امتدت الحرب المستمرة بين الحكومة اليمنية -المعترف بها من الأمم المتحدة – والمتمردين الحوثيين إلى المجال المالي، بإدخال سلاح القرن الحادي والعشرين: العملات الرقمية. في منتصف ديسمبر/كانون الأول 2019، قام بنك صنعاء المركزي، الذي يسيطر عليه الحوثيون، بمنع اليمنيين، في المناطق التي يسيطرون عليها، من استخدام الأوراق النقدية الجديدة المطبوعة من قبل مصرف عدن المركزي، الذي تسيطر عليه حكومة الرئيس المعزول عبد ربه منصور هادي. كان أمام السكان 30 يومًا لاستبدال الأوراق النقدية الجديدة، إما بأوراق نقدية قديمة أو بالريالات الإلكترونية. يبدو أن مفهوم الريَال الإلكتروني مصيره الفشل من وجهة نظر السياسة الاقتصادية، ولكن وجود هذه التكنولوجيا المالية يخدم هدفًا سياسيًا للحوثيين.
تحرص الحكومات في الاقتصادات المتقدمة في جميع أنحاء العالم على تجربة العملات الرقمية، وخاصة تلك التي تشرف عليها البنوك المركزية. غالبًا ما يعكس تبني العملات الرقمية التوجه نحو مدفوعاتٍ أرخص وأسرع، تعمل على دعم النمو الاقتصادي. تأتي بلدان شمال أوروبا والمدن الصينية، مثل شنغهاي، في طليعة عمليات التحول نحو المجتمعات غير النقدية. في هذه الأثناء، تأمل شركات التكنولوجيا المتعددة الجنسيات في التأثير على صناعة الخدمات المالية، وهذا ما يخيب أمل الجهات المنظِمة العالمية. قام الفيسبوك بإطلاق عملته الاليكترونية: ليبرا، التي يسوقها باعتبارها “عملة رقمية يمكن الاعتماد عليها”، ويمكنها تزويد مليارات الأشخاص بالقدرة على الابتكار في ظل “خدمات مالية مسؤولة”.
آفاق الريَال اليمني الإلكتروني ليست وردية، كما أن الإجراءات المنظمة له ليست أكبر مشكلة تواجه العملة الرقمية. بدلاً من ذلك، يعتبر الترويج للريَال الإلكتروني جزءًا لا يتجزأ من السياسات النقدية التي تسببت في كسر النظام المالي الهش في اليمن، والذي تم تحليله في نشرة اقتصادية مفصلة من قبل مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية. فبدلاً من تيسير وتحسين الوصول إلى النظام المالي في البلاد، يضيف الريَال الإلكتروني درجات جديدة من التعقيد إلى السوق المالي اليمني، ويزيد من فرص الوسطاء في استغلال الخلل في الاقتصاد. يتدافع اليمنيون نحو الاعتماد على العملات الأجنبية، مثل الريَال السعودي والدولار الأمريكي، في حين تواصل قيمة الريَال اليمني انخفاضها.
يمرّ الريَال الإلكتروني بمرحلة تجريبية منذ عام 2018. وعلى الرغم من أن المشروع لا يزال في مراحله الأولى، إلا أن الاستخدام المحدود للعملة الرقمية يوضح أن جدوى الآليات المالية يعتمد، إلى حد كبير، على المصالح الراسخة للسلطات النقدية، والقيود التي تفرضها البيئة السياسية والاقتصادية.
يعتبر اليمن حالة فريدة لإدخال التقنيات المالية. عملة البلاد (الريَال) غير مستقرة، وقيمتها في تراجع. في أواخر يناير/كانون الثاني، تم تداول العملة بمقدار 682 ريالاً يمنيًّا للدولار في عدن، و600 ريَال للدولار في صنعاء. قبل الحرب استقر سعر الصرف عند 215 ريالاً يمنيًّا مقابل الدولار. ووصلت تقديرات التضخم المالي الأولية لأسعار المواد الغذائية في عام 2018 إلى 55٪، وارتفع متوسط التكلفة الشهرية لسلة الغذاء الأساسية بنسبة 112٪ منذ شهر فبراير/شباط 2015، ومدفوعات الرواتب لا تزال غير منتظمة، وتختلف حسب المنطقة الجغرافية.
أدى تفتيت البنك المركزي اليمني -حيث تسيطر الحكومة المعترف بها من الأمم المتحدة على فرع عدن، ويسيطر الحوثيون على فرع صنعاء – إلى ظهور أزمة للسلطة النقدية في البلاد. وجه البنك المركزي في عدن تحذيرًا إلى الشركات اليمنية من الامتثال للحظر الذي فرضه الحوثيون على الأوراق النقدية، والتعامل بالريَال الإلكتروني. وطلبت الحكومة من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ممارسة الضغوط على الحوثيين، لإلغاء الحظر المفروض على الأوراق النقدية، والإجراءات المتعلقة بذلك. وصورت وسائل الإعلام المملوكة للسعودية، مثل صحيفة الشرق الأوسط، الريَال الإلكتروني على أنه محاولة يائسة لحل أزمة السيولة النقدية، وأشارت إلى أنها قد تكون جزءًا من “مشاريع زائفة تروج لها المجموعة”.
يبدو أن ترويج الحوثيين للعملة الرقمية هو مبادرة صادقة، ومع ذلك، يبدو أنها تعكس استراتيجية ضغط قصيرة الأمد، بدلًا من كونها سياسة نقدية طويلة المدى. يتهم الحوثيون البنك المركزي في عدن بإغراق الاقتصاد بأوراقٍ نقدية يمنية حديثة الطباعة ابتداءً من عام 2017. حقيقةً، تشير تقديرات البنك الدولي إلى أن إجمالي المعروض النقدي ارتفع بنسبة 53٪ في عام 2018، مقارنة بـ 1.3٪ فقط في عام 2017. إن قيام الحوثيين بفرض الترتيبات البديلة للعملة -بما في ذلك خيارات العملة الرقمية – يؤكد مجددًا على أن السلطة العليا هى للبنك المركزي في صنعاء، الذي يشرف على المراكز المالية الرئيسية في البلاد.
لا يزال الوصول إلى أي عملة رقمية في اليمن يشكل تحديًا. فالمدفوعات الإلكترونية بحاجة ماسة لأن تأخذ الطابع المؤسساتي، ويتم توسيعها من خلال النظام الأوسع للبنوك اليمنية، حسب قول ديفيد هاردن، الذي أشرف على المساعدات الأمريكية لليمن في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية حتى أبريل/نيسان 2018. أقل من 10٪ من اليمنيين يمتلكون حسابات بنكية، وانقطاع الطاقة الكهربائية والإنترنت شيء شائع. في منتصف شهر يناير/كانون الثاني، تسببت الأضرار التي لحقت بالكابلات البحرية في توقف 80٪ من قدرات الإنترنت في اليمن. تبرز الآن في السوق المنصات المالية المتنقلة، التي لا تتطلب وصولًا إلى الإنترنت، مثل شركة المحفظة الوطنية الإلكترونية. ومع ذلك، فإن التشرذم في طبيعة النظام النقدي في البلاد، سوف يحد من التأثير الإجمالي لهذه المنصات والخدمات.
لم يتبن الحوثيون التقنيات الحديثة بشكل متناسق كليًا، فبعدما استولوا على صنعاء في سبتمبر/أيلول 2014، وقعوا اتفاقية السلم والشراكة الوطنية مع الحكومة المعترف بها من الأمم المتحدة، في محاولة لكبح العنف. تنص الاتفاقية على تطبيق “نظام البصمة البيولوجية في جميع المؤسسات الحكومية والمدنية والعسكرية والأمنية”، بالإضافة إلى سجل بيولوجي جديد للناخبين. ففي حين أن الاتفاقية نفسها لم تدم طويلًا، إلا أنه بالنسبة للريَال الإلكتروني، لاحظ بعض المراقبين أن الحوثيين التزموا، في بداية الأمر، بالمكون البيولوجي، ولكنهم سحبوا دعمهم بعد ذلك. هذا التراجع يثير المخاوف من أن الحوثيين قد يتخلون بغتةً عن الريَال الإلكتروني، ما يجعل حاملي هذه العملة الرقمية عرضة لخسائر مالية كبيرة.
إن انعدام الثقة، ووجود الحد الأدنى فقط من جدوى العملة، يساعدان على توضيح سبب بطء الريَال الإلكتروني في ايجاد زخمٍ له. رفضت العديد من الشركات التي تديرها الدولة خطط دفع رواتب الموظفين بالريَال الإلكتروني، ويمكن لحاملي الريالات الإلكترونية الدفع بها لعدد صغير فقط من الخدمات الأساسية، وهي بالتحديد خدمة الهواتف المحمولة، والمياه، والكهرباء. يزيد وجود الريَال الإلكتروني من الضغط على الحكومة المعترف بها من الأمم المتحدة، التي تعاني بالفعل من ضغوط شديدة لتنفيذ سياسة نقدية متكاملة في ظل وجود البنوك المركزية المتنافسة. ومع ذلك، تؤدي هذه الأداة النقدية في نهاية المطاف إلى تآكل الثقة في النظام المالي اليمني، وتزيد من التعقيدات في اعتماد سياسات نقدية مستقبلية.
غالبًا ما يتم اتهام رواد الأعمال في مجال التكنولوجيا بوضع حلول لمشاكل غير موجودة. لا يحتاج الحوثيون إلى مزيد من البحث عن المشاكل الاقتصادية، لكن من غير المرجح أن يجدوا حلولاً فورية عن طريق عملتهم الإلكترونية حديثة الولادة.