خلال القمة الأخيرة لمجموعة الدول الصناعية العشرين، التي انعقدت في نيودلهي بالهند، نجح الرئيس بايدن وفريقه بمناوراتهم وعلاقاتهم مع حلفائهم الديموقراطيين التقليديين، وتحديدًا علاقاتهم واعتمادهم على الهند، الدولة المضيفة، في تحقيق هدفهم الأساسي في القمة، أي عزل الصين، وإضعاف نفوذها في “العالم الجنوبي” (Global South)، وإبقاء روسيا في قفص العقوبات الاقتصادية، وإبعادها بعض الشيء عن دول تعتبرها موسكو صديقة، مثل الهند وغيرها، وتحتاجها لمواصلة عدوانها ضد أوكرانيا. مرة أخرى، أثبت بايدن، منذ تشكيله لكتلة عالمية تمتد من الولايات المتحدة وتمر بأوروبا وتنتهي باليابان وكوريا الجنوبية لصد الحرب الروسية ضد أوكرانيا، وتعزيزه لتحالفات واشنطن مع الهند واليابان وأستراليا وغيرها من دول شرق آسيا لمواجهة العدوانية الصينية، إن الولايات المتحدة هي بالفعل “الأمة التي لا غنى عنها”.
يؤمن الكثير من الأميركيين أن بلادهم هي الأمة التي لا غنى عنها، وبعضهم كان يصفها بأنها المدينة المتلألئة فوق التلة، وكأنها منارة العالم، مع ما يحمله ذلك من مبالغات كبيرة، وحتى غطرسة فوقية. هذه الأوصاف المثالية هي نقيض الأوصاف التي يطلقها خصوم وأعداء الولايات المتحدة، مثل الأمبراطورية الأميركية، أو الامبريالية الأميركية. الأميركيون يبررون مقولة الأمة التي لا غنى عنها، بالإشارة إلى حقائق لا يمكن نكرانها، مثل دور الولايات المتحدة في إنقاذ أوروبا من أخطار الأنظمة النازية والفاشية والشيوعية، التي مزقت القارة في الحرب العالمية الثانية وخلال الحرب الباردة التي تلتها. إضافة إلى الانجازات الأميركية العلمية والصناعية والطبية الضخمة على مدى قرن ونصف، وما صاحبها من ابداعات ثقافية في مجالات الأدب والسينما والمسرح والموسيقى وغيرها، والتي غيّرت العالم، وأثرت على جميع ثقافاته.
في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، برزت صورة “الأميركي البشع”، ومعها ظاهرة غطرسة القوة التي عكستها بعض السياسات الأميركية التي دفعتها للتدخل في الشؤون الداخلية لدول أخرى، وحتى الاطاحة بأنظمتها اليسارية، والتورط عسكريًا في نزاعات بعيدة وغير ضرورية باسم مكافحة الشيوعية والدفاع عن الديموقراطية، ما أدى إلى خفوت أضواء المدينة المتلألئة، حتى في أعين الكثير من الأميركيين، وبروز التساؤلات حول جدوى وصحة مقولة الأمة التي لا غنى عنها.
ولكن على الرغم من ذلك ظلت الولايات المتحدة الدولة التي يتوقع العالم أن تكون الرائدة في مجال مكافحة الأوبئة العابرة للقارات، كما فعلت حين أرسلت آلاف العسكريين والاخصائيين لمكافحة وباء الايبولا، في غرب أفريقيا خلال ولاية الرئيس باراك أوباما. ومنذ إدارة الرئيس جورج بوش الابن وحتى إدارة الرئيس بايدن، أنفقت الولايات المتحدة عشرات المليارات على مكافحة تفشي أمراض الايدز والملاريا، وغيرها من التحديات الطبية في أفريقيا. الولايات المتحدة كانت في طليعة الدول التي تصدت لنظام عمر البشير حين كانت عصاباته تمارس القتل الجماعي ضد سكان دارفور في السودان. وبعد كل زلزال كارثي أو تسونامي مدّمر، يتوقع الضحايا أن تأتيهم المساعدات الاغاثية الأولية من فرق الانقاذ الأميركية أو أفراد المارينز الذين يوزعون عليهم المياه والأغذية والبطانيات والخيم.
ولو لم تبادر الولايات المتحدة بقيادة القوات الأطلسية لوقف المذابح التي تعرض لها المسلمون في يوغوسلافيا السابقة خلال تسعينات القرن الماضي، لاستمرت هذه الفظائع لوقت أطول. ولو لم تقم الولايات المتحدة بتشكيل وقيادة ائتلاف دولي لإنهاء الاحتلال العراقي العسكري للكويت في 1991، لبقيت الكويت “محافظة” عراقية ربما حتى اليوم.
ولو لم تقود الولايات المتحدة ائتلافًا دوليًا لصد الغزو الروسي لأوكرانيا، وتزويد قواتها بما قيمته عشرات المليارات من المعدات العسكرية، لكان الاحتلال الروسي قد نجح في تمزيق أوكرانيا ووضعها بالقوة في الفلك الروسي. نجاح الغزو الروسي كان سيشجع بدوره العدوانية الصينية ضد تايوان، وسياسات الصين التوسعية في منطقة بحر الصين، والتي دفعت بدول، مثل فيتنام والفيليبين وغيرها، للتقرب أكثر من الولايات المتحدة لردع الضغوط الصينية. توقف بايدن في فيتنام بعد الهند، جاء لتعزيز العلاقات الاقتصادية والسياسية مع هذه الدولة التي تقاوم الهيمنة الصينية في المنطقة.
خرجت الولايات المتحدة من أنقاض الحرب العالمية الثانية بصفتها الدولة الصناعية الوحيدة في العالم التي تضاعف حجم اقتصادها عدة مرات خلال الحرب بعكس جميع الدول الصناعية الأخرى التي كانت متقدمة على الولايات المتحدة صناعيًا وعلميًا وعسكريًا قبل الحرب، مثل ألمانيا واليابان وبريطانيا والاتحاد السوفياتي. في عام 1945 كان حجم انتاج الاقتصاد الأميركي يصل إلى أربعين بالمئة من الانتاج العالمي. في العقود التالية ساهمت الولايات المتحدة في إعادة بناء اقتصاد أوروبا واقتصادات أعدائها القدامى مثل المانيا واليابان، أولًا لمساعدتهم على الوقوف ضد الخطر الجديد المشترك الذي برز ما بعد الحرب، أي الاتحاد السوفياتي الذي سيطر على أوروبا الشرقية ودول بحر البلطيق والصين الشيوعية، ولأن الصناعات الأميركية كانت بحاجة إلى أسواق رأسمالية جديدة لبضائعها.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وبداية العولمة الاقتصادية، وهي الفترة التي نمت فيها اقتصادات دول العالم الجنوبي وتحديدًا الصين والهند والبرازيل، انحسرت مكانة الولايات المتحدة بصفتها الدولة الاقتصادية المهيمنة على الاقتصاد العالمي. ولكن الولايات المتحدة لا تزال تملك الاقتصاد الأول في العالم، ولكن الصين أصبحت في المرتبة الثانية بعد أن تخطت اليابان قبل بضعة سنوات، كما لا تزال الولايات المتحدة القائدة الفعلية لمجموعة الدول الصناعية السبعة في العالم، وهي دول غربية بمعظمها باستثناء اليابان.
مع حلول سنة 2006، بدأ قادة روسيا والصين والهند والبرازيل محاولة تشكيل تكتل اقتصادي يضم هذه الدول لتعزيز التعاون الاقتصادي فيما بينها، ولإضعاف نفوذ مجموعة الدول السبعة التي تقودها الولايات المتحدة. وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو الذي بادر بهذه الجهود. واجتمع قادة هذه الدول في قمة في روسيا في 2009، ولاحقًا انضمت إليهم جنوب أفريقيا في 2010، حيث أصبحت المجموعة تعرف باسم بريكس (BRICS)، وهي حصيلة الحروف الأولى من كل دولة باللغة الانجليزية. ويمثل سكان هذه المجموعة من الدول 41 بالمئة من سكان العالم، و24 بالمئة من مجمل الناتج المحلي في العالم، و16 بالمئة من حجم التجارة العالمية. وفي السنوات الماضية كانت بعض اقتصاداتها من أكثر الاقتصادات نموًا في العالم. دول المجموعة هم أيضا أعضاء في مجموعة الدول الصناعية العشرين، وجميعها شاركت في قمة نيودلهي الأخيرة، وإن تغيب عنها الرئيسان الروسي والصيني.
أحد طموحات، وربما الأصح أمنيات، مجموعة بريكس هو خلع الدولار عن مركزه الذي يحتله كأفضل عملة للتجارة الدولية منذ 80 سنة. هذه العملية تسمى de-dollarization بالإنجليزية. خلال آخر قمة لهذه المجموعة في جوهانسبرغ بجنوب أفريقيا، خاطب الرئيس بوتين المؤتمرين في كلمة افتراضية ادعى فيها أن عملية خلع الدولار أصبحت مسألة لا يمكن وقفها، بل إنها تزداد زخمًا على حد زعمه. الانقلاب ضد الدولار، واستبداله بسلة من العملات أو بعملة موحدة للمجموعة هو أحد هواجس الرئيس البرازيلي لويز لولا دا سيلفا. هذه الدعوات ليست جديدة، ولكنها اكتسبت زخمًا جديدًا خلال جائحة كورونا، حين بدت الهوة واسعة بين دول مجموعة السبعة الصناعية ومجموعة بريكس لجهة كيفية مكافحة الجائحة، وأصبحت أكثر إلحاحًا بعد التوترات الاقتصادية والسياسية الأخيرة بين واشنطن من جهة وموسكو وبيجين من جهة أخرى في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، وفرض العقوبات الغربية والأميركية ضد موسكو، وإبقاء إدارة الرئيس بايدن للعقوبات الاقتصادية ضد الصين التي فرضها سلفه دونالد ترامب. المسؤولون الروس والصينيون وأصدقائهم في المجموعة وخارجها يتهمون الولايات المتحدة “بعسكرة” الدولار، واستخدامه لخدمة أهداف سياساتها الخارجية.
خلال الشهر الماضي، وللمرة الأولى، استخدمت الهند عملتها الوطنية، الروبيه، ثمنًا لمليون برميل نفط من دولة الامارات العربية المتحدة بدلًا من الدولار. قد تتكرر مثل هذه التبادلات التجارية، ولكنها غير مرشحة للتطور في أي وقت قريب إلى نظام تجاري عالمي بديل يكون محوره عملة بديلة للدولار أو سلة عملات. ويرى الخبراء أن هناك أسباب مالية واقتصادية (التوصل إلى العملة البديلة والكيفية التي سيتم بها ذلك) وسياسية: انقسام المجموعة بين دول أوتوقراطية مثل روسيا والصين، ودول تحكمها أنظمة ديموقراطية، وإن كانت أقل ديموقراطية وانفتاحًا من أنظمة دول مجموعة السبعة. غياب الرئيس الصيني شي جينغ بينغ عن قمة نيودلهي، ذكّر الجميع بعمق الخلافات السياسية والتوتر الأمني والحدودي بين أكبر اقتصادين في المجموعة.
وفي تطور سياسي لافت ومحّير اقتصاديًا، دعت مجموعة بريكس في مؤتمرها في جوهانسبرغ في الشهر الماضي إيران والسعودية والإمارات ومصر والأرجنتين وأثيوبيا للانضمام إلى المجموعة. وباستثناء السعودية والإمارات، فإن الدول الأخرى سوف تشكل عبئًا اقتصاديًا على المجموعة على الأقل في المستقبل المنظور. الاقتصاد الإيراني في حالة يرثى لها لأسباب عديدة ليس أقلها نظام العقوبات الشامل الذي فرضته واشنطن وحلفاؤها على إيران. الاقتصاد المصري يرزح تحت مديونية ضخمة، وغير قادر على الحصول على قروض جديدة، ولا تزال مصر تعتمد على المساعدات الأميركية. أثيوبيا تعاني من أزمة اقتصادية تسببت بها حرب أهلية لم تنته كليًا حتى الآن، وعملتها خسرت الكثير من قيمتها. وتعاني الأرجنتين حاليًا من احدى أسوأ الأزمات المالية التي أصابتها في العقود الأخيرة، حيث زاد معدل التضخم عن أكثر من مئة.
خلال قمة العشرين، عمل الرئيس بايدن وفريقه بجهد لاستغلال غياب الرئيسين الصيني والروسي لتعزيز علاقات واشنطن مع بعض أقطاب مجموعة العشرين، وخاصة الهند وغيرها من دول الجنوب العالمي. وفي نكسة لخطة الصين التنموية في العالم، والمعروفة باسم “مبادرة الحزام والطريق”، والتي تستخدمها الصين منذ سنوات لبسط نفوذها الاقتصادي وخاصة في الجنوب العالمي، أبلغت رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني رئيس وزراء الصين لي تشيانغ، الذي مثل بلاده في القمة، عزم حكومتها الانسحاب من هذه المبادرة. وكانت مشاركة ايطاليا في المبادرة الصينية قد أصبحت نقطة خلافية بين واشنطن وروما. غياب الرئيس الصيني، ساهم في إبراز دور رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، الذي أراد الرئيس بايدن أن تكون القمة فرصة جديدة لتعميق العلاقات بينهما.
وفي خطوة لافتة تم توقيع “مذكرة تفاهم” بين الولايات المتحدة والهند والسعودية الإمارات وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والاتحاد الاوروبي لإقامة ممر اقتصادي (بحري وبرّي) يربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا، أعتبره الرئيس بايدن استثمارًا ضخمًا سيغير العلاقات الاقتصادية والتجارية بين هذه الدول. من جهته وصف رئيس الوزراء مودي مذكرة التفاهم بأنها ستكون منارة للتعاون والابداع والتقدم المشترك.
طبعًا، ليس من الواضح بعد كيف سيتم تمويل وتطوير هذا الممر، وكم سيستغرق إنشاؤه، وهل سيواجه تحديات داخلية برلمانية وسياسية في دوله الأوروبية، كما ليس من الواضح ما هو الدور الأميركي في هذا الممر الذي لا يشمل القارة الأميركية.
ولكن من الواضح أن دور واشنطن في التوصل إلى مذكرة التفاهم، يؤكد من جديد تصميم إدارة الرئيس بايدن على أن تكون هذه المبادرة، التي باركتها ورعتها الولايات المتحدة، البديل الاقتصادي لمبادرة الحزام والطريق الصينية، ولكي تؤكد الولايات المتحدة، ليس فقط لأصدقائها وحلفائها، بل أيضا لخصومها ومنافسيها في مجموعة العشرين ومجموعة بريكس، أنها كانت ولا تزال الأمة التي لا غنى عنها.