ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
يشارك في الحوار السعودي – الإيراني اليوم وسيط مهمّ وغير متوقّع، إذ يبذل كلّ من شركات الهندسة ومطوّرو الطاقة الكهربائية وبُناة السفن ومشغّلو المحطات قصارى جهدهم لتلبية متطلبات خطط التنوّع الاقتصادي في المملكة العربية السعودية وإيران. وتحمل معظم هذه الشركات الأساسية الجنسية الكورية الجنوبية، كجزءٍ من التشيبول، أو التكتلات الصناعية التابعة للدولة سابقًا التي حققت معجزة شرق آسيا في التحوّل الصناعي والتطوّر الاقتصادي الذي حوّل كوريا الجنوبية من اقتصادٍ بليدٍ تسيطر عليه الحكومة ومستند على الزراعة، إلى ديمقراطيةٍ رأسماليةٍ رائدة في القرن الواحد والعشرين. والأمر المثير للاهتمام في العلاقة بين كوريا وهاتين الدولتين المتنافستين على جهتي الخليج، لا يقتصر على واقع أنّ الشركات الكورية العامة الجديدة قادرةٌ على إبرام عقود بمليارات الدولارات (وبعضها في مجالاتٍ حساسة سياسيًا كالطاقة النووية) بين زبائن من جهاتٍ متخاصمة، بل يكمن أيضًا في حقيقة أنّ المملكة العربية السعودية تملك أسهمًا في هذه الشركات. فالرياض تستثمر اليوم في الشركات التي تقود مشاريع البنى التحتية وأهداف التنوّع الاقتصادي. ففي الواقع، تستثمر السعودية أيضًا في مشاريع البنى التحتية وأهداف التنوّع الاقتصادي الخاصة بإيران عبر علاقتها المشتركة مع كوريا.
ويقول منطق الترابط الاقتصادي أنّ التجارة تعزز السلام، أو أنّه السلام الرأسمالي كما تصوره الفيلسوف إيمانويل كانت، ومن بعده عالم الاقتصاد والسياسة جوزيف شومبيتر. فالبلدان التي تتعامل مع بعضها تكون أقلّ عرضةً لخوض الحروب في ما بينها (إلّأ أنّ ذلك لا يعني أنّها أقلّ عرضةً للخلافات). وكلّما اندمجت الاقتصادات، وليس بمعنى قدرة اقتصادٍ على التأثير في بلد آخر من خلال تصديرٍ منتج معين (كالنفط مثلًا) في شكل الاندماجٍ العمودي، بل في قدرته على الاندماج الأفقي ليشمل عددا كبيرا من مجالات التجارة والخدمات، كلّما برزت المنافع السياسية للترابط الاقتصادي. ففي زمنٍ من الانعزالية ورفض المهاجرين والنزاع الطائفي في السياسة العالمية، ظهرت بعض المؤشرات بأنّ الروابط الاقتصادية قد تسهم في حلّ هذه الانقسامات.
وتشكّل العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين خير مثالٍ تاريخي على ما سبق وذكرناه. ففي التسعينات، كانت التجارة والاستثمار الخارجي لغةَ الغرب الدبلوماسية. وقد ركّزت نصيحة الولايات المتحدة لأوروبا الشرقية ما بعد الشيوعية على إشاعة التحرّر الاقتصادي، أمّا الحوار مع الصين فقد ركّز على الروابط التجارية أكثر من حقوق الإنسان وإشاعة الديمقراطية. وقد شكّل عمل الرئيس الأمريكي بيل كلينتون لتسوية العلاقات التجارية مع الصين عام 1999 ودعم عضوية الصين في منظمة التجارة العالمية، خير دليلٍ على هذا المنطق وعلى البراغماتية الأمريكية في تلك الفترة. ومنذ التسوية التجارية، تجنّبت الولايات المتحدة الخلاف مع الصين. ومنذ عام 2000، وعلى الرغم من تفاقُم المخاوف الأمنية في السنوات الـ16 الأخيرة، شهدت الدولتان نموًّا اقتصاديًا ومكسبًا مشتركَين. ولم تتمكّن الروابط التجارية من إلغاء الخلافات، لكنّها جعلت من ثمن خوض الحرب باهظًا جدًا على الطرفين.
ويستثمر عددٌ من الشركات الكورية اليوم في إيران على غرار هيونداي ميبو Hyundai Mipo وهيونداي هيفي إندستري Hyundai Heavy Industry، فضلًا عن المصارف الإنمائية كبنك التصدير والاستيراد الكوري (KEXIM). وفي نفس الوقت هناك عقود وروابط اقتصادية لكوريا في المملكة العربية السعودية، فشركة هيونداي هيفي إندستري إحدى المؤسسات التي تبني محطاتٍ بحرية في المملكة من أجل تسهيل عمليات تصدير النفط وتكريره والإنتاج البتروكيميائي. والمثير للاهتمام أنّ كِلا المملكة العربية السعودية وإيران تسعيان إلى تنويع اقتصاديهما من خلال الاستثمار في مشاريع البنى التحتية، بما فيها محطات توليد الطاقة المتجددة وأنظمة الرعاية الصحية والمعالجة البيتروكيميائية. ويعتمد البلَدان على الخبرات والاستثمارات الأجنبية (الكورية مثلًا) من أجل تحقيق هذه الأهداف. وتعتمد خطة رؤية 2030 الخاصة بالمملكة العربية السعودية على قدرة البلاد على تعزيز تصديرها التقليدي للنفط الخام بسلسلةٍ من خطوط الاستخراج والتكرير والإنتاج الكيميائي.
وتشكّل الشراكات الاستراتيجية مع إحدى أشهر التكتلات الصناعية الآسيوية العامّة المثال الأنسب. فقد بدأت شركة هيونداي كجزءٍ من التشيبول العظيم للصناعة العامة، منذ أن تمّت خصخصتها وقُسّمت إلى شركاتٍ منفصلة مثل هيونداي هيفي إندستري وهي (إحدى أكبر شركات بناء السفن في العالم)، وهيونداي إنجينيرنغ أند كونستراكشن Hyundai Engineering and Construction وهيونداي ميبو وهي (شركة عالمية متخصصة في صناعة الناقلات البحرية). وقد بنت السعودية، وشركتها الرائدة أرامكو، شراكةً مع هذه المؤسسات نفسها من أجل تحقيق أهداف التنوّع الاقتصادي. وتشتري المملكة أيضًا أسهمًا في هذه الشركات، بما في ذلك استثمارات مهمّة في شركتَي هيونداي ميبو وبوسكو.
والجدير بالذكر في هذا السياق، أنّ شركة كيبكو الكورية (Korea Electric Power Corporation – KEPCO) تؤدّي الدور الأساسي في بناء محطات الغاز والطاقة المتجددة والنووية في كل من إيران ودول مجلس التعاون الخليجي (كالإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية). وإنّ الحكومة السعودية ناشطةٌ في بناء الشراكات من خلال قطاعها الخاص وقطاعها العام والمستثمرين الأجانب من أجل تمويل هذه المشاريع الضخمة. وقد ضمّ مشروع الطاقة المستقل – الذي أعاد تمويل محطة رابغ 1 السعودية لتوليد الكهرباء – دَينًا بقيمة 1.825 مليار دولار أمريكي في منشأةٍ مشتركة بين أكوا باور وكيبكو والشركة السعودية للكهرباء. ففي هذه الحالة، يكون التمويل المشترك انتقالًا من نموذج الشركة السعودية الحكومية، ما يوزّع الخطر الاقتصادي بين الحكومة والشركات الخاصة والمستثمرين الأجانب. وتعني الملكية المشتركة أنّه في حال فشلت مشاريع الشركاء في مواقع أخرى (في إيران مثلًا)، قد يؤثّر ذلك سلبًا على المشاريع داخل المملكة. ويشكّل نموذج مشروع الطاقة المستقل (IPP) جزءًا من جهود المملكة العربية السعودية للاتكال بشكلٍ أكبر على القطاع الخاص من أجل تنشيط النمو ( وبالتالي تسديد تكاليف مشاريع تطوير البنى التحتية). وتتحلى المملكة من خلال الشراكات والملكية المشتركة للمشاريع بالمزيد من المرونة المالية، إلّا أنّ هذه الاستراتيجية تربط مستقبل المملكة العربية السعودية بمنشآتٍ مرتبطة بالقدر عينه بمستقبل خصمها إيران. وتشير العمليات الإيرانية الخاصة بشركة كيبكو والعقد بقيمة 10 مليارات دولار أمريكي الذي أبرمته بالتوازي مع شركة تافانير (Tavanir) الإيرانية إلى هذا الترابط الاقتصادي. وسوف يرتبط نجاح مشروع رؤية 2030 السعودي بنجاح هذه الشركات والشراكات والمؤسسات التي تستثمر فيها الحكومة.
أمّا بالنسبة للدول الخليجية، فما زالت أمامها فرصةٌ لرسم طريقها بنفسها في زمنٍ من التردد حيال العولمة، وتكوين نماذجه الخاصة من الحوكمة الاقتصادية وتصوّر سلامٍ رأسمالي مع الدول المجاورة. وما فتأت مخاوف دول الخليج الأمنية تتفاقم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتتأجج في ظلّ الحرب السورية والاضطرابات العراقية والتهديد الإيراني المحسوس. إلّا أنّه على الرغم من الخطر الفعلي الذي يطرق بابها، ما زالت الدول الخليجية، وأهمّها الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، تبني روابط اقتصادية مع خصمها الإقليمي، وذلك بشكلٍ أساسي من خلال الشركات “الوسيطة” التي تتمتّع بالخبرات التي تحتاجها الدولتان في مجال تطوير البنى التحتية. ولا تزال هذه الروابط أوليةً ولا تدلّ على أيّ تغييرٍ في السياسة الخارجية. إلّا أنّ هذا النوع من الالتزامات ومكامن النفوذ المالية هو الذي يرفع من ثمن الخلاف ويجعله متعارضًا مع الأهداف المشتركة الكامنة في النمو والتنوّع الاقتصاديَين.