاحات عسكرية نوعية ضد حزب الله، عجزت عن تحقيقها في أخر حرب بين الطرفين في 2006، من بينها إلحاق خسائر بشرية كبيرة بمقاتلي الحزب، ونجاح إسرائيل في اغتيال كبار قادة حزب الله من مدنيين وعسكريين، من بينهم أمين عام الحزب حسن نصر الله، وتدمير جزء كبير من ترسانة الحزب الصاروخية، والتي كانت تمثل القوة الضاربة للحزب. ولعل النجاح الباهر الذي أحرزته إسرائيل، والذي لن تعرف أبعاده إلا بعد مرور سنوات، هو اختراقها الاستخباراتي، وتحديداً الاستخبارات البشرية، لأجهزة وهياكل حزب الله العسكرية والسياسية والخدماتية، ما جعل إسرائيل قادرة على مراقبة تحركات قادة الحزب بدقة لم تكن معهودة من قبل، الأمر الذي يفسر تحول الحزب إلى تنظيم سياسي لبناني آخر، مترهل وفاسد ومخترق مثله مثل التنظيمات الأخرى.
ويوافق وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، مع غيره من المحللين أن “هيئة تحرير الشام استغلت” انشغال روسيا وإيران وحزب الله، “بالمشاكل التي خلقوها لأنفسهم”. ومع أن المؤشرات تبين أن واشنطن مثلها مثل روسيا وإيران (الوضع معقد أكثر بالنسبة لتركيا التي تدعم هيئة تحرير الشام) فوجئت بالهجوم، إلا أنها اكتفت بإصدار موقف فاتر يدعو إلى تخفيف التوتر، وإن جدد الوزير بلينكن الحديث عن مصلحة واشنطن في منع بروز تنظيم داعش في سوريا وغيره من التنظيمات الإرهابية.
ليس من الواضح في هذا الوقت المبكر كيف ستتطور حملة هيئة تحرير الشام، وكيف وأين سوف تتوقف. وفور بدء الحملة، شاركت في الهجوم قوات مدعومة من تركيا في الهجوم، وخاصة في منطقة تل رفعت التي تنتشر فيها قوات الحماية الشعبية الكردية، التي تعارضها تركيا. كما جرت مواجهات عسكرية بين قوات سوريا الديموقراطية التي تسيطر عليها القوات الكردية وبين قوات تابعة لنظام الأسد ولميليشيات مدعومة من إيران. جاءت هذه التطورات مع بروز ضغوط إيرانية على الحكومة العراقية للسماح لعناصر من قوات الحشد الشعبي، التي تمولها وتدير بعضها إيران، للانتقال إلى سوريا للقتال إلى جانب قوات الأسد.
النجاح الأولي لهيئة تحرير الشام التي تدعمها تركيا يمثل انتصار غير مباشر للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وسوف يعزز في المستقبل من موقعه التفاوضي تجاه الولايات المتحدة وروسيا وإيران ونظام الأسد. في المقابل انهيار الدفاعات السورية في محيط حلب، وضعف القوات الروسية المتبقية في سوريا، يعزز من الوضع الميداني للقوات الأميركية وحلفائها الأكراد في شمال شرق سوريا. ولكن في حال تقدم هيئة تحرير الشام واحتمال احتلالها لمدينة حماه [وهو ما حدث بالفعل]، فإن ذلك سيخلق قلقاً في الغرب، وفي العواصم الإقليمية من انتصار عسكري لقوة إسلامية متشددة مدعومة من تركيا. كما ستبرز مخاوف مماثلة إذا أدى تقدم القوات الإسلامية إلى خلق وضع فوضوي في سوريا، مع ما يحمله ذلك من ازدياد معدلات العنف، وإذا صاحب ذلك تحرك القوى الكردية لتوسيع رقعة أراضيها وخلق الهياكل الإدارية الأولية لحكم ذاتي فعّال، (الأمر الذي سيدفع بتركيا لإحباط هذه المحاولات بالقوة)، فإن كل هذه العناصر سوف تتضامن لخلق رد فعل إقليمي ودولي، ليس بالضرورة للتمسك بنظام بشار الأسد، ولكن للتصدي للقوى الاسلامية ولطموحات الرئيس التركي اردوغان.
قبل احتلال هيئة تحرير الشام لحلب، جرت اتصالات بين واشنطن ودولة الإمارات العربية المتحدة حول احتمال إلغاء العقوبات الأميركية ضد سوريا، مقابل إبعاد بشار الأسد لنظامه عن إيران وروسيا. وبغض النظر عن تقدم هذه المحادثات، فإن الوضع الميداني الجديد قد أضعف يد الأسد، وقلص من خياراته المتوفرة، حيث سيتطلع الآن إلى أي مساعدة، ولو محدودة يمكن أن تقدمها روسيا أو إيران.
خلال سنة 2024، مني تنظيمين إسلاميين حليفين لإيران، حركة حماس وحزب الله، بنكستين كبيرتين في الحرب مع إسرائيل. وفي الأيام الأخيرة، حقق تنظيم اسلامي متشدد، هو هيئة تحرير الشام، انتصاراً عسكرياً تكتيكياً في سوريا. الحرب الضارية وسياسة الأرض المحروقة التي استخدمتها إسرائيل ضد قطاع غزة وسكانه المدنيين، وليس فقط ضد عناصر حركة حماس المسلحين، وحربها ضد المدنيين اللبنانيين في بيروت وجنوب لبنان، وممارسات القتل الجماعي في غزة التي رأت لجنة العفو الدولية في آخر تقرير لها أنها ترقى إلى حرب الإبادة، سوف تبقي ظلالها الداكنة فوق ما تبقى من غزة لسنوات طويلة، وإذا كان الماضي أي دليل، فإن إسرائيل سوف تفلت، مرة أخرى من العقاب القانوني بسبب قتلها للمدنيين الفلسطينيين واللبنانيين.
أي مراقب للمواجهات العسكرية بين إسرائيل ومقاتلي حماس وحزب الله، يمكن أن يقول إنه لا يستطيع التحسر على ضحايا الماكينة العسكرية الإسرائيلية، بسبب تسلطهم وجبروتهم واستهتارهم بحياة المدنيين حولهم، ولكنه قطعا لا يستطيع أو لا يريد أن يؤيد أو يمجد القاتل الذي يحرك هذه الماكينة الدموية.