اختتم البابا فرانسيس في الخامس من شباط زيارة تاريخية إلى الإمارات العربية المتحدة استغرقت ثلاثة أيام، وهي جولة لم يسبق لها مثيل للبابا وزعيم الكنيسة الكاثوليكية الرومانية إلى شبه الجزيرة العربية. لقد سبق هذا الحدث التاريخي الهام سنوات من الإعداد، ويمثل الحلقة الأبرز في سلسلة من المبادرات التي من شأنها أن تجعل الإمارات العربية المتحدة نصيرًا للحوار بين الأديان والاعتدال والتعددية. وهي ما تعتبر الركائز الفكرية للقوة الإماراتية الناعمة، التي تربط ما بين مكانة الإمارات العربية المتحدة كمركز اقتصادي في الاقتصاد العالمي، وبين مركزها القيادي في الشرق الأوسط، وتواصلها مع المجتمع الدولي على نطاق أوسع.
الزيارة البابوية، ومبادرات الزعامات الدينية، و”عام التسامح”
تهدف نشاطات البابا فرانسيس في الإمارات إلى تسليط الضوء على الدور القيادي للبلاد في العديد من المجالات المتميزة: التسامح بين مختلف الجماعات الدينية في الداخل، ومناصرة لقاء الزعامات الدينية مع طليعة القيادة الإسلامية في العالم العربي، وتيسير الحوار بين الأديان على مستوى العالم. لقد تم ترتيب زيارة البابا لتتزامن مع المؤتمر العالمي للأخوة الإنسانية، وهو حوار بين زعماء الديانات الإسلامية والمسيحية واليهودية والهندوسية والبوذية والسيخ، يركز على تشجيع التعايش السلمي بين المجتمعات. وإلى جانب اجتماعاته مع القيادة الإماراتية، كان للبابا فرانسيس لقاء مع أحمد الطيب الإمام الأكبر للأزهر في مصر ورئيس مجلس حكماء المسلمين في أبو ظبي. وقد اختتم البابا برنامجه في احتفال عام بقُداس ديني في مدينة زايد الرياضية بحضور أعضاء الجالية الكاثوليكية الذين يعيشون في الإمارات العربية المتحدة بالإضافة إلى دولٍ شرق أوسطيةٍ أخرى.
يعد المؤتمر العالمي مؤشرًا على مجموع الحوارات بين الأديان التي عقدت على مدى السنوات العديدة الماضية، والتي ترأسها في أغلب الأحيان مجلس حكماء المسلمين ومبادرات الزعامات الدينية الأخرى التي نشأت في أعقاب الانتفاضات العربية. وقد عمل المجلس الإسلامي على إضفاء الطابع المؤسسي على التعاون بين الإمارات والأزهر، معتمدًا على مكانته كالمؤسسة الأبرز للتعليم الإسلامي وأهمية مصر كأكبر بلد عربي من حيث عدد السكان.
قام المجلس الإسلامي ومنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة بالترويج لمحادثات داخل الإسلام ومع الأديان الأخرى. وتلعب هذه المبادرات دورًا قياديًّا في الارتقاء بالمكون الفكري في مكافحة التطرف من خلال الاعتراف الضمني بالاختلافات والتسامح فيها. وغالبًا ما قاموا بإشراك مجتمعات دينية في برامجهم لهذه الغاية، مثل تحالف الأديان من أجل أمن المجتمعات في تشرين الثاني 2018 في أبو ظبي والمجلس العالمي للمجتمعات المسلمة في أيار 2018.
لقد تم تنظيم هذه المبادرات الدولية لتتزامن مع الحملات المحلية المناصرة للتعددية الثقافية وقبول الآخر في المجتمع الإماراتي. وأصدر الرئيس الإماراتي الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان في عام 2015 مرسومًا اتحاديًا يجرم التكفير بحق أي ديانة، فضلا عن خطاب الكراهية. في العام التالي، استحدثت الحكومة منصبًا جديدًا، وزير الدولة للتسامح، وصادقت على برنامج التسامح الوطني لتعزيز دور الحكومة كحاضنة للتسامح. وقد تُوجت هذه الجهود بالإعلان عن عام 2019 “عام التسامح“، والهدف من ذلك تسليط الضوء على نشاط القيادة الإماراتية في غرس قيم التعايش والسِلم في المجتمعات المحلية والإقليمية والدولية.
إن فهم سبب قيام دولة الإمارات العربية المتحدة برفع التعددية الثقافية والحوار بين الأديان إلى مثل هذه الصدارة، واستثمار رصيد مؤسساتي، فضلا عن طاقة القادة الذهنية في هذه القضايا، يتطلب فهم موقف الإمارات الاستراتيجي في الاقتصاد العالمي وتطلعاتها في المنطقة على نطاق أوسع.
تعدد الثقافات يرسخ الاقتصاد العالمي
في الوقت الذي لا تزال فيه الإمارات العربية المتحدة تعتمد في دخلها الأساسي على النفط، إلا أنها قد سبقت أي دولة خليجية أخرى في تنويع اقتصادها، جزئياً من خلال فتحه للمقيمين من غير الإماراتيين وأصحاب المصالح. وفي الواقع، ترعى دولة الإمارات العربية المتحدة المشاركة الأجنبية -كمستثمرين وزائرين- لدرجة لا مثيل لها في الخليج. وهكذا كانت الإمارات العربية المتحدة أول دولة تفتح المجال للملكية العقارية الأجنبية، وأخذت في الآونة الأخيرة، تسمح للأجانب بالتملك الكامل للشركات والحصول على تأشيرات إقامة طويلة الأمد مع بعض القيود.
وقد أتاح هذا النهج للإمارات العربية المتحدة تحقيق النجاح، بكونها مركزًا للنقل والمال والتجارة وحتى السياحة، في بناء علامة تجارية معترف بها دوليًا. ولكن لم يكن ليتأتى ذلك من دون إثارة بعض الهواجس الداخلية، حيث إن الإماراتيين يمثلون أقل من 15 في المئة من مجموع السكان. ويتم التعبير عن هذا القلق في الحملات الانتخابية للمجلس الوطني الاتحادي المنتخب، حيث يعبر المرشحون عن خوفهم من ضياع الثقافة الإماراتية المتميزة ونمط حياتهم. وقد ردت الحكومة الإماراتية على ذلك من خلال المحافظة على الامتيازات الاقتصادية للإماراتيين والمعايير الثقافية مثل اللباس المتميز. ومع ذلك فقد تم تأطير المشاعر الوطنية الإماراتية بطرق تشجع الإماراتيين على تقبل هذه المجتمعات الاستثمارية والمساهمة المتنوعة، مع التعددية والتسامح كقيم رائدة.
التواصل بين الأديان والقوة الإماراتية الناعمة
في السنوات الأخيرة، تمت مواكبة هذا التقدم في تحديد مكانة الإمارات العربية المتحدة كمركز إقليمي مهم في الاقتصاد العالمي من خلال تطلعات سياسية جديدة لإبراز القيادة الإماراتية في المنطقة والعالم. لقد أصبحت قيم التعددية الثقافية والتسامح الديني ذاتها مراجع فكريةً هامة يتم تسخيرها في مواجهة المنافسين الإقليميين للفوز بالحلفاء الدبلوماسيين.
لقد ناصر الإماراتيون النضال ضد التطرف، وعبروا عن ذلك من الناحية الأيديولوجية والعملية. تخلط وجهة النظر هذه بين المنظمات الإرهابية مثل الدولة الإسلامية في العراق والشام وبين الحركات السياسية مثل جماعة الإخوان المسلمين، التي أيّد أعضاؤها ذات مرة حماية مصالح المواطنين في الإمارات العربية المتحدة. في هذا الصراع الأيديولوجي، تشكل الحوارات بين الأديان وصنع السلام التي تقوم بها المنظمات الإماراتية تناقضًا مفيدًا مع الجمعيات الإسلامية الناشطة مثل الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ومقره قطر، الذي تتركز جهوده على حشد الدعم للمجتمعات الإسلامية.
كما أعرب المسؤولون الإماراتيون عن اهتمامهم في بقاء الأقليات مثل المسيحيين الأقباط في مصر والإيزيديين في العراق، حيث يرون أن القضاء على التنوع الإقليمي يشكل تهديدًا للنموذج الخاص بهم. “إعلان مراكش” بشأن حقوق الأقليات الدينية في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة، الذي انبثق عن مؤتمر مشترك نظمه المغرب ومنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، يتطرق لمحنتهم. وتُمثل استضافة البابا فرانسيس، التي أثارت ازدراء القوى الإسلامية الفاعلة التي رأت في وجوده في شبه الجزيرة العربية إهانة لمعقل الإسلام، دليلاً آخر على الالتزام الإماراتي بهذا الموقف. ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه المبادرات، لا يزال موقف المجتمعات المسيحية في الشرق الأوسط محفوفًا بالمخاطر، وهو الدافع الأساسي لزيارة البابا.
لقد كانت مناصرة الإمارات لشرقٍ أوسط أكثر تعددية عنصرًا فعالاً في الدبلوماسية الدولية للإمارات العربية المتحدة. ويحظى الموقف الفكري القوي للإماراتيين ضد الراديكالية الإسلامية بتقدير كبير من قبل الولايات المتحدة، وكذلك هو الحال بالنسبة لمناصرة الإمارات للأقليات والمجتمعات المسيحية في الشرق الأوسط. لقد فتحت مبادرات الحوار بين الأديان الأبواب لأصحاب مصالح رئيسيين في سياسات الولايات المتحدة من المهتمين بالمجتمعات المسيحية في الشرق الأوسط وبقبول إسرائيل في المنطقة.
قوة وتناقضات القوة الإماراتية الناعمة
كما هو الحال مع أي قوة ناعمة، هناك تناقضات وحدود لهذه المواقف الأيديولوجية. في الوقت الذي يناصر فيه الإماراتيون العناصر الثقافية الليبرالية، فإن تمسكهم بالتعددية لا يمتد إلى التصريح السياسي المفتوح والتمثيل الديمقراطي داخل الإمارات العربية المتحدة. وتمارس الجاليات الدينية انفتاحًا أكبر من أي مكان آخر في دول الخليج، لكن لا تزال قوانين التكفير سارية المفعول ويبقى النشاط التبشيري من قبل غير المسلمين غير شرعي. في أماكن أخرى من المنطقة، كانت الإمارات العربية المتحدة على استعداد لاستغلال الفرص في التحالف مع الجماعات المناوئة للتسامح، مثل المليشيات السلفية في اليمن التي اقتضتها الضرورة لمقاومة جماعة الإخوان المسلمين والحوثيين. وبالطبع، فإن المواجهة الإيديولوجية الإماراتية للإخوان المسلمين ساهمت في الانقسامات داخل منطقة الخليج والشرق الأوسط على نطاق أوسع، وهي المواجهات التي يعتبرونها ضرورية لتحقيق التحول الذي يسعون إليه في المنطقة.
تركز مبادرات الأديان الإماراتية على قوة الدعوة لانعقاد الحوار وإعادة صياغته، وهناك ما يبرر بعض الشكوك فيما يتعلق بالقدرة على تغيير الواقع على الأرض. وقد لمَّح البابا فرانسيس نفسه إلى هذه العيوب في ملاحظاته في الرابع من شباط، داعيًا إلى المساواة في حقوق المواطَنة للمسيحيين وأشار إلى التكاليف الإنسانية المروعة لحرب اليمن.
ومع ذلك، لا يزال هناك تماسك داخلي للموقف الإماراتي المنحاز لمصالحها الاقتصادية في التنافس الإقليمي والدبلوماسية الدولية. لقد قام الإماراتيون باستثمار كبير في إنشاء هذا الخطاب: بناء نزعة قومية تتوافق مع الوضع الاقتصادي العالمي لدولة الإمارات، ومواجهة إيجابية للخصوم الإسلاميين في المنطقة، ومَرجِعٌ قوي في الدبلوماسية الدولية. كان الترحيب بالبابا في الإمارات هو أحدث تعبير عن هذا الالتزام والاهتمام الدولي الذي يمكن أن يجلبه.