“الأزمة تتلخص على وجه التحديد بحقيقة أن القديم يموت والجديد غير قابل للولادة، وفي فترة الفراغ هذه سوف تبرز مجموعة كبيرة من الأعراض المرضية”. أنطونيو غرامشي
أدخل الغزو الروسي لأوكرانيا العالم في مرحلة انتقالية محفوفة بالمخاطر، التي لا يمكن التنبؤ بها بأي يقين. إنها تلك الفترة الصعبة والغامضة بين موت النظام القديم وقبل ولادة البديل الجديد، التي تبرز فيها ظواهر وأعراض مرضية وكئيبة وعبثية، وتسود فيها مشاعر انعدام اليقين قبل بزوغ الفجر الذي يكشف ملامح الحقبة الجديدة. صياغة أنطونيو غرامشي، الفيلسوف الإيطالي اليساري، لهذه المرحلة هو أفضل وصف لعملية الانتقال من حقبة إلى أخرى. إنها الفترات التي نصفها بعبارات مثل “المرحلة المفصلية” أو “الفترة الانتقالية”. أحيانا تستخدم هذه العبارات بسهولة غير مبررة، والبعض يبتذلها، ولكنها دقيقة حين استخدامها لوصف ما يحدث في أوكرانيا.
الغزو الروسي لأوكرانيا أدى إلى زج البلدين في صراع عسكري، ولكنه صراع يغطي جبهة واسعة تضم من جهة دول حلف الناتو والديموقراطيات الليبرالية الأخرى مثل أستراليا ونيوزيلاندا واليابان وكوريا الجنوبية وتقودها عمليًا الولايات المتحدة. وفي المقابل جبهة أقل تماسكا تقودها روسيا، وتضم روسيا البيضاء، وورائها أطراف مترددة بدرجات متفاوتة وميول أوتوقراطية مختلفة مثل الصين والهند والبرازيل والأرجنتين، وأخرى انتهجت ما أسمته بسياسة “الحياد” لأسباب مختلفة، من بينها تدني علاقاتها مع الولايات المتحدة، ورفضت إدانة الغزو بسبب علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع موسكو، ومن بينها دول عربية تنسق إنتاجها النفطي مع روسيا مثل المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة.
الصراع العسكري فوق أراضي أوكرانيا، تسبب بصراع اقتصادي لمعاقبة روسيا، أدى عمليًا إلى حصارها ماليًا وتجاريًا، بشكل غير مسبوق، ضد دولة كبيرة بحجم روسيا. الغزو الروسي لأوكرانيا هزّ العالم بأكمله، وزجه في مرحلة الفراغ وانعدام اليقين والأعراض الغريبة التي تأتي بعد بداية موت القديم وقبل بروز ملامح الحقبة الجديدة. وللمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية تقوم دولة أوروبية بغزو دولة أخرى والبدء بحرب نظامية. وللمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية تشهد أوروبا أزمة لاجئين بهذا الحجم الكبير (ثلاثة ملايين لاجئ في الدول المحيطة بأوكرانيا، بمعدل مليون في الأسبوع الواحد). وللمرة الأولى يقوم رئيس أميركي بوصف رئيس دولة هامة مثل روسيا بـ “مجرم حرب”.
ما يشهده العالم اليوم هو المتغيرات العسكرية والسياسية والاقتصادية والإعلامية التي بدأت لحظة عبور دبابات فلاديمير بوتين لحدود أوكرانيا، ثاني أكبر دولة أوروبية بعد روسيا، دولة خارج حلف الناتو، وخارج الاتحاد الاوروبي، ولكنها أوروبية بكل معنى الكلمة. وبعد ثلاثة أسابيع على بدء عدوان عسكري، غير مبرر، استهدف مدن أوروبية عريقة مثل كييف وأوديسا وغيرها، وجلب إليها خرابًا مماثلًا للخراب الذي زار أبرز عواصم ومدن أوروبا في الحرب العالمية الثانية، اكتشفت روسيا، ومعها بقية العالم محدودية القوة العسكرية الروسية واخفاقاتها المحرجة، وهشاشة الاقتصاد الروسي، وفي المقابل صلابة المقاومة الأوكرانية، وشجاعة شعب يعيش في دولة لا يتعدى استقلالها الثلاثين سنة، وثبات أوروبا المفاجئ لسكان قارة عجوز بدت في السنوات الماضية وكأنها مفككة وتائهة في الصحراء السياسية.
الغزو الروسي لأوكرانيا، أعطى معنى جديدًا وشرعية أعمق لشعار الرئيس جوزيف بايدن، “المواجهة اليوم هي بين الأنظمة الديموقراطية، والأنظمة الأوتوقراطية في العالم”، الذي بدى في مطلع ولايته وكأنه شعار انتخابي ليس أكثر. وفجأة أكتشف العالم، بالفعل، أن هناك خطوط تماس حارة وحادة بين هذين المعسكرين.
العقوبات المالية والاقتصادية والتجارية المفروضة على روسيا هزّت النظام المالي العالمي الذي لا تزال العملات الغربية (الدولار واليورو) تسيطر عليه، والذي تسيرّه أنظمة مالية ومصرفية غربية، مثل نظام سويفت للتحويلات المالية، وحيث لا تزال المصارف الأميركية والأوروبية هي البيوت الدافئة للودائع والاحتياطات المالية، حتى لأبرز الدول الأوتوقراطية مثل روسيا والصين، وتلك الطبقة الدولية من أصحاب الثراء الفاحش والفضائحي، من أسياد تبييض الأموال وتهريبها، والتهرب من دفع الضرائب ونهب ثروات الدول لصالح حكامها المتسلطين، والتي تحمل اسمًا إغريقيًا قديما هو الأوليغارشية. هذه الطبقة الأوليغارشية هي الوجه البشع لروسيا منذ انهيار النظام الشيوعي، وهي التي يعتمد عليها بوتين في حكمه وفي جمع وحماية ثروته. الأوليغارشية الروسية، هي جزء من طبقة أوليغارشية عالمية أصبحت جزءًا من السلطة السياسية في دول عديدة، وهذه الطبقة تستثمر ثرواتها في عقارات وأملاك ويخوت وتحف تشتريها أو تحتفظ بها في الدول الغربية.
لا نعرف بيقين في هذا الوقت المبكر، إلى أين ستصل المتغيرات التي فجّرها الغزو الروسي لأوكرانيا. وإذا نجحت روسيا في القضاء على المقاومة الأوكرانية – وهذا أمر لم يعد حتميًا، كما بدا لمعظم المراقبين قبل الغزو – فإن مضاعفات ذلك سوف تكون كارثية ليس فقط على القارة الأوروبية، بل على جميع الدول التي تحكمها أنظمة ديموقراطية ليبرالية. وإذا سادت سلطة بوتين في أوكرانيا، فإن ذلك سيضع الغرب بكامله في موقع دفاعي صعب، وسوف يشجع الحكاّم الأوتوقراطيين وطغاة العالم، الذين لهم أطماع في ثروات وموارد أو أراضي جيرانهم للاستيلاء على هذه الموارد، وهذا سيشجع الصين على المطالبة بتايوان، ويعزز التوتر بين الهند وباكستان حول مستقبل كشمير، وسوف يعزز من ثبات الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وتشجيع تركيا على البقاء في شمال سوريا، كما سيشجع العدوانية الإيرانية، المباشرة وغير المباشرة، ضد بعض الدول العربية، وهذه أمثلة قليلة حول المضاعفات الدولية لنجاح عدوان بوتين ضد أوكرانيا.
ولكن في المقابل، إذا تصرف هذا الائتلاف الدولي، الذي تقوده الولايات المتحدة ضد الغزو الروسي، واعتبر أن أوكرانيا أصبحت الجبهة المركزية في هذه المواجهة بين الأنظمة الأوتوقراطية والمتسلطة من جهة والأنظمة الليبرالية من جهة أخري، فإنه سيلحق نكسة تاريخية بهذه الكتلة المتسلطة والفاسدة في العالم، سوف تكون مشابهة، إلى حد كبير، بالهزيمة التي تعرضت لها الامبراطورية السوفياتية قبل أكثر من ثلاثين سنة.
سوف يدرس المؤرخون لوقت طويل الأسباب التي دفعت بحاكم روسيا للاعتقاد أنه قادر على تحمل تبعات غزو دولة جارة وهامة مثل اوكرانيا، لأن الغرب، وتحديدًا الولايات المتحدة، لن يقف في وجهه ولن يتجرأ على ردعه. الذين يقولون أن قرار بوتين غزو أوكرانيا هو قرار غير عقلاني ومقامرة تاريخية يظلمونه بعض الشيء. من وجهة نظره كحاكم متسلط، بوتين تصرف عقلانيًا، لأنه عندما استخدم العنف الوحشي في قمعه للتمرد في الشيشان، وحين حوّل مدينة غروزني إلى أنقاض، كان الغرب يعرب عن “قلقه” فقط لأعمال العنف. بوتين اعتدى على جورجيا في 2008، وقضم بعضًا من أراضيها، ولكن الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، لم يتصد له أو يعاقبه بشكل جدي. بوتين غزا أوكرانيا للمرة الأولى في 2014، واستولى على شبه جزيرة القرم وضمها إلى روسيا، كما استولى على إقليمين في شرق أوكرانيا، وخلق حركة انفصالية (وأسقطت الصواريخ الروسية طائرة ركاب ماليزية فوق تلك المنطقة)، ولكن العقوبات التي فرضها الرئيس الأسبق باراك أوباما لم تكن مؤلمة. أوباما لم يسلح أوكرانيا بأسلحة دفاعية، مثل صواريخ ستينغر المضادة للطائرات، لكي لا “يستفز” بوتين.
وخلال السنوات التي أعقبت غزو بوتين الأول، كافأته أوروبا، وتحديدًا ألمانيا، من خلال زيادة اعتمادها على الغاز والنفط الروسيين. وعندما تدخل بوتين عسكريًا في سوريا في 2015، وصلت سذاجة إدارة الرئيس أوباما آنذاك للقول أنه سيواجه وضعًا مماثلًا للوضع الذي واجهه السوفيات خلال احتلالهم لأفغانستان. وعندما كانت طائراته تدك بمدينة حلب، احدى أجمل وأعرق المدن العربية، واصل العالم إصدار بيانات الإدانة والاعراب عن الأسف، ولكن بوتين لم يدفع أي ثمن. ولكل هذه الأسباب ربما اعتقد بوتين، أن الرئيس بايدن، الذي انتخب وسط استقطابات وانقسامات عميقة داخل المجتمع الأميركي، والذي وسمه أنصار الرئيس السابق ترامب بالضعيف، والذي تعرض لانتقادات قاسية بعد الانسحاب الفوضوي والدموي من أفغانستان في الصيف الماضي، أنه سيواجه معارضة غير فعّالة كما حدث خلال غزوه الأول لأوكرانيا.
تعرضت سمعة ومكانة الولايات المتحدة في العالم خلال هذا القرن إلى أضرار كبيرة، نجمت، إلى حد كبير، عن ردود فعلها المتهورة التي أعقبت هجمات سبتمبر الإرهابية في 2001، والتي دفعتها إلى خوض أطول حربين في تاريخها، في افغانستان، التي كان يفترض أن تكون حربًا عقابية قصيرة ومحدودة، والعراق، وهي كانت حرب خيار وغير ضرورية على الاطلاق. ولكن على الرغم من أخطاء وخطايا الولايات المتحدة، فإنها تبقى دولة ديموقراطية وقرارات سلطتها السياسية تخضع للنقد الداخلي والمحاسبة. ومن المؤسف أن الغزو الأميركي للعراق – وهو غزو كان يهدف إلى تغيير نظام متسلط وليس لاحتلال وضم أراضي العراق، كما هو حال روسيا في أوكرانيا – قد أضعف الإدانة الأخلاقية الأميركية للغزو الروسي، ومع ذلك فإن السلوك الأميركي خلال الأزمة الراهنة كان متميزًا وحكيمًا وصائبًا. وموقف واشنطن يبين، أكثر من أي وقت مضى منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، أن الدور القيادي الأميركي في العالم ضروري للحفاظ على السلم الدولي، وعلى فرص الدول الديموقراطية، والمجتمعات التي تريد أن تعيش في ظل أنظمة ديموقراطية أن تحقق طموحاتها هذه دون خوف من استبداد طغاة العالم.
الذين يدعّون أن الدول الكبرى تتصرف بعنجهية مماثلة، أو أنه لا توجد هناك اختلافات في كيفية تعاطي الولايات المتحدة، بشكل عام، مع دول العالم بطريقة أفضل من تعاطي دول متسلطة، مثل روسيا أو الصين مع العالم، يخطئ في هذا الوصف. صحيح أن الغزو الأميركي للعراق لم يكن مبررًا سياسيًا او أخلاقيًا، وأن القوات الأميركية ارتكبت انتهاكات لحقوق العراقيين (فضيحة سجن أبو غريب وغيرها)، ولكن الصحافة الأميركية هي التي كشفت هذه الفضائح، والقضاء الأميركي هو الذي حقق فيها. إدارة الرئيس بوش الابن سمحت باستخدام أساليب قاسية لاستنطاق المشتبه بضلوعهم في الارهاب، مثل الايحاء بإغراق المشتبه بهم، ولكن إدارة الرئيس أوباما اعتبرت ذلك نوعا من التعذيب وألغته. الصحافة الأميركية سلطت اهتمامها الانتقادي على سجن غوانتانامو، ولم تتردد في محاسبة الانتهاكات. لن نرى أي محاسبة مماثلة لما تقوم به القوات الروسية في اوكرانيا.
كل حرب خاضتها الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، واجهت معارضة من الكثير من الأميركيين الذين كانوا يعبرون عن معارضتهم، برفض المشاركة فيها (كما حدث خلال حرب فيتنام) أو التظاهر ضدها او الكتابة ضدها. مثل هذه المعارضة ممنوعة في روسيا، والرئيس بوتين لا يخجل في وصف معارضي غزو أوكرانيا بالخونة، وأنه يريد “تطهيرهم” من روسيا.
لو لم تقف الولايات المتحدة بقوة في وجه غزو بوتين لأوكرانيا، لما كان هناك جبهة دولية عريضة تتصدى اليوم للإمبريالية الروسية. هذه هي احدى أهم وأبسط الحقائق السياسية في العالم اليوم. وفي هذا السياق يجب أن نقول أنه لو لم تكن الولايات المتحدة موجودة، لكان من الضروري وجودها.