لا تزال منطقة الخليج تعيش مضاعفات القرار الكارثي للرئيس العراقي صدام حسين، غزو الكويت قبل ثلاثين سنة. الاحتلال العراقي للكويت انتهى بعد سبعة أشهر، عندما قادت الولايات المتحدة ائتلافاً دولياً دحر الجيش العراقي، ووضع العراق على طريق بطيء وطويل لانهيار اقتصادي وسياسي وأمني، ونهب منظم لثروات البلاد، واستقطابات مذهبية وأثنية، وفوضى داخلية، وانعدام يقين، لا تزال تجثم على اكتاف العراقيين حتى اليوم. قرار الرئيس جورج بوش الأب وقف الحرب بعد 100 ساعة من العمليات العسكرية البرية، ورفضه احتلال بغداد أو اسقاط صدام حسين من الحكم، مهد الطريق للرئيس جورج بوش الابن “لاكمال” ما بدأه الأب حين غزا بدوره العراق في 2003.
أي تحليل دقيق لجذور وأسباب المشهد الراهن في منطقة الخليج يقتضي العودة إلى تاريخ غزو آخر اتخذه أيضاً والد القرارات الكارثية في المنطقة: صدام حسين. في سبتمبر 1980، بدأ صدام حسين أطول حرب نظامية في القرن العشرين، حين غزا إيران، الدولة التي تزيد مساحتها ثلاث مرات عن مساحة العراق، ويفوق عدد سكانها ثلاثة أضعاف سكان العراق. صدام حسين افتقر إلى ثقافة تاريخية، كان يجب أن ترغمه على تفادي غزو دولة تعيش في مخاض حركة ثورية، وهو خطأ وقعت فيه دول أوروبية، حين قررت غزو فرنسا بعد ثورتها في 1789، ما أدى إلى بروز ظاهرة الامبراطور نابليون بونابارت، وما أدت إليه الحروب المعروفة باسمه. أو قرار بعض الحكومات الأوروبية غزو روسيا بعد اندلاع الثورة البولشفية في 1917، وهو قرار أدى إلى تعزيز الثورة الشيوعية، بدلاً من انهيارها. المجتمعات التي تعيش في لحظة ثورية لا تتصرف مثل المجتمعات التي تعيش في ظروف طبيعية، بما في ذلك قدرة المجتمعات التي تعيش في مخاض الثورة على تحمل خسائر وأوجاع لا تستطيع المجتمعات الأخرى تحملها.
لا الغزو العراقي لإيران حقق ما كان يريده نظام صدام حسين، ولا الغزو الأميركي للعراق حقق ما كانت تريده إدارة الرئيس جورج بوش. الحرب التي شنها صدام حسين ضد الثورة الإيرانية أدت إلى تعزيز الثورة وبقائها في السلطة، كما أن الاطاحة بنظام صدام حسين ساهمت في بروز إيران كدولة تسعى إلى فرض هيمنتها على منطقة تمتد من باب المندب إلى بيروت. حروب صدام حسين ضد إيران والكويت أدت إلى تدمير العراق اقتصادياً، وتفكيكه سياسياً واجتماعياً، وتحويله إلى طوائف ومذاهب وأثنيات، تتصارع فيما بينها في أرض خصبة لخلق ظواهر غريبة وبشعة، مثل ظاهرة ما سمي “بالدولة الإسلامية في العراق والشام” الدموية. حتى الظواهر السياسية التي خلقتها الحرب العراقية-الإيرانية وأبرزها “مجلس التعاون الخليجي” كرد دفاعي سياسي وعسكري لدول الخليج، لم تتطور وفقاً للآمال التي علقت عليها آنذاك.
منذ سبتمبر 1980 ومنطقة الخليج والمشرق تعيش في ظل حروب وتمخضات داخلية دموية أدت إلى التضحية بمئات الألاف من الأبرياء، وتدمير اقتصاديات دول تمتلك ثروات طبيعية وبشرية، كان يجب أن تضع هذه المجتمعات في مرحلة متقدمة من النمو الاقتصادي والاجتماعي، لو توفرت لها قيادات رصينة ومارست الحوكمة العادلة والخاضعة للمساءلة. هذه سردية مأساوية لسلسة حروب بدأت في سبتمبر 1980، وأدت إلى ظاهرة حرب تلد أخرى. بهذا المعنى غزو الكويت هو خاتمة غزو إيران. بعد ثمانية سنوات عجاف من حرب مكلفة ضد إيران، وجد العراق نفسه بلداً مفلساً ومثقلاً بالقروض التي حصل عليها، خلال هذه الحرب الطويلة، من جيرانه العرب ومن الخارج، وبحاجة ماسة للإنفاق على جيش ضخم، وإعادة بناء اقتصاد راكد.
هكذا رأى صدام حسين، الطاغي، الذي كان يدّعي انه حامي “البوابة الشرقية” للعالم العربي، والذي أقنع نفسه بأنه أنقذ دول الخليج من الثورة الإيرانية، أن هناك ثروة في الكويت وأنه لسارقها. طبعاً، غزو الكويت من قبل شقيقته العربية في الشمال، كان مقدمة لحرب تحريرها. بعد هجمات سبتمبر الإرهابية في 2001 ضد الولايات المتحدة، والحرب التي شنها بعد شهر الرئيس جورج بوش الابن ضد افغانستان وتنظيم القاعدة، أقنع الرئيس بوش وبعض مساعديه أنفسهم أنهم بحاجة إلى قلب المعايير وموازين القوى في المنطقة رأساً على عقب من خلال غزو العراق، وإقامة نظام “ديموقراطي” موالٍ لواشنطن في بغداد. التفكير السائد في إدارة الرئيس بوش آنذاك هو أن النظام في بغداد سوف يسقط بسرعة، وأن أغلبية السكان من الشيعة والأكراد سيرحبون بسقوط طغيان نظام البعث، وسيقيمون حكومة تمثيلية في دولة عربية رئيسية تختلف عن حكومات المنطقة، وتتحالف مع واشنطن ضد إيران، وتساعد الولايات المتحدة في تقليص النفوذ السعودي في المنطقة. الديموقراطيون والليبراليون، الذين كان يبحث عنهم الرئيس بوش على ضفاف نهر دجلة لم يخلقوا بعد، على الأقل بأعداد كبيرة.
أظهر العراق، وقبله افغانستان، مرة أخرى محدودية القوة العسكرية الأميركية، ومحدودية خلق حقائق سياسية ثابتة في أرض بعيدة عبر القوة العسكرية. وحدهم الأكراد، ومعهم قلة من الديموقراطيين العراقيين، أثبتوا أنهم حلفاء صادقون لواشنطن، مع أنها خذلتهم عندما تغاضت (خلال ولايتي بوش الابن وباراك أوباما) عن الممارسات المذهبية المشينة، على سبيل المثال خلال الحكم الطويل لرئيس الوزراء نوري المالكي. بعد 17 سنة من اسقاط نظام صدام حسين، إيران هي الدولة الخارجية ذات النفوذ الأوسع في العراق، وليس الولايات المتحدة.
غزو العراق للكويت عزز الأنماط العسكرية في الخليج، والتي بدأت عقب الحرب العراقية-الإيرانية، أي عسكرة المنطقة، وبدء عهد الانفاق العسكري الهائل في جميع دول المنطقة، وتعزيز الوجود العسكري الأميركي في الخليج. قبل سبتمبر 1980 كان الوجود الأميركي في منطقة الخليج محدوداً، ويتمحور حول القاعدة البحرية في البحرين. وعندما بدأت الولايات المتحدة بتنظيم ما سمي انذاك “قوات التدخل السريع”، كانت بذلك تشير إلى الوجود العسكري “في الأفق” أي في منطقة بحر العرب والمحيط الهندي القريبة من مياه الخليج. هذا الانتشار كان وفقاً لمقولة، قيل إن مسؤولاً خليجياً قالها لمسؤول في وزارة الدفاع الأميركية، مفادها “نريدكم أن تكونوا كالرياح، نريد أن نشعر بكم، ولكننا لا نريد أن نراكم”.
الحرب العراقية-الإيرانية، وخاصة الغزو العراقي للكويت، قلب هذه المعادلة رأسا على عقب. الأميركيون أصبحوا في كل مكان. ولكن هذا الوجود المكثف لم يعد مضموناً. خلال ولايته الثانية، لخّص الرئيس السابق باراك أوباما سياسته في الخليج بهدف رئيسي واحد، التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران. وهذا ما فعله في 2015، بمشاركة فرنسا وبريطانيا وألمانيا وروسيا والصين. هذا الاتفاق قوضه بسرعة خلفه دونالد ترامب.
الاتفاق النووي تم في سياق تجاهل الرئيس أوباما، بل رفضه مواجهة النفوذ الايراني التخريبي في العراق وسوريا ولبنان، كما نصحه بعض مساعديه، لأنه اعتقد أن ذلك سيؤثر سلباً على المفاوضات مع طهران. هذا الاخفاق ساهم في تعزيز نفوذ إيران في هذه الدول إضافة إلى اليمن. الرئيس أوباما سحب القوات الأميركية من العراق في 2011 بشكل مبكر، الأمر الذي خلق فراغاً عسكرياً وسياسياً ساهم في بروز ظاهرة “الدولة الإسلامية في العراق والشام”. الرئيس السابق كان له موقف سلبي من دول الخليج، التي اتهمها بأنها تستغل الحماية الأميركية، وطالبها بتحمل المزيد من مسؤوليات الدفاع عن المنطقة، في مؤشر بأنه يريد تخفيض الوجود العسكري في المنطقة. الرئيس أوباما كان يستعجل الخروج من منطقة الخليج، لكي “يتحول” أكثر إلى الاهتمام بشرق آسيا، وهي المنطقة الأهم للولايات المتحدة الآن، اقتصادياً واستراتيجياً. خلال ولايتي الرئيس أوباما، سمعت من أكثر من مسؤول أميركي، من بينهم وزير الدفاع آنذاك روبرت غيتس، كلاماً نقدياً لحلفاء واشنطن في مجلس التعاون الخليجي، لعدم قدرتهم أو استعدادهم لإقامة نظام دفاعي صاروخي موحد ضد إيران.
ووفقاً لمسؤول أميركي سابق في وزارة الدفاع، الرئيس الذي سينتخبه الأميركيون في الثالث من نوفمبر المقبل، سيقوم بتخفيض عدد القوات الأميركية في منطقة الخليج. ويشير المسؤول إلى أن الرئيس ترامب، في حال التجديد له لولاية ثانية، سوف يقوم بسحب جميع أو معظم القوات من العراق، وهو ما حاول أن يحققه خلال ولايته الراهنة، كما يريد تخفيض القوات الأميركية المنتشرة في دول الخليج، ومطالبة هذه الدول بتحمل المزيد من نفقات هذه القوات. ويرى المسؤول السابق نمطاً مماثلاً في حال انتخاب المرشح الديموقراطي جوزيف بايدن، أي تخفيض الانتشار العسكري في المنطقة، وربما محاولة تخفيف التوتر العسكري والسياسي مع إيران. وهناك رأي سائد، في أوساط المسؤولين السياسيين والعسكريين في وزارة الدفاع، يرى أن سياسات الصين العدائية في شرق آسيا وتوسيع القوات الصينية، خاصة البحرية، وتحدياتها المتزايدة لمصالح واشنطن وحلفائها في المنطقة، تتطلب اهتماماً أميركياً مكثفاً، واستثماراً عسكرياً متزايدًا في تلك المنطقة الحساسة، ما يتطلب تخفيضاً للانتشار العسكري في الشرق الاوسط.
بعد أكثر من أربعين سنة على بدء الحرب العراقية-الإيرانية، وبعد سبعة عشر عاماً على الغزو الأميركي للعراق، لا تزل إيران محاصرة اقتصادياً، وتعيش في ظل نظام شمولي، يواصل بسط هيمنته على المنطقة، ولا يزال العراق مفككاً سياسياً واجتماعياً، وفقيراً رغم ثرواته الطبيعية، وبعيداً جداً عن “الرؤية” الديموقراطية، التي تمناها له جورج بوش الابن. ولا تزال منطقة الخليج بأكملها تبحث عن الأمن المفقود، وهي تراقب بقلق الولايات المتحدة، وهي تخفض تدريجياً من حضورها العسكري، وربما أيضاً من اهتمامها السياسي بمنطقة الخليج.