المواجهة الدموية الأخيرة بين إسرائيل وحركة حماس في غزة لم تكن الأكثر دموية أو الأطول، خاصة عند مقارنتها بجولة القتال في 2014، والتي وصلت ضحاياها إلى الآلاف، وخلفت ورائها أهرامات عالية من الركام والأطلال في غزة. لكن التداعيات والمضاعفات البعيدة للمعركة الأخيرة تجعلها مختلفة نوعيًا وسياسيًا عن سابقاتها داخل إسرائيل وفي أوساط الفلسطينيين، وفي العالم العربي، وداخل الولايات المتحدة، وحتى في العالم.
أي مراجعة سريعة لما حدث خلال 11 يومًا من القتال والقصف العشوائي من قبل إسرائيل وحركة حماس، وللمشهد السياسي في المنطقة بكاملها بعد وقف إطلاق النار وردود الفعل الأميركية والعالمية يبرز بعض الحقائق الأولية المرشحة للتطور أكثر إيجابيًا أو سلبيًا.
أكدت المواجهة الأخيرة أن ادعاءات الكثيرين في السنوات الماضية بأن القضية الفلسطينية أصبحت مهمشة وجانبية، حتى بالنسبة للعرب، لأسباب عديدة – من بينها تفاقم الخطر الإيراني الإقليمي، والاستياء من تطرف حركة حماس في غزة وتحالفها مع إيران وتركيا، ولفساد السلطة الفلسطينية في رام الله – لم تكن صحيحة، على الرغم من صحة الانتقادات الموجهة لإيران وتركيا وللقيادات الفلسطينية.
إجراءات إسرائيل ضد الفلسطينيين في القدس الشرقية، واقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى خلال شهر رمضان، وضع الدول العربية، التي طبعّت علاقاتها في السنة الماضية مع إسرائيل، مثل دولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين، في موقع محرج، دفعها لتوجيه انتقادات قوية للسلطات الإسرائيلية، وخاصة بعد أن لجأ العديد من المواطنين العرب في منطقة الخليج وخارجها إلى وسائل الاتصال الاجتماعي للتعبير عن غضبهم من إسرائيل وممارساتها.
ساهم القتال، في المستقبل المنظور على الأقل، في تعزيز نفوذ المتطرفين واليمين في إسرائيل، كما ساهم في وضع حركة حماس في الواجهة، وسمح لها بالادعاء بأنها هي المدافع الأول عن حقوق الفلسطينيين، حتى في القدس، الأمر الذي ساهم، بدوره، في تهميش السلطة الفلسطينية في رام الله.
الجهود التي بذلتها الديبلوماسية الأميركية، أولاً من قبل وزير الخارجية انطوني بلينكن ووزير الدفاع لويد أوستن ومستشار الأمن القومي جايك سوليفان، ولاحقًا من قبل الرئيس بايدن، والتي شملت تجنيد الدول العربية للتدخل لدى حركة حماس، مثل مصر وقطر، أو لدى إسرائيل، مثل الأردن والإمارات، أكدت من جديد مركزية الولايات المتحدة في المنطقة على الرغم من الاتجاه العام للسياسة الأميركية منذ سنوات بتقليص الحضور الأميركي العسكري، وحتى الديبلوماسي، في الشرق الأوسط، والتركيز في المقابل على الشرق الأقصى. ولكن في الوقت ذاته، أظهرت الجهود الأميركية أن واشنطن قد فقدت بعضا من قدراتها السابقة في التأثير على القرار الإسرائيلي، لأن إسرائيل التي نجحت في إقامة علاقات اقتصادية واستراتيجية هامة مع دول كبيرة مثل الصين والهند وروسيا قد عززت من مناعتها ضد الضغوط الأميركية. صحيح إن الولايات المتحدة تقدم لإسرائيل حوالي 4 مليارات دولار سنويًا، معظمها مساعدات عسكرية، ولكن هذا المبلغ يمثل واحد بالمئة فقط من الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي. هذه المناعة الاقتصادية الإسرائيلية تعزز من قدرة قادة إسرائيل على مقاومة الضغوط الأميركية.
ربما أهم ما تمخض عن القتال الأخير بين إسرائيل وحركة حماس، هو ظاهرة الاشتباكات بين المواطنين الفلسطينيين واليهود داخل إسرائيل، خاصة في المدن المختلطة، وهي ظاهرة خطيرة فاجأت الكثير من القياديين الإسرائيليين، وعكست ثبات واستمرار التمييز المؤسساتي ضد المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل. أعمال الشغب والاعتداءات، التي طالت مواطنين عرب ويهود، أظهرت بشكل سافر مدى اخفاق إسرائيل بعد 73 سنة على إنشائها في تحويل الفلسطينيين، الذين لم يقتلعوا أو لم يهربوا من ديارهم في فلسطين خلال حرب 1948 إلى مواطنين إسرائيليين خانعين أو قانعين بوضعهم كمواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة.
خلال سنوات حكم بنيامين نتنياهو الطويلة، جنحت إسرائيل بشكل متطرف إلى اليمين الشوفيني سياسيًا وقانونيًا، كما يتبين من قانون يهودية الدولة في 2018، والذي يؤكد أولوية اليهود في إسرائيل على حساب المواطنين غير اليهود. خلال هذه السنوات كان نتنياهو وحلفاءه في الأحزاب اليمينية والدينية، مثل افيغدور ليبرمان ونفتالي بينيت، يتهمون الفلسطينيين في إسرائيل بأنهم يشكلون “خطرا وجوديًا” على الدولة العبرية. السياسيون الإسرائيليون يحصدون اليوم ما زرعوه في السابق.
المضاعفات السلبية والبشعة للجولة الأخيرة بين إسرائيل وحركة حماس انتشرت في العالم ووصلت إلى الولايات المتحدة، وتمثلت بمظاهر قبيحة وخطيرة وعنيفة من العداء لليهود في المجتمعات الغربية. فقدت شهدت هذه المجتمعات اعتداءات في وضح النهار ضد أفراد يهود، لمجرد أنهم يهود وتحميلهم مسؤولية سياسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين. هناك تاريخ قديم ومعقد للعداء ضد اليهود في أوروبا، ولهذا العداء أسس سياسية وثقافية ودينية، وأدى عبر التاريخ الحديث في أوروبا إلى كوارث وحروب إبادة واضطهاد منظم ضد اليهود في مجمل القارة الأوروبية، وامتد من روسيا إلى ألمانيا النازية. ولهذا العداء منظريه السياسيين وكان منتشرا في الأوساط الثقافية وحاضرا في النتاج الثقافي والفني في أوروبا. ولكن لا يوجد هناك عداء مماثل لليهود في الولايات المتحدة، كانت هناك تنظيمات يمينية وعنصرية بيضاء تعبر في السابق عن رفضها لاستيعاب اليهود أو الكاثوليك في المجتمع الأميركي.
ولكن جنوح الحزب الجمهوري أكثر فأكثر باتجاه اليمين المتشدد، وخاصة خلال ولاية الرئيس السابق ترامب، ساهم في تأجيج المشاعر المعادية لليهود، والتي وصلت إلى ذروتها في أكتوبر 2018، حين هاجم مسلح كان يهتف بعبارات معادية لليهود المصلين في كنيس قديم في مدينة بيتسبرغ بولاية بنسلفانيا وقتل 11 مصليًا، في هجوم صدم الولايات المتحدة وروّع الجالية اليهودية الكبيرة في البلاد. ولم يحدث أن تعرض يهود الولايات المتحدة لعنف من هذا النوع في السابق. هذا الهجوم جاء في سياق الهجمات التي تعرض لها أميركيون من خلفيات اثنية ودينية مختلفة في السنوات الماضية، مثل السيخ والأميركيين من أصل افريقي واللاتينيين والمسلمين والآسيويين.
خلال الاشتباكات الأخيرة بين إسرائيل وحركة حماس، كان هناك ازدياد ملحوظ في الاعتداءات التي استهدفت مواطنين يهود، ومراكز ثقافية أو دينية يهودية في مختلف أنحاء البلاد، بما في ذلك هجمات في وضح النهار ضد أفراد يهود. مشاعر الكراهية المقززة ضد اليهود طغت على وسائل الاتصال الاجتماعي في الأسابيع الماضية. حرب إسرائيل وحركة حماس، لم تكن السبب الرئيسي وراء موجة العداء لليهود، ولكنها كانت حجة استخدمها المعادون لليهود لنشر سمومهم. ووفقًا لمنظمات يهودية، تعرضت المؤسسات اليهودية مثل المدارس ودور العبادة وغيرها إلى 327 حادث اعتداء في السنة الماضية، وذلك بزيادة 40 بالمئة عن الهجمات التي وقعت في 2019.
هذه بعض المضاعفات النوعية الجديدة في المنطقة وفي العالم للجولة الأخيرة من القتال بين إسرائيل وحماس. غياب الأفق السياسي لحل منصف للنزاع، يعني أن الجولة المقبلة – ومجيئها هو مسألة وقت فقط – سوف تكون أكثر دموية وشراسة وحقدًا في المنطقة وسوف تكون تداعياتها العالمية قاتمة أكثر من أي وقت مضى.